
طالع الكثيرون مشاهد من صورِ العنف من بعض أفراد ينتمون لجهاز الشرطة وللجيش والدعم السريع، بل ومن كثير من السياسيين الذين يستثمرون في إشاعة العنف. فكم كان قاسياً على النفس الإنسانية السوية مشاهدة أشكال من صور الإذلال وصنوفاً من ممارسة البشاعة، تجسّدت في الضرب والسحل والاغتصاب والقتل بدم بارد. كل ذلك تمارسه جماعات كان ينتظر منها إشاعة الأمن والطمأنينة..
يقيني أن هؤلاء الأفراد غير الأسوياء يمثلون فاقداً تربوياً خلفته مناهج تعليمية وضعتها وصاغتها أنظمة مستبدة، ركزت جهودها لبناء مجتمع خانع مدجن، مررته عبر مؤسسات تعليمية صممت خصيصاً لقهر الآخر، والسيطرة عليه بكافة الوسائل الممكنة وغير الممكنة، ودونكم تجربة نظام الإنقاذ البغيضة، وما بدعة الدفاع الشعبي والكتائب والمليشيات إلا مثل سيئ لتلك التجربة المرير، وصفحة حالكة السواد في تاريخنا..
لن يستطيع كائن من كان أن يجد عذراً لتلك الهمجية من أفراد الشرطة التي صاحبت فض المواكب السلمية، والتي تعدّت ذلك للمارة وعابري السبيل وراكبي المواصلات العامة والآمنين في سياراتهم ومنازلهم ومتجارهم، وفي مدارسهم ومصانعهم. إن هذه التصرفات الهمجية، عادت بإنسان السودان المسالم إلى عهود بعيدة في التاريخ، فقد أوصلنا ما يقوم به هؤلاء المجرمون عهد الغابة، حيث أصبحوا يمارسون، هم وحدهم ما كانت تقوم به الحيوانات ذات الناب، والجوارح ذات المخلب، وأصبح هؤلاء يفترسون هواتف الشابات والشيبان، وينهبون أموال المارة من المواطنين، ويغتصبون حرائر الكنداكات في وضح النهار، يا للأسف!!..
قام في ذهني أن هذا التردي المريع في أخلاق هؤلاء هو نتاج مناهج تعليمية فارغة، منذ أن كانت ترتبط صورة معلمينا بالعصي، وخراطيم المياه، ذلك العهد الذي كان يتفاخر كثُر من معلمينا به، حيث يجبر الطفل بالقوة على الاستلقاء على الأرض أمام كل زملائه، وتناله عبارات التوبيخ والألفاظ المؤذية. منذ ذلك التاريخ، ولشديد الأسف، بدأ عهد ممارسة العنف، واستمرأنا عدم استنكاره، حتى أصبحت مقولة (ليكم اللحم ولينا العضم) مقولة شائعة، يكبر المعلمون من قائليها.. هذه كانت بداية العنف، أفلا نجد المبرر في أن نبحث له عن نهاية؟!!
الحل، في بساطة، يكمن في تغيير مناهج تعليمنا. فمعظم، إن لم نقل كل مناهجنا، مبنية على تصميم دراسي يفتقر لأدوات بناء واستثمار وتحليل المعرفة، وإسقاطها على الواقع المحلي، مناهج تلقن للتلاميذ دون مناقشة، بل تمرر عبر امتحانات نمطية جافة، مما يرسّخ حالة من القهر وانحسار الشخصية وتعنيفها، إضافة إلى جو الرعب.. فكيف يتشكل الوعي النقدي الضروري لخلق الكفاءات العلمية والفكرية في منظومة تحكمها فلسفة القمع والترهيب والعنف؟! فإن أي محاولة للنقاش والخوض في بعض المسائل الفكرية ذات الطابع السياسي أو الديني أو حتى الاجتماعي ممنوعة ومحترمة، ولا يمكن الفكاك من براثنها، ولهذا فغالباً ما تتمخض عن جو القهر هذا سلوكيات عدواني، وهذا ما نشهده في تصرفات تشمئذ منها النفس، وتأباها الفطرة السليمة..
وإذا سألتموني عن السبيل للفكاك عن هذا الواقع البائس، فأقول: إننا نحتاج إلى وضع خطة شاملة للتربية والتعليم ضد العنف والتمييز، خطة تشمل إسقاط النظام الاستبدادي، كشرط لازم وضروري، فمع وجود الاستبداد لا يمكن إنهاء العنف، فضرورة نبذ ثقافة العنف وتجفيف مصادره بوضع مناهج لا تخدم سياسة جهة معينة، ولا تهمّش طرفاً، ولا تمجّد حزباً أو زعيماً، وتكون ملائمة لكل المكونات، مناهج قائمة على التحليل والتركيب والنقد وإعمال العقل، بعيداً عن التسيس والتدجين والتلقين، والعمل على بناء كل ما يمت لمؤسسة التربية والتعليم، بما فيها المدارس والمناهج وتدريب المعلمين، لخلق بيئة آمنة خالية من ثقافة العنف، وتراعي عديد الاعتبارات، وتسمح بحرية التعبير دون خشية من الانتقام.
نحتاج إلى ثورة ونهضة في مجال المنظومة التربوية والتعليمية، للقضاء على كل أشكال الاستبداد والتهميش والعنف، وصولاً إلى منظومة تربوية وتعليمية آمنة وخالية من العنف.
فلا سلام ولا صلاح في مجتمعنا إلا إذا صلحت أنظمته التعليمية. طالما نحن نعيش في ظلّ أنظمة تعليمية تنتج مهنيين وحرفيين بعقلية افتراسية ارتزاقية استغلالية، فسوف نظل فريسة للعنف، ولقمة سائغة لمضاعفاته. فيجب أن تبدأ الأنظمة التعليمية ببناء الإنسان، وليس المرتزق والمستهلك، عندها نستطيع أن نرجو خيراً لمستقبل بلدنا ولمستقبل الإنسانية جمعاء. فالعنف ليس بالجسد، ولا بالسلاح، وإنما يكمن في الفكرة وفي الكلمة. فكيف لمناهج تعليمية تهمل تنشئة الطالب على قِيَم ومبادئ تحضّ على التراحم والتكافل والتعاضد، وإغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب، كيف لها أن تخلق مواطناً صالحاً؟! فواقع تعليمنا يكرّس فكرة التنافس المحموم على الدنيا وزخرفها، ويجعل من معظم المتعاطين بالثقافة والفكر أناساً غير مؤثّرين اجتماعياً في ما يخصّ السعي نحو العدالة الاجتماعية، وذلك بسبب اهتمامهم المفرط بأنفسهم، وسعيهم الدؤوب إلى الحصول على رضا أهل المال والسلطان.
جفّفوا منابع العنف في المناهج الدراسية والتعليمية، واجعلوا مجتمعاتنا مجتمعات يسودها السلام، وتظللها الطمأنينة، ويبسط الأمن والأمان سلطانه عليها. لا تربّوا أجيالكم على التبعية المهينة لجلّاديهم وناهبي ثرواتهم. اجعلوا من المناهج التعليمية شاهد حق على عصرنا، تشحذ من همم الطلاب، وتدفعهم إلى مقاومة المنظومة التي تميّع الحق والخير والجمال، وتجعل بلادنا أسيرة لأقلية أنانية مستأثرة، وهذا هو الوجه الحقيقي والأقبح للعنف.
فلنجعل مناهجنا أكثر إنسانية، ولنخلق منها نماذج تعكس ثقافتنا وهويتنا. ولنوظفها لتواكب هذا العالم المتغير، ولتفتح بها أبواب التعاون، ولنطورها لتساعد على التوافق بين المعلمين والمتعلمين، مناهج تكون ذات جدوى للبلاد.. مناهج لا يكون خريجوها طبقة جديدة لا تأبه كثيرا بحالة البؤس التي يعاني منها الشعب، مناهج يكون خريجوها قادرين على السكن في القرى، والأرياف، حتى يستطيعوا أن يتفهموا حالة مواطنيهم، ويعينوا على تطوير حياة الريف.. بذلك يكون تعليمنا تعليماً أصيلا.. ويكون خريجونا إنسانيين، سودانيين، أصلاء يسعون لإسعاد قومهم، ولإسعاد البشرية عامة، كعمل طبيعى، في غير تكلّف ولا رياء..