مقالات سياسية

سياسة الوهم: وهم الطليعة والشعب المتخيل (1)

حمد الناير

أزمة السياسة السودانية الآن هي أزمة نظام حزبي. الحزب الحاكم الآن عاجز عن أن يحكم . ولك أن تسمى هذا الحزب ماشئت: حزب البشير ، حزب المؤتمر الوطني ، الحركة الاسلامية ، او الجبهة الاسلامية القومية أو حتى الفلول .

هذا الحزب عاجز عن الحكم الان مع نجاحه في السيطرة الامنية المهزوزة لحين ، الا ان الدولة السودانية تلفظ انفاسها الاخيرة تحت سيطرته .

من ناحية اخرى هنالك معارضة واسعة ضد حزب (الفلول) الحاكم الان، معارضة من قبل النظام الحزبي نفسه الذي يعاني هو الآخر من أزمة شواهدها ماثلة للعيان. مكونات النظام الحزبي المعارض ، الاحزاب جميعها ، غير قادرة على اسقاط نظام الفلول . والمفارقة أن الأحزاب جميعها تتفق على أن الفاقد في تجربتها الفريدة في المعارضة هو وحدتها ، لكنها عاجزة عن تحقيق هذه الوحدة . قسم من هذه الاحزاب ، يمثله الحزب الشيوعي السوداني، في حالة انتظار لمعجزة الوحدة – حسب شروطه – ويتوسل بوفائه العميق للشعب السودان وثوريته ومبدئيته ويناشد القوى (الحية) للإلتفاف حوله لتحقيق تلك الحلقة المفقودة لاسقاط النظام ولا يقبل التفاف وطني الا مثلما صورته مخيلته الثورية . بل طفق بعض كتابه في الحديث عن القوى التاريخية التي تم استبعادها عن الحكم منذ الاستقلال ، ولم يتبقى لهم الا الحديث عن مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية . والقسم الآخر من المعارضة الحالية، تحالف قحط ، يتمسك بتحالف تمت هزيمته ومحق رؤيته في التغيير ويرفض بعناد التخلى عن تحالف مرفوض ويغض النظر عن الفرص الجديدة للتغيير ، بل وعن بذله المحتمل في ظل ظروف جديدة ويتمسك بانجازات تأسست على بنية من الفراغ وبؤس النظر وسياسات غشيمة اودت بالفترة الانتقالية الاولى ، وربما يقودنا إصراره لإعادة انتاج نفسه وإعادة انتاج أزمة الحكم المقيمة في السودان.

الغريب في الأمر ان القائد للمعارضة الآن ضد نظام الفلول الحزبي جسم غريب على النظام الحزبي السوداني الذي عرف منذ النصف الثاني من اربعينيات القرن الماضي . هذا الجسم هو لجان المقاومة . هذه اللجان ليست جزء من النظام الحزبي السوداني ، وهذه هي المرة الاولى في تاريخ النظام الحزبي السوداني أن يتصدى لقيادة المعارضة لنظام ديكتاتوري ما جسم من خارج النظام الحزبي . اليس في ذلك مؤشر لازمة النظام الحزبي؟ اليس في ذلك مؤشر لازمة جناحي المعارضة السودانية التي هي في إنتظار جودو؟ قد يقول قائل “ان شباب حزبنا في قلب لجان المقاومة وأن الحزب جزء من هذا الحراك الهائل.” والرد في هذه الحالة بسيط: “أن هنالك جسد إجتماعي جديد يمهر بيانات الحراك ضد النظام يوميا، وليس حزبك أو تحالفك. القيادة هنا لجسد جديد اسمه لجان المقاومة وليس لحزبك او تجمعاتك النقابية التي اشقيتها وأضعفتها بإنقساماتك. هذا الجسد الجديد ليس احزاب السودانية. نحن نتحدث عن القيادة هنا يا فردة. إذن هناك أزمة فيك.”

الادهى أن المكونات الحزبية السودانية تظن انه في لحظة ما ستلتف حولها لجان المقاومة هذه وسوف تتوحد حول قيادتها لتقودنا الى النصر المؤذر تحت رايتها الحزبية او راية تحالفها المزعوم ، وفي بعض الاحيان يقول رموزها دون يشعرون: “نعم سنتبعكم يا لجان المقاومة الآن لاسقاط النظام لكن سنحكم بعد ذاك..” هذا جانب واحد فقط من أزمة النظام الحزبي السوداني يستدعي الوقوف على اوهام تاريخية حملتها الاحزاب السودانية جميعا بلا استثناء منذ ميلادها : أول هذه الاوهام هو وهم الطليعة أو الحق الإلهي في القيادة. وهذا ما اسميه وهم الطليعة القاتل ويلتصق به وهم آخر هو الشعب الوهمي المتخيل.

الاحزاب السودانية جميعها عبرت عن وهم الطليعة حين نظرت الى نفسها في مرآة بيتها وخرجت على الناس . عبرت عن ذلك بشكل او آخر : الاحزاب سمت نفسها طليعة الشعب، او الرائد الذي لا يكذب اهله ، المحرر ، حزب الاستقلال ، حزب الوسطية ، بل حزب الشعب.

بينما الخبرة السودانية والانسانية تقول لا توجد طليعة في هذا الواقع المعقد بتنوعه الفكري والثقافي والاثني والطبقي، ان شئت . مهام تحول السودان الى دولة مدنية يتطلب طليعة جمعية مكونة من المجتمع كله ، طليعة ضاربة الجذور في كل ركن من أركانه . وللاسف اي حزب سوداني ودون استثناء يعتقد انه وحده المجتمع كله والمنقذ والمخلص للشعب رغم لهجة التواضع الزائفة. يعتقد كل حزب سوداني انه وحده وقع على عاتقه دون غيره عبء التاريخ. يفاقم من هذا الاعتقاد أن جميعها تصدق ان هنالك شعب غامض ، يفتقد الوعي ، سوف يستيقظ ذات صباح ويغسل وجهه وينظر الى نفسه في المرآة ليفاجأ برؤية وجهه في هيئه حزبهم ويقول: “يا الهي كل هذا الزمن لم أدرك أنني الحزب الفلاني”. المشكلة انه لا يوجد شعب غامض ليغسل وجهه في ماسورة أو النهر. هذه الاحزاب نفسها تشكل معظم هذا الشعب وقواه (الحية) واكاد أقول هي الشعب كله – تلك الأحزاب مجتمعة – هي ذات نفسها ذلك الشعب. تلك الأحزاب مجتمعة ودون استثناء- هي الشعب. فعليها الا تنتظر كائنا لن يأتي أبدا.

لا يوجد شيء غامض غيرهم اسمه الشعب ولن يكون هنالك مفردا بصيغة الجمع بينها ليحسم بقية الاحزاب السودانية ويجلسها في كنبة الاحتياطي الطليعي. وعلى مستوى الفعل السياسي، تظل الأحزاب هي المنظمات الوحيدة ، حتي الآن، القادرة على تمثيل الشعب.

المشكل أنه ورغم تجريب وحدتها عشرات المرات ، عجزت عن فهم حقيقة الوحدة وجوهرها بل عجزت عن استيعاب حقيقة هذاالشعب الغامض الذي تنتظره . الأحزاب السودانية هي النفوذ الاخلاقي في المجتمع وعندما تتحد ، تتحد إرادة الأمة. يتحد الاستاذة الجامعيون والاطباء والأئمة والمؤذنون والزاهدون والمجاذيب والصعاليك وعمال الافران، وسائقي الدفارات واصحاب الحوانيت وعمال الكهرباء وبائعات الشاي وسائقي الركشات والممرضين والممرضات وعمال الموانيْ والجنود وضباط الصف وربات البيوت وبرج المطار والضباط وشرطة المرور والمحولجية وسائقي القطارات والدايات. عندما تتحد الاحزاب تتحد الأمة. عندما تتحد الأحزاب تخرج طاقة مهولة منبثقة من كل ركن في السودان لا يستطيع حزب وحيد أو حفنة الأحزاب توليدها.

عندها لن يحل السلاح قضية ، كما قال الشاعر . لم يسقط نظام عبود لان بعض كتائب الجيش في العاصمة تمردت، بل سقط لان المجتمع ممثل في أحزابه قال لا. لم يسقط نظام نميري لغيبة نميري في الولايات المتحدة وخوف عمر محمد الطيب من إنقلابات محتملة وتململ في المدرعات ، بل سقط لان الاحزاب السودانية قالت لا. ورغم ذلك لم تعلن الاحزاب السودانية طوال تاريخها مكمن قوتها حتى الآن. ولم تع قانون الانتفاضة او الثورة السودانية الأوّلي: توحدت الأحزاب، تسقط الحكومة. لم تتفق الأحزاب تعيش الحكومة (سنناقش ذلك أكثر في الجزء الرابع من هذه السلسلة).

أما الحديث عن لجان المقاومة التي تريد أن تصعد على صهوتها احزابنا الطليعية فحديث يطول. واقع الأمر أن لجان المقاومة رغم بسالتها التي هي بلا شك مصدر إلهام وعزة لكل سوداني ليست المخرج من ازمة الدولة السودانية والنظام الحزبي، وليست قادرة وحدها على اسقاط النظام فالمشكلة بنيوية. ورغم أيماني بأنهم الجمال الرهيب الذي يولد – وكأن وليم بتلر ييتس كان يكتب عنهم بالتحديد – ورغم ايماني انهم هم المعنيين بكلمة “جيلى أنا” أكثر من غيرهم تلك الكلمات التي صدح بها شباب الشعب -كهوله الان- قبل اكثر من نصف قرن. ورغم إجلالي لهم وهم يقولون كل اسبوع “نحن اليوم خارجون لنقتل”. الا انهم ليس الحل بل هم روح الأمة وحمضها الننوي وكرمها في البذل والعطاء. (وسأواصل الحديث عن لجان المقاومة على نحو أكثر تفصيلا في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة من المقالات). الحل يكمن في قانون الثورة السودانية الأساسي : وحدة الأحزاب السودانية. هي، لا غيرها الشعب الذي ينتظر نفسه.

((نواصل))

[email protected]

‫4 تعليقات

  1. .(( ولك أن تسمى هذا الحزب ماشئت: حزب البشير ، حزب المؤتمر الوطني ، الحركة الاسلامية ، او الجبهة الاسلامية القومية أو حتى الفلول))
    ده كلام غير معقول فالسلطه اليوم فى يد عصابه و حراميه و ليس حزب و الدليل على ذلك فى أنه سهل عليك دمج حزب البشير و الحركه الاسلاميه و المؤتمر الوطنى و الفلول فى حله السلطه . من كل كوم فيهم أجتمع الحراميه و مسكوا السلطه بالسوط و السلاح فبالله أبعد كلمه حزب دى عنهم لأنك حتحتاج ليها فى المستقبل و لك الشكر

  2. تحليل ممتاذ لواقع الحال السياسي في البلد ونأمل ان تكون الحلقة الثالثة بنفس القوة في التحليل.. بالنسبه لتعليق اخونا ياسر فأنا اختلف معك في ابعاد كلمة حزب عن الكيزان لانه لو طبقنا منطقك هذا فسنسحب كلمة حزب من كل الأحزاب السودانية.. لا أقول انهم حرامية لكن كلهم مارسوا نفس الأساليب القذره للوصول إلى السلطة دون التفات لمعاناة الشعب وتدهور البلاد ولم يفكروا في اتفاق الحد الأدنى لإنقاذ ما يمكن انقاذه بل يلحنون في الكلام مثل المنافقين لخدمة مصلحتهم الحزبية.

    1. الدمار فى هيكل الدوله و المجامع شارك فيه كل الاحزاب ولاكن بقدر كبير و تدمير هائل من قبل الكيزان و أذنابهم العسكريه و المدنيه فلا مقارنه بين الضب و التمساح إلا فى الشكل.
      المستقبل يحتاج لحفظ كلمه حزب نظيف من الاطماع و محصن بالوطنيه و هذا النوع من الاحزاب يجب حمايته من الآن من إستخدام القتله و السارقين و المغتصبين له.هذا هو المقصود يا Mr. Mohd

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..