مقالات سياسية

عقيد … عميد … عمدة … ناظر وكل ما تريد !

محمد التجاني عمر قش

يبدو أن المجتمع السوداني يمر بمرحلة تقهقر إلى عهد التركية السابقة ، حيث كانت الرتب والألقاب تباع وتشترى أو تمنح حسب القرب من الحاكم التركي أو المصري أو مقابل خدمات معينة لجناب المفتش أو الحكمدار أو حتى أصغر موظف في تلك الحكومة الفاسدة !  ومع علم أصحاب تلك الرتب والألقاب أنها لا تقدم ولا تأخر إلا أنهم كانوا يبذلون الغالي والرخيص من أجل الحصول عليها ظناً منهم أنها تعزز مكانتهم الاجتماعية أو تقربهم من الحكام ؛ حتى يحققوا بعض المكاسب الشخصية ، أو على أقل تقدير إرضاءً لبعض تطلعاتهم لكراسي السلطة.

هذه المقدمة تقودنا للحديث عن توزيع الرتب العسكرية للناس في شمال كردفان من قبل بعض الحركات المسلحة التي تسعى للحصول على موطئ قدم لها في هذه المنطقة الآمنة والمستقرة ، دون علم بأن مثل هذا السلوك غير المنضبط يوجد طبقة وهمية تسعى لتحقيق مجد بعيد المنال إن لم يكن خيالياً . قبيل فترة وجيزة سطت مجموعة من اللصوص على متجر صغير في منطقة الخيران بإدارية دميرة التي تتبع لمحلية غرب بارا ، وعند القبض على زعيم العصابة أخرج بطاقة عسكرية تحمل رتبة عسكرية رفيعة أظنها عميد أو عقيد ، وأدعى بأنه يتبع لأحد قادة المليشيات ولذلك يرفض الخضوع للتفتيش من أقبل أفراد الشرطة أو لاستجواب رجال الإدارة الأهلية ! المهم في الأمر استولت الشرطة على العربة التي كانت يستقلها أولئك المجرمون وبعد تفتيشها عثر على أنها تحمل أسلحة وذخيرة “وحجبات” وصورة للزعيم.

مثل هذه الظواهر دخيلة على المجتمع السوداني بشكل عام ، وهي تشكل تهديداً مباشراً لأمن واستقرار المواطن وتهدد وجوده بشكل غير مسبوق، وهي بلا أدنى شك نتاج لسلام جوبا الذي أتاح للحركات المسلحة التغلغل في الأرياف والمدن ومحاولة استقطاب مؤيدين لها بتوزيع هذه الرتب والمناصب وربما بعض الأموال والأسلحة وعربات الدفع الرباعي غير المرخصة ، وهذا لعمري مؤشر أمني غاية في الخطورة وربما يؤدي إلى انفراط حبل الأمن ونسف النسيج الاجتماعي على نطاق واسع في البلاد ؛ خاصة في مناطق الهشاشة مثل شمال كردفان أو دار الريح تحديداً . ولعل المذبحة البشعة التي حدثت في قرية تفلنق خلال الأشهر الماضية لهي أصدق دليل على صحة ما نقول ، فقد اعتدت مجموعة مسلحة ومدربة عسكرياً على أناس عزل في وضح النهار وقتلت منهم خمسة وعشرين رجلاً وامرأة ، ولولا تدخل الحركات المسلحة وتوزيعها للأسلحة الفتاكة لما أزهقت كل تلك الأرواح البريئة. ومن المؤسف حقاً أن الجناة الذين ارتكبوا تلك الفعلة الشنيعة ما زالوا طلقاء لم تصل إليهم يد العدالة لمجرد أنهم تابعون للحركات المسلحة ! .

ومن المضحك أن بعض الجهات ذات الصلة بالأجهزة الرسمية تسعى لتوسيع دائرة نفوذها وتعزيزه ، بمنح ألقاب تتعلق بالإدارة الأهلية من قبيل “عمدة مؤقت” ولا أدرى معنى ذلك ، ولكنه لقب يحمله عدد من الأشخاص الآن ، ويتلقون مبلغاً من المال لا يكفي لشراء أرخص وجبة في السوق . وكل ذلك من أجل شراء الضمائر بإعطاء هؤلاء مسميات جوفاء لا تحمل أي معنى وليست لها اختصاص إداري أو أمني ولكنها تحاول إشباع رغباتها في السلطة عبر هذه المسميات الهزيلة.

عموماً، من يعرف نظام الإدارة الأهلية يعلم أنه يقوم على مرتكزات راسخة من أهمها قانون الانتقاء الطبيعي وهو عملية غير عشوائية ، وحسب ذلك كانت الإدارة الأهلية يتولاها أشخاص عرفوا بالحكمة والحنكة ، سيما وأنهم أصحاب تجارب وتاريخ راسخ ومن أسر مشهود لها بالكسب التاريخي ، علاوة على الفضل وسعة الصدر ، وكانوا يتحدثون باسم قبائلهم ويمثلونها أمام الأطراف الأخرى ويدافعون عن حدودها وأراضيها بتفويض كامل من مجتمعاتهم المحلية. ولكن بروز قيادات تحمل ألقاب لا تقوم على تفويض أو مقدرات فعلية ربما يضعف مؤسسة الإدارة الأهلية بسلب بعض سلطاتها . وإذا حدث ذلك فسوف يزيد الطين بلة ، لأن الإدارة الأهلية ، كما هو معروف عبر جميع الحقب ، هي صمام الأمام الأول في المجتمعات الريفية والقبلية ، وهي إحدى ممسكات النسيج الاجتماعي في السودان ، فإذا رهنا إرادتها لأي جهة ، سلبنا سلطاتها التقليدية ، فعلينا الاستعداد لمزيد من الاضطراب والفوضى .

هذا لا يعني أن الإدارة الأهلية مبرأة من العيوب والتقصير ، ولكنها مع ما بها من علل تظل من أهم روافد الحكم ولوازم الاستقرار . ومن هذا المنطلق فإننا نهيب بالجهات التي تسعى لسحب البساط من هذه المؤسسة أن تحسب خطواتها بقدر من الوعي والحذر ؛ لأن الشعب السوداني ، خاصة في المجتمعات الهشة ، إذا جاز التعبير ، لا يحتمل مزيداً من الزعزعة والتشرذم . وهنالك قانون قائم ينظم ويحكم كيفية اختيار زعماء الإدارة الأهلية وكل ما هو مطلوب من الجهات ذات الصلة بالحكم الالتزام الصارم بنصوص وروح ذلك القانون ؛ حتى لا يسند الأمر لغير أهله وتضطرب أحوال الناس تبعاً لذلك .

السودان يمر بواحدة من المراحل الحرجة في تاريخه الحديث وهذا ما يقتضي ضبط الأمور كافة حتى لا نتعرض لما حدث في بعض دول الجوار العربي والإفريقي .

[email protected]

تعليق واحد

  1. الادارة الاهلية يا قش هي من مخلفات الماضي ولا تنتمي الي تركيبة الدولة الحديثة وهي ميتة منذ ثورة اكتوبر الخالدة، وهذا نفخ في قربة مقدودة. علي المثقفين مناهضة داء الادارة الاهلية بدل التطبيل لها.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..