في يوم المرأة العالمي 2022
المرأة كاملة عقل - الثورة ووعد الإنسانية


يمر يوم المرأة هذا العام والمرأة السودانية في قلب الثورة السودانية تواصل مشاركتها التي بدأتها في ديسمبر 2018 بشكيمة وعزيمة لا تعرف التهاون أو الانكسار . ومما يميّز ثورة ديسمبر على ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة مارس / أبريل 1985 هو هذا البروز الجبّار وهذه الطفرة الباسلة للمرأة من الهامش لقلب العمل الثوري ومشروع التغيير . وهكذا وبين عشية وضحاها وجد السودانيون أنفسهم يتحدّثون بلغة جديدة تكسوها صبغة وعي نسوي جمعي لا يرى غرابة في المطالبة بتمثيل المرأة على كل مستويات صناعة القرار .
هذا تحوّل يعكس مكسبا تاريخيا لابد لقوى التغيير أن تعضّ عليه بالنواجذ وأن تسهر عليه لأن القوى المعادية للمرأة ستعمل بدورها ليل نهار لتنتكس بوضعها وتفرض عليها استمرار الخضوع لرؤيتها وتشريعاتها. ولقد كان من الطبيعي أن يؤكّد مقترح ميثاق تأسيس سلطة الشعب الذي قدّمته لجان مقاومة ولاية الخرطوم (يناير 2022) على ضرورة حماية مكتسبات المرأة وحقوقها ويقترح إنشاء مفوضية المرأة والعدالة النوعية كمفوضية مستقلة ضمن مفوضيات فترة الانتقال الديمقراطي . ولا شك أن هذه المفوضية ستكون الأداة الفعّالة لمراجعة كل الأوضاع التي تميّز ضد المرأة وتنحطّ بها لوضع مواطن الدرجة الثانية .
إن ما أثبتته ثورة ديسمبر وما زالت تثبته الآن عبر تجلّيها اليومي المستمرّ في شوارع السودان أن جيلا جديدا من النساء يتميّز باستعداده الصدامي قد وُلِد . ولعل تلك اللحظة التي جرت فيها رفقة عبدالرحمن لتلتقط القنبلة المسيلة للدموع وتردّها لنحر من أطلقوها ، تلك اللحظة – اللمحة الخاطفة، لحظة “صائدة البمبان”، لعلها من أكثر اللحظات تجسيدا دراميا لذلك الاستعداد الصدامي للمرأة وهي تذوب في لهب الثورة. وكانت هناك أيضا “اللحظة الشاعرية” التي جسّدتها آلاء صلاح عندما وقفت عالية فوق الرؤوس لتنشد لمجد الجدّات الكنداكات . وهي لحظة طارت ومضة شرارتها لكل أقطار المعمورة لتصبح آلاء صلاح أيقونة ورمزا .
ولقد وجد جيل المرأة الجديدة صوته لأنه اكتشف هُويته التي لخصها رمز الكنداكة . هبّت الكنداكة وكأنها عنقاء سودانية انبعثت من ترابها النوبي لترفع المرأة لمقام جديد هو مقام المرأة المساوية للرجل والقادرة على أن تكون قائدة تلهم المجتمع وتقوده وتسوسه. انبعث رمز الكنداكة نارا تحرق قهر الحاضر وتمييزه، وهو قهر ظلّ سدنته دائمي الجهد وهم يحفرون في وعي المرأة ليغرسوا فيه عقدة نقص ودُونِيّة فرعها ثابت وأصلها في السماء .
إن حقوق المرأة تواجه واقعا مناوئا وعصيبا في كل البلاد والمجتمعات المسلمة. إلا أن هذا الواقع يصبح أكثر عداء وشراسة في البلاد التي تؤسس نظامها السياسي والقانوني على مشروع بعث الدولة الإسلامية ، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية وفي إيران وفي السودان بعد انقلاب الحركة الإسلامية في يونيو 1989. والقاسم المشترك الذي يجمع كل البلاد المسلمة أنها تعتمد الشريعة فيما يتصل بقوانين الأحوال الشخصية، وهو قاسم ظل مشتركا حتى إبّان الفترة الاستعمارية لأن الإدارة الاستعمارية تخوّفت من ردّة الفعل لو أخلّت بعلاقات القوى النوعية التي فرضتها الشريعة. وعلاوة على قوانين الأحوال الشخصية فإن ما يميّز البلاد التي بعثت المشروع الإسلامي أنها ألزمت نفسها بإحياء أشمل للشريعة وفرضت عقوبات الحدود والقِصاص .
وبذا فإن التحدّي المباشر الذي يواجه المرأة السودانية لا يختلف عن التحدّي الذي يواجه النساء في سائر العالم الإسلامي وهو تحدّي التمييز الذي تفرضه الشريعة وخاصة على مستوى قوانين الأحوال الشخصية . وهذه معركة كبيرة سلاحها الأساسي هو الوعي . إن الوعي يدفعنا في اتجاه قيمتين لا تتحقّق إنسانيتنا بدونهما : الحرية والمساواة . لا بد من تغيير قوانين الأحوال الشخصية لتقوم أسرة ذات بنية صحيحة تتساوى فيها المرأة والرجل ، وخاصة وأن الأسرة في ظل قوانين الشريعة تعاني من ثلاثة اختلالات أساسية هي حقّ الرجل في الطلاق المنفرد ، واحتمال العنف المتمثّل في حقّه في ضرب زوجته إن وقع منها ما اعتبره نشوزا ، وحقّه في التعدّد . ولقد كان من الطبيعي أن تؤدي هذه الاختلالات لمحاولات المشرّعين في بلاد مختلفة للتدخل للحدّ من تغوّل الزوج وتعسفه ، إلا أن هذه المحاولات الإصلاحية تظل ذات طبيعة ترقيعية لأنها لا تمس التمييز الأصلي الذي تنطوي عليه قوانين الشريعة.
إن المعركة ضد كل مظاهر التمييز الواقعة على المرأة تبدو على السطح وكأنها معركة المرأة وحدها وأن الرجل لابد أن يكون عدوا دائما لأنه هو الذي صنع ذلك التمييز الذي يصبّ في مصلحته ويرسّخ امتيازه الذكوري ويوطّد سلطته . إلا أن كل الذين يحملون أحلام التغيير من نساء ورجال ويعملون على تحقيقها يعلمون أن الحرية لا تتجزأ وأن الرجل لن تتحقّق حريته إلا بحرية المرأة كما أن المرأة لن تتحقّق حريتها إلا بحرية الرجل . هذا الوعد بالحرية الكاملة هو الوعد الذي تحمله كل امرأة في داخلها ويحمله كل رجل في داخله لأنه وعد إنسانيتنا التي تتجاوز النوع .
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مشروع الدراسات النقدية للأديان .
