هل الدولة المدنية في حاجة لحماية العسكر؟

ابراهيم سليمان
من الملاحظ أنّ المؤسسة العسكرية ، ونعني بها القوات المسلحة السودانية، منذ فجر الاستقلال لديها اعتقاد جمعي رسخ بانها معنية بالمصير السياسي للبلاد ، التي نالت استقلالها مدنيا من تحت قبة البرمان ، وتحت هذا الاعتقاد التوّهمي ، لم تتوانَ القوات المسلحة في الانفضاض علي السلطة المدنية لصالحها أو بالوكالة لصالح تنظيمات سياسية ، لكن في الحقيقة هي دائماً ما تخفي نواياها السلطوية ، تحت ذريعة حماية مصالح البلاد العليا ، والتي هي من فرّطت فيها بسكونها علي الأراضي السودانية المحتلة ، والتفرج علي العبث بوحدة تراب البلاد لصالح الأوهام الايدلوجية الأصولية! .
من البديهيات المعلومة للجميع ، أنّ الدولة المدنية ترتكز علي السلطات الأربع المعروفة التشريعية ، والرقابية ، القضائية والتنفيذية ، ومن المعلوم بالضرورة أنّ النيابة العامة والجهاز العدولي يحتاج إلي القوة الشرطية لضبط الحياة العامة ، وإنقاذ القانون ، وإن جهاز الأمن الوطني جزءاً أصيل ضمن هذه المنظومة .
إلي هنا لا حاجة للدولة المدنية للجيش ، الذي بات راعي الضأن في بواديه المفتوحة يعلم أنّ دورهم يتمحور حول حماية الحدود برا وبحرا وجوا من الاعتداءات والتدخلات الخارجية ، والتصدي لكل ما يهدد الأمن القومي بما في ذلك الكوارث الطبيعية، ولا شأن لهم بالحكم ، ولا اختصاص لهم في الشأن السياسي ، هذا الأمر واضح وضوح الشمس ، ومعمول به في كافة الدول التي عبرت إلي بر الحكم المدني الرشيد ، بل من حق ومن واجب السلطة الرقابية ، مساءلة القوات المسلحة ومحاسبتها إن قصرت في واجباتها في حماية تراب الوطن ، لأنه عمليا ينبغي أن يدفع المواطن رواتب ومخصصات قيادات وأفراد القوات المسلحة ، وتدفع الخزانة العامة فواتير تسليحها وتدريبها ، ومن الطبيعي أن من يدفع يأمر ويحاسب ، أما أن تستقل القوات المسلحة ماليا ، لتبتز الحكومة المدنية ، فهذا وضع مخل ، لم يحدث إلا في عهد الإنفاذ لافتقاره لرجالات دولة ، ولا غرو انه كان حكما عسكريا شموليا مؤدلجا ، وأن قيادات تنظيم “الكيزان” الحاضن للحكم كانوا أشباه رجال ، ولم يتحلوا بالمسؤولية .
من الذي منح القوات المسلحة الوصاية علي مقدرات الشعب السوداني؟ الإجابة التي لا مراء فيها، هي قوة السلاح التي امتلكوها بمال الشعب ، إذ لا يوجد تشريع أو عرف يمنح الجيش الوصاية علي المصير السياسي للبلاد ، ولولا السلاح لما استطاعوا الخوض في الحياة السياسية ، من اجل أن يحكموا ، ويحموا انفسهم من المحاسبة على تقصيرهم وتجاوزاتهم ، ومن أجل أن تتمتع قياداتها بالامتيازات والرفاهية المعيشية علي حساب الشعب ، ولهذا اصبحوا لا يتوانون في تصويب السلاح المقتنى بمال الشعب إلي صدور أبناءه الشباب بلا رحمة ولا ضمير؟ .
من الأوهام الواجبة دحضها ، أنّ الدولة المدنية لا غنٍ لها عن حماية القوات المسلحة ، والتجارب أثبتت أن ما يفضح هذا الادعاء ، وفي الحقيقة هي دائما ما تمثل دور “حاميها حراميها”، وهي سارقة السلطة الأوحد ، والخطر الحقيقي علي مصير البلاد ، وهي العقبة الكأداء في طريق تحقيق أحلام شبابه في الحياة الكريمة ، القائمة علي الطمأنينة والمنزهة عن الخوف ، والمرتكزة علي القانون والنظام والانضباط ، حتي السلطات الجمركية ، كانت ضمن السلطة المدنية ، ويجب أن تعود إليها ومن العيب الذي بلغ حد الفضيحة ، أن تؤمن القوات المسلحة ، قوافل تهريب صادرات البلاد ، لم يتصور أحد أو تصل القوات المسلحة إلي هذه الدرجة من عدم المسؤولية، ولا غرابه في ذلك طالما أنها سمحت لمليشيات غير منضبطة ، تفتقر العقيدة الوطنية وولائها لقائدها وليس للوطن ، أن تكون موازية لها ، وندٍ لها ! .
انشغلت الحكومة الانتقالية ببعض الفارغات ، وركنت علي الضمانات الدولية لحماية التحول الديمقراطي من السرقة والنتيجة معروفة ، والأولى كان ينبغي التركيز في تأسيس قوات شرطية، احترافية ومحايدة ، يكمن الركون إليها ، لبناء قوات شرطية مسئولة ، يجب أولا تحريرها من قبضة الجيش ، وتحريرها من سطوة العسكر ، وإسنادها تشريعيا للسلطة المدنية وتضخيم ميزانياتها وعدد أفرادها .
لو إن القوات المسلحة ، انقلبت علي حكومة مدنية لمنع تفتيت وحدة البلاد ، لقال قائل إن هذا الأمر ليس سياسيا بحتا ، إلاّ قائدها العام هو من اقر فصل جنوبنا الحبيب ، عربوناً لخلود المؤسس العسكرية وحاضنتها السياسية في الحكم ، فهم شركاء في عار التفريط في وحدة البلاد ولولاهم لقامت سلطة مدنية ، أرجأت مثل هذه الأمور إلي إرادة الشعب ، وكشفت المؤامرة الدولية وراء هذا الأمر الذي لم ولن يؤرق مضجع العسكر المتشدقين برعاية وحماية مصالح البلاد العليا ، إن حكم العسكر بصمت ، لكان أرحم لهم، لكن ما لبثوا يصدعون رؤوس الشعب السوداني بأن الأوضاع لن تستقر إلا بهم ، وفي الحقيقة هم أس البلاء رغم أننا كنا حذرين ألاّ نظلمهم ، وإن منهم وطنيون ومن بينهم عقلانيون ! .
خلاصة القول ، أنّ الدولة المدنية ليست في حاجة لانحياز الجيش ، لتبدأ مسيرتها ، المطلوب منهم التزام الحياد فقط ، والتزام ثكناتها، والاستعداد لتحرير أراضي البلاد المغتصبة إذا دعى الداعي.
جرائم القوات المسلحة في حق الشعب السوداني مرصودة وموثقة ، وهم يصرون علي التشبث بالحكم لارتكاب المزيد منها ، هنا محك الصراع بين الحق الباطل ، بين الجيش ولجان المقاومة الباسلة ، فقد أباد الجيش شعب دارفور وجبال النوبة، وارتكبت قياداتها مجزرة القيادة العامة ، وفصلت القوات المسلحة الجنوب وقتلت ما يقارب المائة شاب بدم بارد منذ انقلاب ال 25 اكتوبر ، هذه الخطايا الكبيرة والغير مبررة كافية لتوبة القوات المسلحة ، والابتعاد عن الشأن السياسي إلي الأبد ، والخطيئة التي لا تغتفر سماحها لمليشيات غير منضبطة أن تكون موازية لها وتتحكم في رقاب ومقدرات الشعب السوداني بلا حسيب ولا رقيب ! في سابقة تعتبر فضيحة بكل المقاييس .