الاستعمار القیصري الروسي

الفاضل عباس محمد علي
جاء فأر یافع لسرداب ذویه وھو ملطخ (مجلبط) بالعذره ؛ فسألته أمه : ماذا دھاك؟ أأحدثت في جسمك؟ فقال: ( لا. قابلني دب ضخم وسألني : “یاقلوط انت ! ھل صوفك بتحتّي بسھوله؟” فقلت له لا ، رغم أني لم أفھم السؤال. فأخذني بخرطومه وكوّرني واستعملني كورق توالیت ، یعني اتقشّي بي) سمعت ھذه الطرفه من تشیكي لا أعرفه قابلته في حانة أوفلكو ببراغ عام 1971 ، وقد أتیت لبراغ مھرولاً في معیة نفر من الرفاق الكرام ، علي إثر الردة التي حاقت بحركة ھاشم العطا 19 – 22 یولیو 1971 . وعلي مدي عامین قضیتھما طالباً بجامعة 17 نوفمبر كنت أرى التشیكیین محبطین منكسرین یتسلون بالتقریع علي الدب الروسي المستعمر المھیمن ؛ وما برحت ذكري اجتیاح قوات حلف وارسو بقیادة الجیش السوفیتي ودفنھا لربیع براغ حیة یتناقلھا الرواة ، خاصة في ھزیع اللیل عندما یتسامرون ویتغنون بالأناشید الوطنیة الجماعیة وعیونھم مغرورقة بالدموع .
دخلت القوات السوفیتیة وتوابعھا الأراضي التشیكوسلوفاكیة في العشرین من أغسطس 1968 وقتلت أكثر من مائة مقاوم وطني تشیكي وجرحت خمسمائة ، وأبعدت الرفیق دوبشیك من الحكم بعد محاولته الناعمة (ربیع براغ) الساعیة لتطبیق إشتراكیة بوجه إنساني وبقدر محدود من الحریات ، مع الاستمرار في تكالیف حلف وارسو السیاسیة والعسكریة. ولكن الاستالینیین الروس بالكرملین ، المشبعین بالروح القیصریة التوسعیة لا ینظرون للدول المتاخمة لروسیا إلا كمجرد حدیقة خلفیة ، تماماً كما كانت الولایات المتحدة تنظر لأمریكا الجنوبیة وفق نظریة الرئیس مونرو لعام 1823 Doctrine Monroe التي جعلت من الشق الغربي للمحیط الأطلسي برمته Hemisphere Western The حدیقة خلفیة للولایات المتحدة محرمةً علي الدول الاستعماریة الأوروبیة الأخرى , أي أن قطبي الحرب الباردة كانا قد تقاسما العالم بینھما بالتساوي تقریباَ.
ومرت أیام الھیمنة السوفیتیة علي الشعب التشیكي كجرعات متسلسلة من الحنظل لثلاثین عاماً حسوماً ، حتي اندلعت ثورته المخملیة Revolution Velvet the في نوفمبر 1989 وأطاحت بالنظام الشیوعي الأولیقاركي العمیل لموسكو ، ونصبت الكاتب المسرحي المناضل فاتسلاف ھافل رئیساً للدیمقراطیة المدنیة الولیدة ، (التي سارعت بالانضمام لحلف الناتو) .
وما كانت تلك ھي المرة الأولي ولا الأخیرة التي تتحرك الماكینة العسكریة الروسیة الضخمة لتلتھم ھذا أو ذاك من جیرانھا الصغار المستغیثین ؛ فقد سبق تھشیم ربیع براغ الھجوم علي المجر عام 1956 وتحطیم ثورتھا التي حاولت أن تختط سبیلا لا یتطابق الحافر بالحافر مع التجربة السوفیتیة . وفیما بعد انھیار الاتحاد السوفیتي ، وخلال الثلاثین عاماً المنصرمة ، ظلت روسیا التي ورثتھا عناصر الكي جي بي الفاشستیة بزعامة بوتین خطراً بأنیاب نوویة یھدد دول المنطقة ، ویتدخل في شؤونھا ، تارة بالتآمر الأمني وتارة بالعدوان السافر ، كما حدث لإقلیم كوسوفو 1999) ثم الخروج منه سریعا) ، ثم إقلیم الشیشان في نفس العام ، ثم أجزاء من جورجیا عام 2008 ، ثم شبه جزیرة القرم بأوكرانیا عام 2014 ، ثم سوریا وأجزاء من إفریقیا تعیث فیھا فساداً المافیا الروسیة المدعومة بمخابرات الدولة ،
وأخیراً ولیس آخراً ھذا العدوان البربري السافر على أوكرانیا بسبب رغبتھا في الانضمام لحلف الناتو ، وھي ما انفكت دولة حرة ذات سیادة ، بل كانت تنعم بشبه استقلال طوال مرحلة الاتحاد السوفیتي ، بموجب ترتیبات فدرالیة كانت أوكرانیا بموجبھا عضواً في الأمم المتحدة.
ماذا نتعلم من ھذا السلوك الروسي المافیوزي المتفلت؟ .
أول ما نتعلمه ھو إخفاق نظریة فرانسیس فوكویاما – نھایة التاریخ – التي صاغھا عام 1992 جراء سقوط المعسكر الاشتراكي وذوبان حلف وارسو، ثم اندلاع الثورات المدنیة السلمیة بكافة دول أمریكا اللاتینیة التي أحالت تلك الدول إلي دیمقراطیات مدنیة ذات شفافیة وحریات، وحسب العلامة فوكویاما فإن توازن القوى العالمي قد تغیر إلى الأبد لصالح حلف الناتو وأنظمته اللبرالیة المتحالفة والمتضامنة مع بعضھا البعض . ولكن حدث ارتجاج للرصة العالمیة ، وإذا بنا أمام غزو روسي لدولة مستقلة علي غرار ما حدث لتشیكوسلوفاكیا عام 1968 ، والغرب (یھرّط) ویحدث ضجیجاً ھائلاً بلا طحن یذكر ، وذیله بین فخذیه ككلب ألیف ، والماكینة العسكریة الروسیة تفتك بالمدنیین الأوكرانیین كأنھم أسراب من الذباب .
وبتحدید أكثر دقة ، ما ھي الآثار المترتبة علي ھكذا عدوان إذا تكرر في أي من بلدان أفریقیا وآسیا وباقي العالم ؟ .
بقدر ما تنجو روسیا بجلدھا ولا تتلقي أي ردع واضح علي فعلتھا ، فإن القانون الدولي یكون قد أوجد سابقة تسمح لكل دولة إقلیمیة ذات شوكة أن تتوسع علي حساب جیرانھا ، ویمكنھا أن تزحف كما یفعل النمل شیئاً فشیئا ، ثم تواجه العالم بحقائق علي الأرض قد تصلبت – كما ھو الحال مع الضفة الغربیة بفلسطین ، ومع مصر التي لا تخفي أطماعھا في أرض السودان ، فقد اقتطعت منه مثلث حلایب بحدودھا الجنوبیة الشرقیة عام 1955 في غفلة من العالم الذي كان مشغولا بمحاربة الإرھاب والدول الراعیة له كنظام الإخوان المسلمین الذي ظل یحكم السودان منذ 1990، واستمر الاحتلال المصري لحلایب وھو یصبح أمراً واقعاً ویرسخ حقیقة وجوده علي الأرض مع تكثیف البروبوقاندا الاحتلالیة الاستعماریة ، وقمع المعارضة المحلیة ، وتكاثر النشاط التعدیني المحموم بالمثلث .
إن عدم الاستقرار الذي یعیشه السودان منذ ثلاث سنوات ، والذي تفاقمت بموجبه الأزمة الاقتصادیة لدرجة غیر مسبوقة منذ خروج الاستعمار المصري البریطاني ، قد یغري الأولیقاركیین الطامعین أشباه بوتین بالتدخل لحمایة مصالحھم ، مثل میاه النیل التي كثیراً ما ھدد النظام المصري بالذود عنھا من عدو متوھم ، وكثیراً ما ألقي في روع أصدقائه الغربیین أنھا خط أحمر دونه مھج الشعب المصري . وإذا أدركنا أن عدم الاستقرار الذي یمر به السودان لا ینجم فقط عن العوامل الداخلیة الخاصة بتشظي القوي السیاسیة وعدم التفافھا حول برنامج واضح ومحدد للتغییر الذي ثار الشعب من أجله ، إنما كذلك بسبب التدخل المخاربراتي الأجنبي – خاصة من النظام المصري المعادي للدیمقراطیة في بلده وفي المنطقة ، مستعیضاً عنھا ب “الاستقرار” القسم العسكري من النظام الذي ورث الحكم في السودان جراء ثورة دیسمبر 2019 .تحت مطرقة الجیش وأجھزة المخابرات . وھذه النظریة ھي التي ظل یسوق لھا لدي .
باختصار ، إن السودان في رأیي من الدول التى سیتم فیھا تطبیق النظریة الروسیة / الأوكرانیة ، إذا ما نجح نظام بوتین في فرض إرادته بذلك البلد المسكین ، وأرغم الأسرة الدولیة علي قبول الأمر الواقع ، مثلما قبلت الاحتلال المصري لمثلث حلایب رغم عدم قانونیته، وعلى الرغم من الدعوى المرفوعه بعدم شرعیته لدى محكمة العدل الدولیة منذ العدوان الأول لحلایب عام 1958.
إن الحمایة المثلى لأرض السودان وحقوقه لا تأتي من الأسرة الدولیة التي غالباً ما تمیل حیث یمیل توازن القوى الدولي ، وفي باطنه الترسنات النوویة ھنا وھناك . ولكن الحمایة المثلى لأرض السودان وحقوق شعبه تأتي من نجاح ثورته المندلعة منذ ثلاث سنوات ، والتي كادت أن تؤتي أكلھا لولا التدخلات الأجنبیة ولولا الخلافات البینیة بین
قوي الحریة والتغيیر . إن نجاح الثورة في تحقیق شعاراتھا، وأولھا إبعاد المكون العسكري تماماً من المشھد ، سوف یرسل إشارات قاطعة للقوي الرجعیه المحلیة وللطامعین الإقلیمیین الذین یضعون ألف حساب للشعب السوداني.
لقد أصبحت ثورة دیسمبر علي مرمي حجر من النصر المؤزر ، وما أن تتوحد قیادات الثورة ورموزھا حول برنامج معین تنفذه حكومة من التكنوقراط الوطنیین غیر المدنسین بفساد العھد الإخواني ، حتي یستأنف قطار الثورة رحلته من أجل تنظیف البلاد من سموم العھد البائد ، ورد المظالم وجبر الكسور ، وبناء المؤسسات المناط بھا انجاز مھام المرحلة الانتقالیه – مثل المجلس التشریعي والمفوضیات وكافة استحقاقات العدالة الانتقالیة ، وفي أثناء ذلك، یتم العمل الفوري علي انقاذ الاقتصاد من الانھیار، والقیام بكل ما من شأنه رفع المعاناة عن الكادحین، وتأسیس اللبنات الثابتة لاقتصاد مؤسس علي التخطیط العلمي ، یقوم بإنجاز برامجه نفر وطني متمرس عفیف الید وناصع السیرة والسریرة.
وبقدر ما ینجح شعبنا في تحقیق مفردات ثورته، بقدر ما سیوفر للبشریة نموذجاً فریداً لوطن آخر محب للسلام والحریة والعدالة ، مضافاً للشعوب الحرة الرافضة والشاجبة للغزو الروسي الھمجي لدولة أوكرانیا.
النصر معقود لواؤه لشعب السودان وللشعوب المحبة للحریة والسلام.
السلاح معظمه روسي
تعلم الولايات المتحدة ان الجيش الأوكراني لن يصمد طويلا أمام الآلة العسكرية الروسية الجبارة لذلك هي تستعد لمرحلة ما بعد سقوط العاصمة “كييف” وتعيين حكومة بديلة لحكومة الرئيس زيلينسكي موالية لروسيا .
لذلك هي تخطط “امريكا” لتجنيد فرق مقاومة سرية مدعومة بآلاف المقاتلين توفر لهم معلومات أمنية مكثفة على مدار الساعة عن تحركات الفرق العسكرية الروسية لخوض حرب عصابات طويلة تستنزف روسيا عسكريا واقتصاديا وتتمكن من هزيمتها وتؤدي الى انسحابها من أوكرانيا كما حدث للاتحاد السوفياتي في أفغانستان.
إلا أن تكرار السيناريو الأفغاني في أوكرانيا سوف يكون صعب ولن يتكرر لان المقاومة الأوكرانية المدعومة بمقاتلين اجانب بمرور الوقت لن يكون لها طول نفس وقدرة على الصمود والتضحية فطالبان والمجاهدون كانوا يقاتلون بضراوة كبيرة لأسباب عقائدية وهناك فرق بين من يقاتل من أجل عقيدته ومن يقاتل من أجل المال.
سيقاتلون من اجل بلدهم، ولدحر الاستعمار الروسي، ودا لا يقل عن الغقاٸدية۔ ما الكيزان قالو ان حرب الجنوب جهادا، ومع ذلك تجرعوا غصص الهزيمة۔
احي المثقف الموسوعي الفاضل عباس