مقالات وآراء سياسية

قراءة في دفتر الأزمة السودانية …!

احمد بطران عبد القادر

مما لا شك فيه ان لشعبنا الصبور رصيد نضالي وافر في مقاومة الديكتاتوريات لا يضاهيه نضال معظم دول العالم اليوم وكان عبر قواه الحية وطلائعه المستنيرة في مكوناته السياسية والمهنية يوقظ الجماهير ويحركها للانتفاض والثورة وكانت للأحزاب السياسية والنقابات المهنية والاتحادات الطلابية أدوار كبري في صناعة الثورات وقيادتها والانتصار لاتجاهاتها بتكوين التحالفات التي تحمل الرؤية والهدف والمنهج وقد كان تحالف قوي إعلان الحرية والتغيير واحد من أهم وأعظم هذه التحالفات وقد حقق هدفه بازاحة النظام المباد الا ان هذا التحالف بعد انجاز التغيير بدأ يتصدع وتفشت فيه ظاهرة الإقصاء وأصبحت تسيطر علي تفكير الكثيرين من قادته وكنا قد حذرنا من خطورة هذا المسلك عبر العديد من المقابلات والمقالات الصحفية واللقاءات الثنائية مع مكونات قوي الثورة لإدراكنا ان هذا الامر ربما يوقف قطار الثورة في منتصف الطريق عن بلوغ غايات الوصول للنهايات المأمولة المنتجة ويعيق  مشاريع التغيير والإصلاح البناءة والنهضة التنموية بتعميق أسباب الفرقة والاختلاف .

و في ثورة ديسمبر المجيدة قاد هذا التحالف عبر طلائعه المثقفة وشبابه الحر الحراك الثوري وشاركت جموع الجماهير في المواكب والاحتجاج و العصيان المدني والإضراب العام ضد نظام الثلاثين من يونيو الاجرامي حتى اسقطته بوحدة شعورية فريدة وتوافق تام الا تفاوض مع العسكر وإنما تسليم السلطة لقوي الثورة وقد نصح دكتور علي محمود حسنين بعدم التنازل عن هذا الأمر ولم يستمع لنصحه احد ومضت قوي إعلان الحرية والتغيير في التفاوض مع العسكر الذي كانت رؤيته تتوافق مع مصالحه الطبقية في تشكيل حكومة تصريف أعمال ويذهب الجميع الي صندوق الاقتراع بعد عام للحيلولة دون محاسبة ومحاكمة منسوبي النظام البائد وتفكيك تمكينهم من مفاصل السلطة
الا ان الشوارع الصاحية ظلت متمسكة بتكوين حكومة مدنية انتقالية وبعد تضحيات نفيسة وصمود اسطوري وعمل جماهيري ضاغط خصوصا مواكب ٣٠يونيو ٢٠١٩ م وقع العسكر بوساطة دولية مع التحالف علي الإعلان السياسي ثم الوثيقة الدستورية وتشكلت الحكومة الإنتقالية برئاسة الدكتور عبدالله ادم حمدوك .

لم يكتب لهذه الحكومة النجاح فقد سارت ببطء شديد وخطى متعثرة في تنفيذ مطلوبات الانتقال مما عرضها للسخط الشعبي وتعالت الأصوات هنا وهناك وخرجت  الجماهير الغاضبة ضد حكومة الثورة ..! ودعت لتصحيح مسارها لكن الانحدار لهذا الواقع المؤلم لعبت فيه أيادي عابثة  مكنت قوي معادية للثورة من السيطرة علي صناعة القرار وإعاقة كل الخطوات التي تؤدي الي استقرار الفترة الإنتقالية وانجاز مهامها وتقف من خلفها هذه الجهات بشكل مباشر
١- اللجنة الأمنية للنظام السابق :
كانت من إيجابيات الوثيقة الدستورية انها حددت هياكل سلطة الانتقال ومهامها واختصاصاتها بشكل مقبول ومنحت قوي الحرية والتغيير فرصة تشكيل منظومة الحكم حيث تكون بموجبها المجلس السيادي بأغلبية مدنية (٥+١) ومجلس وزراء مدني ومجلس تشريعي بنسبة اغلبية مريحة لقوي الحرية والتغيير ٦٧٪ يكمل باقيه٣٣٪ من قوي الثورة الغير موقعة علي إعلان الحرية والتغيير يضاف الي ذلك تعيين حكومات الولايات والمفوضيات المختصة في المجالات الحيوية التي من شأنها تغيير الخارطة السياسية وترجيح كلفة ميزان إدارة البلاد بطريقة مدنية تقربنا من التحول الديمقراطي لكن اللجنة الأمنية اختطفت المشهد ومارست نشاط سياسي واضح في التعبئة والحشد لإنتاج حاضنة بديلة طوع بنانهم وتحركت بسرعة لتعطيل كل أدوات التغيير وكأنها تنكث عمليا عن ما جاء في الوثيقة الدستورية حيث اتخذت قرارات مخالفة لها ومتعارضة مع مصلحة الانتقال وتمددت بصورة كبيرة واصبحت صانعة للقرار ومنفذة بل وضعوا أنفسهم في خانة البديل المنافس للقوي السياسية وسخروا كل عناصر القوة في الدولة لإدارة المشهد السياسي لصالح تثبيت أركانهم وتواصلوا مع القوي الخارجية وتبنوا ملفات مهمة وخطرة علي الامن القومى بدون تفويض مثل التطبيع مع إسرائيل وعقد الصفقات العسكرية مع روسيا وادخلوا البلاد في حرب مفاجئة مع الجارة الإثيوبية كما تواصوا كذلك مع القوي المجتمعية المتنوعة (الإدارات الاهليه والطرق الصوفية وبقايا النظام القديم) واغروها بشراء الذمم للاصطفاف معهم ضد الحرية والتغيير التي حملوها مسؤولية الفشل وزعموا انها انما جاءت لتفيذ أجندة أجنبية لتقسيم السودان ونشر العلمانية والإلحاد وفتح البارات ودور الدعارة وفعلوا كل شيء يمكنهم فعله لإفشال التجربة الانتقالية وتقديم انفسهم بصورة القادر علي حسم الفوضي التي صنعوها بتجاوزهم واختراقهم للوثيقة الدستورية ثم خططوا لانقلابهم المشؤوم ونفذوه بعدما شقوا الصف الثوري ووضعوا جنرالات الحرب تحت خدمتهم واوقفوا عملية إكمال السلام الذي اختطفوا ملفه وجعلوه حكرا عليهم يضاف الي ذلك هيمنتهم علي الموارد المالية بنسبة ٨٢٪ واستمرار سياسية قتل الثوار الشرفاء وقمع المتظاهرين بالقوة المميتة وخلق سيولة أمنية وتأجيج الصراعات الجهوية ودفع البلاد للانهيار التام .
٢- رئيس الوزراء : لم يكن اختيار  الدكتور عبد الله حمدوك لرئاسة حكومة الثورة نابع من قناعة تحالف قوي الحرية والتغيير به وإنما هنالك أيادي داخلية وخارجية صنعته وقدمته للجماهير التي قبلت به ودعمته بصورة منقطعة النظير الا انه لم يكن بقامة الثورة كما كانت له اجندة خاصة  متناقمة مع فوضي العسكر وبرنامج مغاير لرؤية الحرية والتغيير في ارساء وترسيخ دعائم  الحكم المدني والتحرر الوطني القومى قام بتنفيذه حرفيا حيث أدار ظهره للحرية والتغيير التي فقدت قدرة السيطرة عليه كما امتنع عن الالتقاء بالثوار ومخاطبة مواكبهم المطلبية التي طرقت ابواب قصره في رئاسة مجلس الوزراء في مناسبات عدة لكنه لم يحتفل بها كثيرا كما صمت عن سياسة القتل التي تمارسها الأجهزة الأمنية وفتح المجال واسعا امام توسع نفوذ العسكر وترك بيدهم الملفات المهمة واشركهم في إدارة الأزمة الاقتصادية وتصريف شئون الحكم بالولايات واخيرا منحهم فرصة للاستمرار بتوقيعه علي الاتفاق الإطاري في ٢١نوفمبر٢٠٢٢م مع قائد الانقلاب .
٣- القوي الخارجية : لا تزال هنالك قوى إقليمية ودولية تعمل علي زعزعت الأمن والاستقرار في السودان ولا ترغب في بناء نظام ديمقراطي حقيقي فيه يكمل مهام الاستقلال ويقود البلاد الي نهضة تنموية شاملة لأنها مستفيدة من الأوضاع الحالية في الحصول علي كل ماتريده من السودان بسهوله وبحماية السلطة القائمة وقد شملت مطامعها في كل موارده البشرية والطبيعية إضافة لموقعه الاستراتيجي وموانيه وليتها علمت ان شعب السودان يتطلع لعلاقات خارجية حكيمة متوازنة تقوم علي الاحترام المتبادل والندية والتعاون المشترك بين كل البلدان ولا تتدخل في شئونها وتحافظ علي الامن والسلم الدوليين لكنه لن يسمح لكائن من كان ان يستغل امكانياته ويتدخل في شئونه ويدعم إنتاج شمولية مستبدة تقوده الي حافة الحروب والاقتتال وأنه ماضي بثبات نحو إقامة ديمقراطية تعددية حقيقية ودولة مدنية ومنظومة حكم راشد قدم في سبيلها تضحيات نادرة تمثلت في دماء شبابه الشهداء ودموع الآباء والأمهات وان هذا حقه الطبيعي في حياة كريمة لن تستطيع ان تمنعه إياها سطوة العسكر او تأثيرات الخارج مهما بلغت وعظمت فهو شعب مناضل ذو تاريخ عريق في كسر إرادة الغاصبين وردع طموح الطامعين والاجدى والانفع لهذه القوي الإقليمية والدولية ان تنحاز لخيارات شبابه والا ستفقده للأبد .
٤- الحرية والتغيير : يمثل اضخم تحالف في التاريخ الحديث لقيادة التغيير وإعادة بناء الوطن لكنه تعرض لانقسامات حادة وصراعات مريرة سمحت بالتدخلات الخارجية في الشأن الوطني وتصدر العسكر للمشهد كما احبطت الشارع الثوري وافقدته الثقة في القوي الحزبية وشركاء الكفاح وقد تولت الجبهة الثورية  مهمة شق الصف الوطني بوقوعها في احضان العسكر و وقوفها الي جانبهم متحالفة معهم وعبرها تم تمرير مشروع إفراغ الثورة من محتواها وتعطيل تشكيل هياكل السلطة الانتقالية وقد حصرت همها في الحصول علي اكبر نصيب من كيكة الحكم التي سرقت واختطفت بواسطة قوي خفية تتحرك بحرية لتشكيل خارطة المستقبل في البلاد بما يتوافق مع مصالحها وتمكين عناصرها وإعاقة مشروع التغيير
غير ان قيادة تحالف الحرية والتغيير متمثلة في المجلس المركزي اقصت قوي ثورية معتبرة ومؤثرة في المشهد مثل مجموعة ٩+١ والحزب الشيوعي وتجمع المهنيين الذي كان يمثل قيادة رمزية للثورة ورفضت ترتيب بيتها الداخلي وإعادة هيكلة اجهزتها لتستفيد من إمكانات وقدرات قوي الثورة في التصدي لقوي الردة واحباط مخططاتهم في مهدها وهكذا تشاغلت بصراعاتها الداخلية وتركت مساحة واسعة تحركت فيها الثورة المضادة بحرية وتمكنت من الاصطفاف مع قوي محسوبة ضمن قوي الثورة واغراء العسكر بالاستيلاء علي السلطة كليا تحت مزاعم تصحيح مسار الثورة .
ه- قوي الشارع الثوري: من المؤكد ان هنالك قوي ثورية غير حزبية منظمة في لجان المقاومة والاجسام  المهنية الثورية متمسكة بقضية التحول الديمقراطي وانفاذ كل مطلوبات التغيير لذا ظل الشارع الثوري متقد الاشتعال والاكثر حوصا على تحقيق شعارات الثورة ولكن بطبيعة تكوينها الأفقي و عدم توافقها علي انتاح قيادة ملهمة تغطي علي خلل القيادة الحزبية لم تفلح في السيطرة علي الأوضاع وتحتاج لعمل سياسي فاعل مؤثر يوازي خطها الثوري الرافض العودة للوثيقة الدستورية وكل ما ترتب بموجبها من شراكة مزلة مع العسكر واتفاقية سلام مخلة بالأمن القومي والتوافق الوطني وأوضاع اقتصادية خانقة وعلاقات دولية مهينة وعدم تفكيك لبنية النظام البائد وغيرها من قضايا الثورة والدولة التي تحتاج للحسم الثوري الفوري بوسائل ناجعة حتي لا نفقد الدولة ونحن نعمل استرداد الثورة .

٦- الرأسمالية الطفيلة وعناصر النظام المندحر : هنالك قوى سياسية ومجتمعية معادية لحركة التغيير بطبيعة تكوينها الطبقي وارتباط مصالحها مع النظام القديم حاولت ان تشكل حاضنة للعسكر وتفجير الأوضاع في ولايات البلاد المختلفة بالصراعات الجهوية والمطلبية لخلق حالة من التوتر والسيولة الأمنية وقد تحالفت مع الفلول وحاولت تقديم نفسها كداعم للجيش ودعوته صراحة ان يستولي علي السلطة ويجهض الثورة
رغم تفرق قوي الثورة الا انها الأكثر وعيا بكل هذه المخاطر لذا يتوجب عليها ان تترك خلافاتها جانبا وتصطف مجددا وتوافق حول رؤية واضحة تجنبنا مزيد من إهدار الوقت والجهد تعيد الثورة لمسارها وتسقط الإنقلاب وهذا لا يتأتى الا تحت تحالف ثوري عريض لا يقصي احد من قوي الثورة فلا الأحزاب السياسية لوحدها قادرة علي هزيمة الإنقلاب ولا المقاومة لوحدها قادرة علي فعل شيء مهما تنظمت ومهما ضحت واطالة امد الصراع له مخاطره علي مستقبل الثورة والدولة أولها الاستغناء عن السلمية والجنوح نحو العنف فالعنف يولد عنف اخر والإحباط يفجر الطاقات البشرية السالبة
ولئن كنا قدمنا تضحيات غالية ونريد حصد ثمارها لصالح الثورة والدولة فإننا مطالبون قبل غيرنا كقوي ثورة بضرورة هزيمة الإنقلاب العسكري وإقامة دولة مدنية ديمقراطية علي اساس المواطنة بهوية سودانية ثم كتابة دستور انتقالي متوافق عليه وفترة انتقالية جديدة تؤسس لحكم مدني ديمقراطي حقيقي لا شراكة للعسكريين فيه ولا تأثير للمحاور الإقليمية والدولية عليه والا سنفقد الثورة والدولة وحينها لن تبكي علينا البواكي ولن تغفر لنا الأجيال القادمة ولن يرحمنا التاريخ وسيسجل اننا اضعنا بغفلتنا اعظم ثورة سلمية في اعرق دولة حضارية.

[email protected]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..