مقالات وآراء

سياسة الوهم : وهم الطليعة والشعب المتخيل (2)

حمد الناير

لا سيبل لتأسيس الدولة المدنية في السودان الا بالاصلاح الحزبي . رغم ذلك ، لا وقت لدينا الآن لنقول للاحزاب السودانية أذهبي الى بيتك واصلحي من شأنك ثم تعالى لاسقاط النظام . نقول فليبدأ الاصلاح الحزبي الآن في خضم عملية اسقاط الإنقلاب وذلك بإصلاح الرؤى للذات والآخر والتخلى عن وهم الطليعة . ازمة النظام الحزبي عميقة وهي ما أنتجت الوضع العقيم الحالي ولا سبيل لحلها الا بقبول الآخر بل امكانية العمل المشترك مع هذا الآخر والعلم علم اليقين أنك كحزب وحيد ، او تحالف أحزاب ما ، لن يستيقظ هذا الشعب شديد التنوع ليرى في وجهك ملامحه (سأتناول ذلك على نحو اوسع في الحلقة الرابعة من هذه السلسلة في محاولة للمساهمة في رسم خارطة للطريق الى الأمام).
أود في هذه الحلقة التركيز أكثر على وهم الطليعة والشعب الخيالي في ممارسةالأحزاب من خلال مناقشة موقف أحزاب قحت او تحالف قحط وموقف الحزب الشيوعي الماثل الان في رفضهم للتوحد ضد الانقلاب الا بشروطهم . وهذا العجز عن الوحدة هو في تقديري العامل الاساسي بل الوحيد الذي يعطي للانقلاب شريان الحياة.

قحط ترفض التخلى عن تحالف تمت هزيمته تاريخيا . نعم ، ارتكب تحالف قحت من الاخطاء مايكفي لفرتكته والاعتذار الحار لشعب السودان ، والدليل الدامغ على ذلك وضع البلاد الحالي بعد إنقلاب ضباط اللجنة الامنية لنظام عمر البشير . الم تكن قحط الحزب حاكم ؟ تدهورت حياة الناس رغم عشرات المسيرات المحذرة والمطالبة بإصلاح الحال – لقاربة العام قبل الانقلاب – ولم تلتقط قحت بأس الشعب وتتمثله في سياساتها . ولم تثق قحط في الشعب وفي الشارع ولم تسع لاستغلال القوى الجماهيرية للشعب في الشارع وكأنها أعتبرت أن قضية الحكم أمر تضطلع به الصفوة في الغرف المغلقة ، الطليعة بكلمات اخري . ومع ذلك لا يمكن باي حال وصف سياسة قحت الغشيمة بالخيانة. أما الحزب الشيوعي فقد ارتكب ايضا من الاخطاء ما يمكن وصفه بالتنكر لخبرته التليدة في العمل الجماهيري ونصاع رؤية قادته التاريخيين فيما يتعلق بالواجبات اليومية للجماهير وقد طاشت رؤيته لحد الانخراط في نسخة من سياسة رزق اليوم باليوم ، يبدو انها فرضت عليه سنوات الملق الفكري ابان سلطة الانقاذ . ومع ذلك لا يمكن إنكار صواب رؤيته فيما يتعلق بالعسكر الاسلاميين والساسة المتأسلمين وريبته المقيمة فيهم . رغم ذلك تلبس الحزب الشيوعي وهم الطليعة .

سياسة قحط تمثلت في الخوف من الضباط الاسلاميين وميليشياتهم ووعدهم ووعيدهم أن البلاد ستتحول الى حريق ورماد في حالة الاسراع في إزالة النظام القائم – وليس البائد – بتغيّرات رادكالية. وقد تمثلت ايضا في نظرة اصلاحية (سميت خطأ بالبراغماتية) ترتأي الاصلاح التدريجي للعبث الذي تم بمقدرات البلاد لثلاثة عقود ، وتمثلت أيضا في الطموح الشخصي لقادة قحت والطموح الجمعي لمنظمات حزبية واعدة لكنها تستعجل طرق أبواب التاريخ مع انها لم تتخلص بعد من أمراض النظام الحزبي السوداني المزمنة واستنسختها في رؤيتها للسياسة كأمر صفوي يخص الطليعة والنخبة . ترتب على ذلك كله الاخطاء المعلومة بما في ذلك اهمال محادثات السلام في جوبا وتركها لثلة من سماسرة النظام السابق من العسكريين والمدنيين خلف الكواليس حتي ولّدت حاضنة لانقلاب الانقاذيين الذي كان يجري الإعداد له تحت انوفهم منذ اليوم الأول.
اما أكبر خطيئة للحزب الشيوعي فقد كانت تنكره للدور الدقيق الذي اختاره قادته التاريخيين له . وهو قيادة الجماهير من ادني الى اعلى . وقد كان أول اخطاء الحزب الشيوعي وحلفائه الانقسام الذي دفعوا اليه تجمع المهنيين دفعا . نعم ، انقسام تجمع المهنيين مسؤولية مشتركة يتحملها الشيوعيين وأحزاب قحط ولا براءة لأحد . لكن تخلى الشيوعيين عن حكمتهم في العمل النقابي وإرثهم التاريخي أمر يدعو للحسرة . خبرة الشيوعيين تقول أنه كان من الواجب بناء النقابات من اسفل ثم الصعود الى اعلى لبناء تجمع للنقابات . وهذا ليس بجديد بالنسبة للحزب الشيوعي، فقد أفني الشيوعيين مع رفاقهم النقابيين من الحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة والبعث والناصريين والمستقلين جل سنوات الديمقراطية الثالثة من أجل هذه الغاية النبيلة : بناء تجمع المهنيين طوبة طوبة من اسفل الى أعلى فتجمع المهنيين له جذوره. لكن بدلا عن ذلك اختار الحزب الشيوعي السيطرة على تجمع المهنيين من اعلى وأهدر وقت عزيز في المماحكات آملا في تحويل مقدرات الثورة السودانية في زمن وجيز والانتصار لها عن طريق تجمع المهنيين . هذا هو وهم الطليعة عندما ينسى المرء تاريخه وينخرط في حليب الاحلام الرائبة.
ولا تقل مساهمة جناح تجمع المهنيين الموالي لقحت في تدميره عن مساهمة الشيوعيين . كان ذلك اولا بمحاولة تصوير دوره كمساند لرؤية أحزاب قحت (المعتدلة) ، وثانيا بإنخراط قادته الإعلاميين في تصريحات ما أنزل الله بها من سلطان تصب في مصلحة سياسات قحط ، بالاضافة لخمول دوره في السياسات الكبرى مثل سياسات السلام لحد تحويله الى شبح في محادثات جوبا يبصم ويرحب ويحذر .وبالتراجع غير المنتظم عن إنتخابات ما حدثت في هيكله ، واخيرا بجعل التجمع في نهاية الأمر مقطورة لسياسات احزاب قحت ورؤيتها. وقد كانت نتيجة فعل الجناحين – الشيوعيين وقحط – فقدان جماهيرالشعب السوداني للجسم الذي نال ثقتها في أحلك الاوقات وتحول تجمع المهنيين الى ظل باهت (مزدوج في عز الظهيرة) وفي أحسن الأحوال تحول الى صدى لضمير حي يتبع مبادرات لجان المقاومة فيما تقول ، ولكن لم يعد صاحب الجلد والرأس بعد أن شل نفسه بالانقسام . هذا وهم الطليعة في أقصى تجلياته.
ثم ، فقدت قحت والحزب الشيوعي معا الاتجاه في الاقتصاد . وللمفارقة كان ذلك يعتبر مصدر قوة تحالف الاحزاب بعد سقوط الانقاذ قبل أن ينفرط عقدها : الوعد بحياة افضل لجماهير العاملين بعد ثلاثين عاما رمادة . أكتفت قحت والحزب الشيوعي بتوصيات ما يسمى باللجنة الاقتصادية ومناطحة تعود الى ستينات القرن الماضي مع منظمات المال الدولية وتجاهل قوانين العولمة الحالية ونظام الديون والمصارف العالمية والاستدانة والنظام العالمي المالي الذي يكاد الان أن يفتك بدولة شبه نووية تسمى إيران . لم ينظم الحزب الشيوعي حملة واحدة مركزة على ال 82% من ثروات الشعب التى تستولى عليها المنظمات الامنية لنظام الاسلاميين . اما قحت فتجاهلت هذا الأمر تماما وقد كانت الحزب الحاكم . وعندما استنجد رئيس الوزراء بالحركة الجماهيرية حول هذه ال 82% ، لم يحرك الحزب الشيوعي وايضا لم تحرك قحط حملة واحدة في اتجاهها . حملة من شأنها أن تحشد الاقتصاديين ، دعك عن الجماهير ، واكتفى اقتصاديو قحط والحزب الشيوعي بعد اشهر من إعلان رئيس الوزراء بمقالات مكرورة لا تحرك ساكن بالمقارنة بقوتهم الجماهيرية الكامنة. لم تقدم الأحزاب تحليلا واحد لالهام الشباب مثلما قدمت لجان المقاومة في الشمالية في غضون الايام الماضية من معارف حول مشكلة الصادر الى مصر والتصنيع والضرائب والجمارك وإنتهاك جهاز الدولة بواسطة المطففين والمرابيين . ليس في وسع أحد أن يقول غير أن هؤلاء الشباب “ادخلتهم يدُ الله في التجربة” .

بلغت أزمة الحزب الشيوعي في رفضه للآخر وتمسكه بوهم الطليعة حد نكران التاريخ ولي عنقه وسؤ الفهم في تفسيره وتمثل ذلك في كلمة الميدان يوم الخميس 10 مارس 2022 . ذكرنا الحزب الشيوعي انه الحزب الذي اقترح الاضراب السياسي والعصيان المدني في مقاومة الدكتاتورية الاولي. وهذا صحيح وموثق ونتفق معه في ذلك. وذكرنا ان الاحزاب السودانية رفضت الفكرة في البداية وهذا صحيح جزئيا فقد رفضتها الاحزاب المذكورة وتقبلتها بعض أجنحتها خاصة بين النقابيين الاتحاديين وجل طلابهم والافندية القوميين العرب وبعض رموز حزب الامة. وتمضي الكلمة لتأكيد دور الشيوعي في ذلك والتصاقه بالجماهير وتدعو لتكرارها الان . لكن اقفلت كلمة الميدان حقيقة تاريخية هامة وهي ان هذه الاحزاب بما فيها حزب الامة والاتحاديين والاخوان المسلمين آمنت في نهاية الأمر ، بل وشاركت بكليتها في الاضراب السياسي والعصيان المدني ولولا مشاركتها وبذلها لما كانت أكتوبر ولما كان أضراب سياسي او عصيان مدني .
أما قحت التي تتلبسها الآن أزمة النظام الحزبي السوداني من رأسها الى اخمص قدميها وتقرأ من كتابه البالي تتوهم أن التمسك بتحالفها هو واجب الطليعة أو الصفوة في التقاط السلطة التي هي الآن ، حسب تصورها ، ملقاة على قارعة الطريق بعد اسقاط الانقلاب الحتمي . وتتوهم أن الحزب الشيوعي هو المنافس الوحيد لها. بل تقدم قحط على لسان أحد قادتها والوزير السابق في حكومتها المطاح بها اقتراحا بالوصول الى آلية محايدة متوافق عليها لنقل السلطة ، بعد اسقاط الانقلاب طبعا . آلية ، كما عبر الوزير ، “تقلل من التنافس حول السلطة”. الوزير المحترم يدين الحزب الشيوعي على تكالبه على السلطة وفي نفس الوقت يرفض النظر لتمسكه بتحالفه كتكالب على السلطة . لا تود قحط حتي التقاط انفاسها لتنظر الى الوراء او الأمام إلا من خلال السلطة التي لابد أن تؤول الى طليعة ما .
الحزب الشيوعي وأحزاب قحت – كل على طريقته – في تقمصهم لدور الطليعة الصمدية التي يجب ان تحكم ، ينتظرون بمعجزة ما أن تتبعهم لجان المقاومة او بعضها ، وأن ترى لجان المقاومة ملامحها فيهم. ولكن هيهات. لجان المقاومة وحدها غير كافية لاسقاط النظام ، ولا بديل لوحدة الاحزاب السياسية السودانية ، مهما بلغت ازمتها ، لاسقاط النظام . هذا قانون الثورة السودانية الأساسي: مقدرة الاحزاب السودانية على العمل سويا . هذا هو العامل الحاسم في إسقاط اي النظام مهما كان . وربما تكون خطوة في إتجاه اصلاح النظام الحزبي التخلى عن وهم الطليعة والصفوة وقد تكون فرصتنا الاخيرة نحو استدامة الديمقراطية .

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..