فولكر بیرتس : حُمْق وخداع وأسئلة غیر مبصرة !!

محمود محمد یاسین
او بیرتس یرید ادخال “الحضارة” للسودان
توطئة فیما یخص التطورات السیاسیة في السودان فانھ من الغفلة عزلھا عن الصراع الحالي المضطرم بین الدول
الكبرى على الساحة العالمیة ؛ ومن دوافع ھذا الصراع استھداف الدول الفقیرة بتصدیر الازمة التي یعیشھا النظام الرأسمالي لھا عن طریق السیطرة علیھا بنزع سیاتھا بالكامل حتى ولو بالاحتلال العسكري المباشر.
ھذا ھو المصیر الذي تواجهه الدول الفقیرة في عالم الیوم الذي تنضج فیه الظروف المؤدیة لاتساع نطاق الحروب المدمرة ؛ وتتسارع وتیرة التسلیح بالدول الاستعماریة الكبرى بصورة ملفتة ، وكأمثلة مثلا میزانیة أمریكا العسكریة تبلغ 590 ملیار دولار تزید سنویا بأكثر من %3 من قیمة الناتج المحلى الإجمالي ؛
وفى تحول لافت لسیاستھا العسكریة التي اتسمت بالتحفظ منذ سقوط ھتلر ، قررت المانیا، مباشرة بعد الحرب التي شنتھا روسیا على اكرانیا في فبرایر الماضي ، تخصیص 100 ملیار یورو (112 ملیار دولار) لتسلیح الجیش بالإضافة لتخصیص %2 من الناتج المحلى الإجمالي للغرض نفسه .
في السودان یدور صراع بین أمریكا وروسیا حول السیطرة على البحر الأحمر. فروسیا في یدھا اتفاق مع حكم الإسلامیین المباد یسمح لھا إقامة وجود عسكري في البحر الأحمر ، وامریكا منحتھا الحكومة الانتقالیة في 2021 اتفاقا مبدئیا یسمح لھا ان تكون المنطقة مقرا للقیادة العسكریة الأمیركیة في إفریقیا (الآفریكوم).
كما یحتدم الصراع بین الدولتین بالإضافة الى فرنسا حول السیطرة على منطقة الساحل الأفریقي الواقعة بین البحر الأحمر وشواطئ المحیط الأطلسي الشرقیة (الأفریقیة). والصراع بین الدولتین یجرى على خلفیة أن اھتمام أمریكا بالسودان قدیم والحكومة الانتقالیة عززت الوجود الأمریكي بشكل ملحوظ بالخضوع التام لمؤسسات التمویل الدولیة الخاضعة لإرادة الإدارات الامریكیة والاوربیة . كما ان اتجاه الحكومة الانتقالیة
الحثیث للتطبیع التام مع إسرائیل یعطى امریكا رافعة مھمة لإحكام سیطرتھا على السودان .
ان السودان یقع في قلب ھذا الصراع والنشاط السیاسي السوداني لا یستقیم ولن تكن له فعالیة الا بوعي ان الدول المتصارعة على السودان لن یقبل أي منھا ان یتصدر الحكم من لیس في طاعتھا ورھن اشارتھا.
المقال
قلنا في مقال سابق ان فولكر بیرتس ، رئیس بعثة الأمم المتحدة في السودان كان مخادعا وھو یرید اقناعنا بأن بعثة“ یونیتامس-UNITMAS“ لیست تدخلاً أجنبیاً في السودان وإنھا جاءت لدعم المرحلة الانتقالیة في
السودان بطلب من الحكومة السودانیة ؛ وفى دحض كلا الادعاءین ، ذكرنا أن استدعاء الأمم المتحدة للسودان
تم بمبادرة منفردة ، في غیاب تمام للقوى السیاسیة السودانیة ، لرئیس وزراء الحكومة الانتقالیة في ینایر
2020 بالاشتراك المباشر مع السفیر البریطاني والسفارة الألمانیة بالخرطوم. وان یونیتامس قُدر لھا ان تأتى الى السودان مفوضة من قبل مجلس الأمن للعمل على تكریس تبعیة السودان للدول الغربیة العظمى
التي یمثل المجلس مطیتھا لإصدار القرارات وإیجاد المبررات للتدخل في شئون الدول الفقیرة واجبارھا للانصیاع لرؤاھا بھدف السیطرة علیھا وتحقیق مطامعھا الاستعماریة.
ومؤخرا ظھر بیرتس ، في تسجیل له، مخاطبا الشعب السوداني مباشرة بتقدیم احاطة لتقریر یشمل ما
توصلت إلیه البعثة في مرحلتھا الأولى ؛ والتقریر الذي قدم له بیرتس یقع في 40 صفحة ویحمل عنوان“ورقة تلخیصیه – مشاورات حول عملیة سیاسیة في السودان/ یونیتماس ، فبرایر 2022 .“والمنھج المعتمد
في التقریر منھجا قریبا من استطلاعات الرأي لتحدید مكونات الدولة التي ینشدھا السودانیین. وشملت الاستطلاعات إقامة الیونتماس ل 110 اجتماعا استمعت فیھا لأكثر من 800 مشارك من مختلف مدن السودان ، بالإضافة لحوالي 80 مبادرة وطنیة مكتوبة بشأن الأزمة السودانیة.
لكن بیرتس لم یعط أي معلومات كافیة عن الذین شاركوا في استطلاعاته وما ھي معاییر اختیارھم ؛ فالتقریر یتحدث عن ان الذین تمت مشاركتھم في التمرین التشاوري یمثلون أصحاب “المصلحة” في إیجاد حل لما اسماه ب“ المأزق السیاسي”. كذلك ، ما ھو تعریف المصلحة ومن ھم ھؤلاء المناصرین لفكرة انقاذ السودان
بالتعاون مع الأمم المتحدة!!! .
ان المعلومات الناتجة عن تمرین الیونیتماس الاستطلاعي عرضتھا البعثة في تقریرھا في 14 موضوعا ، شملت كل مكونات الدولة : الأجھزة (التنفیذیة – التشریعیة – القضائیة) والدستور والانتخابات وإعادة بناء
الجیش والقوانین التي تكفل تمثیل المرأة في أجھزة الدولة الخ.
وطریقة عرض التقریر لموضوعاته تتم بلا ترابط منطقي ولغة مربكة . وفیما یتعلق بمحتواه ، فان تكاد لا تصدق نفسك وانت تتطلع على النتائج التي توصل لھا التقریر . فالخبیر“العالمي”بیرتس أتى للسودان لیخبر
شعبه“ المغلوب على امره”، ان نتائج استطلاعه تشمل: ضرورة وجود جیش واحد في السودان بعقیدة واحدة وأھمیة انشاء مجلس تشریعي تحظى فیه المرأة بنسبة معتبرة واحتیاج السودانیین للتوافق على وضع دستور
لأھمیته كركن اساسي من اركان الدولة الخ. (وعرضا، وحول الدستور بالتحدید ، لم یورد التقریر أي
معلومة حول مدى اتفاق أو اختلاف المشاركین بخصوص فكرة استبعاد الشریعة الإسلامیة من الدستور ، وھو شيء غریب لما لھذه الفكرة من مؤیدین وسط قطاع معتبر من المواطنین !!) .
اما إزاء المنھج ، فالتقریر مبنى على تفكیر تجریبي سطحي یتسم بالبعثرة المنھجیة اذ یلجأ الى نھج “الخطأ والصواب” مثل نصه على ان مجموعة “ساحقة من أصحاب “المصلحة” قالت كذا وأخرى مالت لكذا ، والى
النظرة الذاتیة المؤدیة الى ان كل من المشاركین یغني على لیلاه ویحلم بالدولة التي یتخیلھا وعیه الذاتي
بمعزل عن حقائق الواقع وھذا یتضح من ملخص اجاباتھم عن أسئلة الاستطلاع .
ان نقد التقریر یكون بلا جدوى إذا ثبت عند نقد تجریبیته بمنطق شكلي. فالبعثة كما جاء في التقریر تضطلع بالقیام بموضوع سیاسي – اجتماعي كبیر یتمثل ، كما ادعت ، فیما أسمته“ إعادة بناء الدولة السودانیة على
أسس الحضارة والدیمقراطیة ”لھذا فان نقد التقریر ، الذي من شانه ان یسلط ضوءا كاشفا على الدور الخفي الخطیر لبعثة یونیتامس ، ھو دراسة موضوع مآل الدولة السودانیة على ضوء الواقع السیاسي والاجتماعي
جوھره ومكوناته ومتغیراته الشيء الذي لم یحدث في التقریر .
التقریر یذكر ان البعثة استمدت وضع أسئلة استطلاعھا من تقدیرھا لحالة الوضع السائد ؛ فقد جاء في التقریر“قدمت یونیتماس ملاحظات تمھیدیة لكل من الموضوعات الرئیسیة ، لشرح الأساس المنطقي للأسئلة وتقدیر البعثة للسیاق المطبق. ”وھكذا فان بیرتس الذي یرید تعلیم الناس كیف توضع الأسئلة المنطقیة في
مثل ھذه الحالة ، لم یخبرنا ماھیة المنھج الذي اتبعه في تقدیر السیاق ، المتعلق بحالة الجزء الذي یدرسه ، الذي الھمه في تشكیل الأسئلة المنطقیة.
ان الأسئلة الصحیحة حول ظاھرة أو موضوع ما ، ھي ما یقود لفھمھما بشكل سلیم ؛ لھذا جاء قول بعض الناس (الأسئلة مبصرة والاجابات عمیاء). لكن ، كما اوضحنا سابقا ، فان أسئلة استطلاع بیرتس غیر مبصرة وأدت الى إجابات بسیطة تتعلق بمسائل شدیدة الأھمیة (مكونات الدولة السودانیة).
وكل أسئلة بیرتس جاءت لكي تبعد التقصي والبحث عن دائرة الأسباب الحقیقیة لحالة مكونات الدولة السودانیة.
فالسؤال الأول الذي یطرح نفسه على أي شخص یرمى لحل ازمة الدولة السودانیة ھو فحص أسباب فشل الدولة المراد إعادة بنائھا ؛ لكن تنعدم أي محاولة في التقریر لأثارة التساؤل في ھذا الخصوص الذي یكتفى
بالإشارة للنظام السابق (نظام الإنقاذ) ولا توجد أي فذلكة لتاریخ تطور الدولة السودانیة ، وحتى الإشارة
لنظام الإنقاذ لخصھا التقریر في عبارة واحدة “النظام الاستبدادي”.
وتتواصل الأسئلة غیر المبصرة ، فمثلا في موضوع الجیش فان المسألة أعمق من قضیة إعادة بنائه التي لا
یعرف أحد ما المقصود بھا تحدیدا ؛ اذ ان السؤال الصحیح ھو ما ھي الدینامیكیة السیاسیة التي تجعل الجیش
تتطاول آماد ھیمنته على السلطة السیاسیة في السودان . وفى قضیة المرأة فالسؤال الصحیح لا یتعلق بما ھي
انسب القوانین (التي توضع قَبْلِيّا) لرد حقوقھا المسلوبة ، بل بما ھي الانساق الاجتماعیة والسیاسیة التي
تقف أمام تحرر المرأة ، وما ھو السبیل لإزالتھا وما ھي الانساق الجدیدة ، المطلوبة في ھذا المضمار، التي تھیئ المناخ لاستیعاب منظومة القوانین المرغوب فیھا في ھذا الشأن.
ومن أوجه قصور التقریر ھو انعدام تقصى موضوع الدراسة بالنظر للصورة الكلیة للواقع ووضعه في
إطار نظري شامل. فالتقریر بحث في الأجزاء بتجاھل للكل وبمعزل عن الإطار التاریخي والبناء
الاجتماعي والاقتصادي والسیاسي : وبالتالي انعدم الإطار الفكري (context conceptual (الذي یربط
الأجزاء ، والنتیجة دولة بلا عنوان .. بلا محتوى !! .
لكن في نھایات التقریر ینفضح أمر بیرتس وتتضح نوایا بعثته عندما یحدثنا عن الدور الدولي الإیجابي في حل الازمة السودانیة ؛ وان كل ما ورد حول نتائج الاستطلاع عن مكونات الدولة السودانیة كان حرف للأنظار (herring-red (عن مھمة الیونیتماس الحقیقیة. فالتقریر في الصفحة 36 تحت عنوان “دور
الجھات الدولیة الفاعلة” یذكر “لتجسید الدعم الاوسع للمجتمع الدؤلي للعملیة في السودان ، انشأ مجلس الامن
التابع للأمم المتحدة في قراره -2425- في 2020 بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالیة في السودان -الیونیتماس- المكلفة بالمساعدة في الانتقال السیاسي والتقدم نحو الحكم الدیمقراطي وحمایة حقوق الانسان وتعزیزھا وتحقیق السلام المستدام” ویواصل التقریر مشیدا بدور التدخل الأجنبي في السودان خلال
فترة الحكم الانتقالي ویذكر “ أدت الجھود الأخرى الذى بذلھا أعضاء المجتمع الدؤلي بما ذلك الدول الأعضاء والمؤسسات المالیة الدولیة بالعمل مع الحكومة الانتقالیة الى تخفیف العقوبات برفع السودان من قائمة الولایات المتحدة الامریكیة للدول الراعیة للإرھاب . وفى یونیو 2021 أصبح السودان مؤھلا للإعفاء من الديون في إطار المبادرة المتعلقة بالبلدان الفقیرة المثقلة بالدیون” .
یتضح من المقطع السابق أن الھدف الذي تسعى له بعثة یونيتماس ھو تكریس تبعیة البلاد للقوى
الاستعماریة الغربیة بالحدیث عن النتائج الإیجابیة للجھود الدولیة (الغربیة) في السودان خلال الحكم الانتقالي .
ان بیرتس لم یخبرنا عن أي استبیان لآراء المشاركین حول الحكم الانتقالي قبل وبعد انقلاب 25 .
أكتوبر 2021 . ولكن مثل ھذا الاستقصاء لا يعضد روایة بیرتس التي تمجد الحكم الانتقالي من زاویة
ارتھانه غیر المشروط لمؤسسات التمویل الدولیة وتطبيعه مع الدولة الصھیونیة ؛ فالشعب السوداني لا یحمل شغفا للحكم الانتقالي الذى أذاقه ویلات الأذى وزاد معاناته من الفقر والجوع والمرض؛ كما ان احتقار الشعب للحكم الانتقالي تثیره اللصوصیة التي مورست على مستوى الجھاز التنفیذي وما یسمى ب “لجنة إزالة التمكین” ؛ لكن یبقى السبب الرئیس لغضب الشعب من الحكم الانتقالي والعذاب الذى ألم به خلال ھذه الفترة ھو النھج الذى سلكه الحكم الانتقالي في التعامل مع الخارج (الدول الغربیة) ومؤسسات التمویل
الدولیة اذ أن “ الحكومة منحت ، بصورة غیر مسبوقة ، تلك المؤسسات شیكا على بیاض ( carte
blanche (لوضع كل ما یعن لھا من شروط، وكانت النتیجة تخفیض سعر صرف الجنیه السوداني في فبرایر 2021 مؤدیا الى زیادة في سعر صرف الدولار بنسبة تقدر ب %700 ، ورفع الدعم عن السلع الأساسیة بنسبة %100 دون مراعاة لواقع الشعب السوداني الذي یقبع %75 من افراده تحت خط الفقر أو
للآثار التضخمیة التي دمرت حیاتھم المعیشیة.”
وختاما ، أولا ، ان مصیر بعثة الیونیتماس لا یتضح بصوریة جلیة على ضوء التدخلات الحالیة للاتحاد
الأفریقي ومنظمة الایقاد وبعض الدول العربیة والأوربیة في الشأن السوداني بالتزامن مع التدابیر (التآمریة)
التي تجرى لتصعید محمد حمدان حمیدتى ، قائد ملیشیات الجنجوید ، للسلطة السیاسیة والخطوات الجاریة
لتعمیق العلاقات بین السودان وروسیا . ولكن أیا كان ، فان الیونیتماس تھدد سیادة السودان . وان أولى مھمات النضال التي یواجھا الشعب السوداني ھي تحریر السیادة الوطنیة من التغول الأجنبي الجائر .
وثانیا ، كلمة أخیرة حول فولكر بیرتس الذي جاء للخرطوم لیعلم الناس كیف یطرحون الأسئلة المنطقیة عند تناول قضایاھم . فان ھذا الشخص عادى لا قیمة له أو وزن في الأوساط السیاسیة والثقافیة الغربیة وان المنظمة العالمیة تستغله لرعونته التي تحركھا عنصریته اذ انه معروف ، من خلال مواقفه في مھمة سابقة
بسوریا وبعض الكتابات التافھة ، بإیمانه ان الدول الفقیرة لن تنھض الا باعتناق أفكار واخلاق الغرب.
وبیرتس الشخص یمثل المسخ “لفلاسفة” مؤتمر برلین الاوربیین (1884 (الذین غلفوا الدافع الاقتصادي لاستعمارھم لأفریقیا بالحاجة الى تمدین وجلب التحضر لشعوبھا ؛ بیرتس تتقمصه الفكرة القدیمة للأدیب
البریطاني كیبلینغ : “عبء الرجل الأبیض-burden s’man white .”- فیكتب بیرتس في تقریره بان
الباب أصبح مفتوحا“ لإعادة بناء الدولة السودانیة على أساس الحضارة..” – ان التاریخ في حالة بیرتس ھذه
یعید نفسه ملھاة لأن وعى الشعوب في الدول الفقیرة أصبح یسد عین الشمس بحیث لا تنطلي علیه
المحاولات الساذجة في تردید الحیل الاستعماریة القدیمة.
واضح ان بيرتس لم يشركك في استطلاع الآراء فاصبح النقد شخصي ورأيك في لجنة التمكين هو هدف المقال