مقالات وآراء

وطن قيد الإقامة الجبرية (3)

د. السموءل محمد عثمان

محور هذه الحلقات يدور حول أن الأمل كان كبيراً في أن يكون السودان سلة غذاء العالم ، بالإضافة لما يتمتع به من ثروات متعددة كانت كفيلة بجعل المواطن السوداني من أكثر سكان العالم رفاهية واستقراراً ، نقصد بالاستقرار السلم الاجتماعي بعيداً عن النزوح واللجؤ ، فنحن على يقين من أن السلام تحرسه التنمية ، ولا تحرسه الجيوش والآليات المقاتلة .
إضافة لماسبق ما ظللنا نتطلع له من دور ريادي للسودان في محيطه الأفريقي والعربي . ولكن ها نحن نعيش واقعاً لايتناسب مع السودان ومع ثرواته في الفقر والمسغبة التي يعيشها المواطن السوداني ، وواقعاً لايتناسب مع مكانته فبدلاً من دور مشهود في محيطه الإقليمي ، تظل الطائرات قاصدة بالوفود الأفريقية والعربية والغربية مطار الخرطوم حاملة المبادرات والتسويات ، أو أن تحزم الوفود السودانية أمتعتها لمطارات دول الجوار تبحث عن سلام صعب تحقيقه داخل الوطن . تبحث عن سلام تغسل به حزن الخرطوم ، وتسعد به عيون الناس في أرجاء البلاد الواسعة .
نتناول الصلح الشهير الذي قام به المحجوب بين الملك فيصل والرئيس جمال عبد الناصر ، ذلك الصلح الذي صعب تحقيقه في كثير من المؤتمرات العربية ،وأزم العالم العربي كله ، إضافة لذلك كان لهذا الصلح أثراً كبيراً في إخراج الدول العربية من محنة عظيمة ، بسبب النكسة والهزيمة من إسرائيل في حرب الأيام الستة التي نشبت في 5حزيران ( يونيو) 1967، تلك الحرب التي اتبعت فيها إسرائيل إستراتجية حاسمة شلت سلاح الجو المصري ، قبل أن تستطيع معظم الطائرات الارتفاع عن الأرض ، كذلك الطيران السوري والأردني ، وتركت جيوش هذه الدول عرضة للهجمات الإسرائيلية بصورة محزنة .
يقول المحجوب بعد مضي شهر على الحرب قابلت الرئيس ناصر على إنفراد في إحدى الأمسيات بالقاهرة وسألته كيف وقعت الهزيمة ، فأذهلني جوابه . قال ناصر ” ياعزيزي محجوب ، لقد تنبأت بأن الهجوم الإسرائيلي سيقع إما يوم الأحد 4حزيران وإما يوم الاثنين 5حزيران ،لذلك أمرت القائد بأن يبقي ثلث طائراتنا في الجوً طوال الوقت ، فعلوا ذلك في يومي السبت والأحد ، لكن في صباح يوم الاثنين أهملت أوامري ، لهذا استطاع العدو أن يوجه ضربته إلى سلاح الجوً وهو على الأرض “.
كانت الغارات الجوية الإسرائيلية مركزة على سبعة عشر مطاراً حربياً مصرياً فحطمت معظم طائرات البلد التي تقدر بنحو 500طائرة معظمها من المقاتلات والمطاردات السريعة وقاذفات القنابل الخفيفة والمتوسطة . ليختم ناصر قوله لو أرادت القوات الإسرائيلية دخول القاهرة لاستطاعت ذلك .
كان الاختلاف بين الملك فيصل وعبد الناصر بسبب دعم مصر للجمهوريين في اليمن، بينما قامت المملكة العربية السعودية بتقديم مساعدة مالية سخية للملكيين وبينما أعلن الضباط الجمهورية في العاصمة صنعاء بمعونة سريعة من الجنود المصريين والأسلحة المصرية . أقام الإمام بالجبال المنيعة في الشمال وجمع القبائل لتأييده بمساعدة فعالة من المملكة العربية السعودية ، سمًم سوء العلاقات بين مصر والمملكة العربية السعودية الجوً العربي بأسره عدة سنوات ، وجرت في كل المؤتمرات العربية محاولات لتسوية بينهما حول اليمن من دون جدوى .
يقول المحجوب أن تأييد ناصر العسكري للجمهوريين ضد الملكيين في اليمن يجب أن يذهب كأخطر أخطائه في ماعدا الأعباء المالية التي فرضت على الاقتصاد المصري وسفك الدم العربي ، كانت لتورطه في اليمن مضاعفات بعيدة الأثر حين انتهت حرب الأيام الستة ،مضى على الحرب اليمنية في ذلك الوقت نحو خمس سنوات .
يقول المحجوب لقد ارتكب ناصر بتورط مصر في حرب اليمن أكبر أخطائه،دخل الحرب بمعرفة قليلة بتاريخ اليمن وجغرافيتها ، وفرقها الدينية الإسلامية وتركيبها القبلي ، ولو أنه فكر كيف أن الإمبراطورية العثمانية حاولت مرة أن تحتل اليمن أربعين عاماً وفشلت لما أرسلت تلك الحملة ، لو أنه أدرك طبيعة البلد الجبلية وطبيعة الغدر في القبائل اليمنية ومهارتها المدهشة في حرب العصابات ، لتردد طويلاً قبل أن يرسل جيشه .
يواصل المحجوب سألت ناصر في اجتماع خاص في سنة 1965هل يسمح لي بالتوسط في قضية اليمن ، بدأت أن الفكرة راقت له ولكن بقناعة جزئية ، وبعد ساعة من هذه المقابلة فقط طلب إلى الأمير جابر الأحمد رئيس وزراء الكويت التوسط ، اكتشفت ذلك حين زرت الأمير في شقته في فندق شبرد في القاهرة حيث كنا مقيمين ، أطلعت الأمير جابر على الحديث الذي دار بيني وبين ناصر ، فأخبرني بما طلب ناصر منه وقال لم لانعمل معاً ؟ فأجبت ” الأفضل أن تتوسط سموك وحدك ” .
ويسرد المحجوب أن محاولاته للتوسط بين الملك فيصل والرئيس عبد الناصر بدأت حتى قبل اجتماع الخرطوم .يقول حين تأجل اجتماع وزراء الخارجية العرب في الخرطوم في أب1967. تركتها إلى جدة للتحدث إلى الملك فيصل ، استقبلنا ولي العهد الأمير خالد بن عبد العزيز والسقاف وآخرون من الموظفين السعوديين والسفير السوداني بجدة ، أخذونا إلى قصر رائع ، ولكن شيئاً شوه جمال القصر نوعا وفوراً ، سلمني سفيرنا الدكتور ياجي مذكرة كانت محتوياتها تجعلني أتخلى عن مهمتي تقريباً ، لقد كانت خلاصتها أن الملك فيصل ليس في حالة نفسية تسمح بالبحث في قضية اليمن .
بعد نصف ساعة زارني زميلي الشاعر عبد الله بن الملك فيصل تبادلنا التحيات ثم قال : ” أرجو أن لا تكون قد حضرت للتحدث إلى أبي في قضية اليمن ” .
أجبت : ” ولم لا ؟ هل ذلك محرمً ؟”
قال أن والده قد فقد الأمل في اتفاق مع المصريين ” لأنهم لا يحافظون على دورهم في الاتفاق ” .
قلت له :” ياعزيزي عبد الله ، لقد تغيرت الأمور ، ويمر شعبنا العربي الآن بفترة حاسمة ، أن مصيرنا ومجرد وجودنا وتراثنا وتاريخنا وثقافتنا كلها في خطر ، ثم ناشدته أن يقابل والده ، ويحاول تمهيد السبيل لمهمتي .
حددت الساعة الحادية عشرة صباحاً موعداً لرؤية جلالته ، فأدخلت إلى مكتبه وتركنا وحدنا .

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..