
لجان المقاومة نفسها تعبير ساطع عن ازمة النظام الحزبي فقد تصدى جسد اجتماعي جديد لقيادة المقاومة الآن. قد لا ندرك الان بصورة كلية مدي تأثير هذا الجسد على السياسة السودانية إذا حدث تحول الى السلطة المدنية بالتي هي أحسن. ولكن من الواضح أنها قوي إجتماعية كبرى يركن لها في التغيير بل هي حركة إجتماعية ستغيّر تصورات الاحزاب عن نفسها وستعيد تعريف النظام الحزبي السوداني والدولة السودانية، بل ستساهم في إعادة بناء النظام الحزبي. عندها ستعدّل بعض الاحزاب من نفسها وتتحول الى قوى ذات شأن وستزوى احزاب اخرى وبعضها سيندثر وبعضها سيموت موتا سريريا وربما تنشأ احزاب جديدة.
ولكن هذا لا ينفي أن حركة الشباب تمت بوشائج القربي للنظام الحزبي القديم بل تدين بأبوته مهما انكرت أقسام منها وانخرطت في ممارسة شعيرة قتل الأب. المطالب نفسها هي تلك التي رفعتها الاحزاب في لحظات وعي النظام الحزبي القديم النادرة (ميثاق 27 أكتوبر 1964، مقرارات مؤتمر القضايا المصيرية 23 يونيو 1995) . التقاليد نفسها: تقاليدها النضالية في التظاهر، البذل والاقدام، الاحتفاء بالشهداء، الاغاني والاهازيج والهتافات هي من تقاليد الأب، النظام الحزبي. بيناتها ومنشوراتها، وإن كانت أكثر رخامة والتصاقا بآمال الشعب وآلامه وباليومي، هي ايضا من تقاليد الأب الحزبي. احتفاءها بالشهداء وقوة الشكيمة ساعة الفقد أسسها الأباء. وربما يكون افضل فضائل ميراثها من الآباء الحزبيين هي السلمية – رغم انخراط الآباء القديم في الانقلابات ومحاولات قلب السلطة بالقوة في مناسبات عدة الى أن ثاب سوادهم الأعظم للرشد. ولذلك تسعي هذه الحركة لحسم الأمر بسلمية في أطار تعديل النظام الآيل للانفجار. هذه الحركة الشبابية هي جسد اجتماعي جديد ولكنه يحمل سمات القديم على نحو غير مستكشف الآن بصورة كلية.
وهنا يبرز سؤلان لابد من مواجهتهما بكل وضوح وصراحة. السؤال الأول: هل تستطيع حركة الشباب وحدها شق الطريق نحو الدولة المدنية؟ هذا أمر ليس من المرجح. هي مثلها مثل الحركات الاجتماعية الكبرى – مثل حركة الحقوق المدنية الامريكية، حركة الطلاب والشباب في فرنسا 1968 وغيرها من دول أوربا وأمريكا الشمالية – حركات تسعي لتغيير الترتيبات الاجتماعية ولا تسعى لاستلام السلطة. مثل هذه الحركات تنبثق الى الوجود تحت ظل الازمات الكبرى، عندما تمسك الأزمات بخناق المجتمع وتهدد بقاءه ترتيبات لم تعد صالحة. وهذا ما حدث بالضبط في اوربا وامريكا الشمالية. إذن هي حركات مصممة لتغيير القيم والمفاهيم وأسس الدولة ولكنها غير مصممة على الاستيلاء على السلطة. وقد بلغت أهدافها في تغيير تلك المجتمعات مرة والى الأبد بل لايزال اثرها باقيا الى اليوم فيما يتعلق بالحريات وحقوق المواطن.
ولكن أهم من ذلك كله علينا أن ننظر الى واقعنا اليوم. عندما نحسب القدرة والإمكان نجد أن لجان المقاومة تواجه بنية إجتماعية قديمة تتشظي الآن لحد فقدان الأمن في قلب عاصمة البلاد دع عنك بوادر الحرب الشاملة في دارفور وغرب البلاد. هذا عبء لا تستطيع أن تقوم به حركة إجتماعية وليدة تاريخ بداياتها لا يتعدي العقد ونيف أذا حسبنا اسلافها المباشرين مثل حركات قرفنا والتغيير الآن وغيرها من الحركات الشبابية السياسية والمدنية. مثل هذا العبء يتطلب استنهاض مؤسسات عتيقة في المجتمع تتمثل دون مواربة في النظام الحزبي القديم نفسه. هذه البنية الاجتماعية التي تتفسخ الآن لها جذور ومراسي تتجاوز مقدرات قوى اجتماعية جديدة تبزغ الان. الأحزاب السودانية، رغم أزمتها، متجذرة في أغوار عميقة من المجتمع ولها نفوذها الكامن. ولكم ما أغاظني الزعم الجاهل أن حزب الأمة لن يتحصل على اصوات كافية في اي انتخابات قادمة بسبب الحرب في دارفور ونهوض الحركات المسلحة الجديدة. أي حركات مسلحة هذه؟ اي تغيير في الخاطر والطمأنينة أنجزته الحركات المسلحة لأهل دار فور حتي يتلاشي شبح حزب الأمة من دار فور؟ السياسة ليست هي الجديد، بل هي ما ينفع الناس حقيقية او متوهما. لا يزال الرأسمال الاجتماعي المحتمل لحزب الأمة أكبر من تاريخ أي حركة مسلحة وربما يلعب هذا الحزب، في ظل ظروف جديدة مع رياح الاصلاح الحزبي، دورا غير متصور الآن في حقن الدماء في الاقليم والعيش السلمي بين مكوناته. وهذا يصح على جميع الأحزاب دون استثناء. هناك فاعلون آخرون في المجتمع لا تستطيع لجان المقاومةوحدها التعامل معهم. بل لابد من توحيد الاحزاب السودانية فهي ارقى عقائد السودانيين في السياسة والتنظيم والفعل والانجاز على اختلاف مشاربهم رغم أزمتها. ويجب ان لاننسي أن هؤلاء الأعمام والعمات والخيلان والخالات، بل الاجداد والجدات صمدوا في أحزابهم وتمسكوا بها رغم فساد الحكم والقتل وبيوت الاشباح والملق وخيبات الأمل وفساد المزاج. ورغم كل ذلك لا يزالوا يجتذبون اليوم عضوية جديدة. إذن هذه قوى إجتماعية – في حال توحدها- لها نفوذ أخلاقي وأحترام بين الناس كفيل بإقتلاع اي بندقية في السودان. إذن لا بد من استنهاض عناصر النظام الحزبي القديم وعلى وجه التحديد المكون الديمقراطي في النظام الحزبي للنهوض والاضطلاع بمسؤولياته لإنقاذ البلاد. لابد من حقن المكون الديمقراطي في الاحزاب السودانية بهذه الطاقة الجديدة، حركة الشباب مجتمعة.
السؤال الثاني: هل في ظل هذا الوضع والبنية الاجتماعية الآيلة للانفجار الآن، هل تستطيع لجان المقاومة في تحالف مع حزب وحيد أو مجموعة من الأحزاب دون الاخرى إنقاذ البلاد؟ في الحقيقة هذا أيضا ليس من المرجح، بل خطر. مجرد محاولة الاحزاب لفعل ذلك ستترتب عليه عواقب وخيمة ليس فقط على حركة الشباب – خميرة الأمل الان في المقاومة، بل على مستقبل البلاد نفسها. نعم، حركة الشباب جسد اجتماعي جديد، ولكنه ايضا يحمل سمات القديم في تكوينه لهذا السبب بالذات ستكون هذه الخطوة غير محمودة العواقب، فالحركات الاجتماعية في نهاية الأمر تتأثر وتؤثر على المجتمع. علينا فقط أن نتذكر أزمة النظام الحزبي الداخلية وهو في ريعان شبابه بل وهو طفل بعد. إنقسمت حركة الاتحاديين الأوائل الى اقسام بعد أعوام قليلة من تأسيسها في اربعينات القرن الماضي. فقط انظر لأحزاب الاتحاديين اليوم وعددها. انقسم الحزب الشيوعي قبل أقل من عقد من تأسيسه وواصل الانقسام في 1970 بل حتى في اواخر التسيعنات من القرن المنصرم. انقسم حزب الأمة، بل إنقسمت عائلة الامام المهدي في خضم أزمة النظام الحزبي في ستينات القرن المنصرم وواصل حزب الامة الانقسام حتي اليوم. في ظل الاستقطاب الحاد في المجتمع تنقسم الاحزاب والحركات الاجتماعية على نفسها وهذا قانون يكاد أن يكون اشبه بالقانون الطبيعي وقد اثبت السودانيون موهبة عظيمة في الأنقسام وتأسيس الحركات الجديدة، فما هو العاصم لحركة لجان المقاومة من الانقسامات الآن؟ عندها سيعاد انتاج الازمة على نحو أفظع مما كان وسيواجه الكيان السوداني مصير لا أحد يستطيع التكهن به الأن.
أذن فمن الاحرى ان تتوحد الاحزاب وأن تصون وحدة لجان المقاومة وتبعد عن إمتحان وحدتها. التخلى عن وهم الطليعة يقترن بالفعل والإنجاز. اول خطوات الإنجاز هي القدرة على العمل سويا مع الآخر في سبيل الحقوق والحريات مهما اختلفنا مع هذا الآخر، وهذا هو جوهر الديمقراطية.