بروفايل في ذكرى حميد .. ما بين أشواك الفلاحين وأشواق الشعراء أشجار من الحب والزهور المتشابكة

في شعره الكثير من مكونات الطبيعة البكر التي أنجبته، وصاغت وجدانه:
من خلال قصائده نقل مفردة الشمال إلى كل ربوع السودان:
الخرطوم: محمد إسماعيل
تفتقت شاعريته منذ زمان باكر، وسال دفق بوحه وفوح عبيره وتعبيره يضمخ الساحات أريجاً في كل الأرجاء وهو ينطق بلسان عاميّ مبين معبراً عن آمال الشعب.. وأشواقه وأشواكه.. وشؤونه وشجونه.. وانتصاراته وانكساراته.. وقد صلته الغربة بلهيبها الحارق فتكشف معدن الذهب في وطنيته المتوطنة، حتى صار يستجدي الحمام أن يحمله معه أو أن يحمل عنه ما يحسه من ألم وتشظٍ: سوقني معاك يا حمام.. سوقني محل ما الحبيبة قريبة تراعي الغرام
من مواليد نوري من العام 1957- ورحل في 20 مارس 2012- والآن تطل علينا ذكراه –
زاول كتابة الشعر في المرحلة المتوسطه أول قصائده الناضجة التي انطلق منها كانت (عيد ريدتك) في الصف الثاني وسطى بمدرسة نوري الغربية معهد نوري سابقاً و(طعم الدروس) ألحقته الأغنيات بركب شعراء الدليب وكان محي الدين اليمني أول فنان يتعامل معه بهذين النصين إلا أن فضل انتشاره كان مع الفنان محمد كرم الله بأغنية (طعم الدروس) والفنان صديق أحمد في أغنية (عيد ريدتك)، وجاء التعامل الثاني مع الفنان محمد جبارة (يا عيونك لم تبتسم)، ومن ثم أغنية نورا التي كانت في العام 76-77 ومثلت تحولاً واضحاً في خارطة الغناء بعد ثبات الأقدام في ساحة الغناء انطلق التعامل ليشمل الفنان يس عبدالعظيم ومصطفى سيد أحمد وعقد الجلاد في بداية الثمنينيات..
حميد صاحب مشروع شعري لم يكتمل بعد:
يصف الأديب صلاح هاشم السعيد عطاء الشاعر حميد الأدبي بأنه (مشروع شعري) لم يكتمل بعد، ولا عجب أن هذا الافتراض محل إجماع كثير من الأدباء والنقاد؛ لأن إشكالية ذلك المشروع تكمن في حب الوطن، ومعاداة ظلم الحاكمين، وتحريض المحكومين على مدافعة الظلم).
الوهج الشعري:
كان حميد أحد صناع انتفاضة مارس أبريل- عام 85 بشعره مع شعر صنوه القدال والدوش ومحجوب شريف وآخرون ذلك الوهج الشعري الذي كان حادياً لقوافل الذين خرجوا للشوارع وهم يعلنون العصيان المدني ويذهبون بالديكتاتورية الثانية.. حميد أحد صناع تلك الانتفاضة المجيدة وقد فرخ اتجاهه الشعري الباذح المئات من الشعراء الجدد.
كتبت رباح الصادق المهدي عنه قائلة: (الراحل محمد الحسن سالم حميد صاحب إحساس متميز ومدرسة متفردة.. عاش عاشقاً لوطنه الأم وانتقل الى رحاب ربه مبكياً عليه متوسداً هموم الوطن الأكبر.. حميد كان أطول نخلات المفردة الجميلة في بلادنا.. آيقونة صدحت بصوت الكادح والفقير والمحروم كان وسيلة اتصال جماهيري استطاع من خلال قصائده أن ينقل مفردة الشمال إلى كل ربوع السودان، وصاحب تجربة فريدة)
ويرى الشاعر إسحاق الحلنقي (أن الراحل محمد الحسن سالم حميد أنشأ تجربة جديدة بمشاعر الإنسان السوداني من خلال ميله الى الرمزية بالإضافة إلى أنه كان يكتب (المفردة المحلية البسيطة)، وكان مؤمناً تماماً بأن الكلمة الحقيقية هي سبيل الوصول إلى قلوب الناس).. الروائي الراحل عيسى الحلو كتب على صفحات الرأي الآخر حول رحيل حميد قائلاً: (جاء رحيل شاعرنا الكبير، كضربة نجلاء في صدور من يحبون شعره المتوقد حيث الآمال العراض في حياة سودانية عميقة الفرح ومفعمة بالشجن، وكان شعر حميد يتدفق متوهجاً، ويسترسل مخاطباً الوجدان والوعي السوداني العام، حميد.. في شعره.. يحدثنا عن مشاعرنا نحن.. لا مشاعره هو.. فهو صوت ضمير المتكلم بصيغة الجمع.. وصوته هنا يجئ ليحيط بنا من كل حدب وصوب.. يرحل بنا ومعنا في الجهات الأربع.. غرباً وجنوباً، أفريقياً وشرقاً وشمالاً عربياً.. يطوف بنا في أعماق ذاكرتنا.. فنرى صورتنا ونتعرف على هويتنا في ماضي حياتنا وحيواتنا السابقات.. كما نرى صورنا الراهنة على سماء حاضرنا المتطلع لآفاق الآمال والأشواق في بناء مستقبل زاهي الاخضرار، وتدور حياتنا مع أغنيات حميد مليئة بالأفراح والأحزان والأشجان.. بالتفاؤل وبالخوف من المجهول والآتي.. ونواجه المصير كما فعل (عم عبد الرحيم) في مسألة فائقة وهو يدور مع الأيام كالسواقي التي تدور مع دورات الألم في ضيم، ومع دورات السعادة المفاجئة أحياناً).
الحرف الناضح بحب وطن:
محمد الحسن سالم حميد.. بدا متصالحاً في رحلته التي عصفت بها الظنون، مخلّفاً تركةً مثقلة من الحرف الناضح بحب وطن والقائل بحقيقة الانتماء، متصالحاً مع كل السودانيين وهو ما أكّده حينما حاول الكثيرون اختزال كلماته وشعره وقصائده في موقف سياسي – حميد” شاعر الطين والمزارع والشجر والعصافير في شعره الكثير من مكونات الطبيعة البكر التي أنجبته، وصاغت وجدانه، وحشدت ذاكرته بالجمال الصافي الأنيق، فكان وفياً لها فأعاد إنتاجها صوراً بالغة الشاعرية والرفعة في نصوصه لترصع أشعاره بالجمال الباذخ الرفيع الذي جعل من شعر حميد نسيجاً وحده تقاس عليه قامات القصائد.
تضامن إنساني:
تميزت تجربة مصطفى وحميد في عدة جوانب، فقد تميزت هذه التجربة ببُعد نضالي وتضامن إنساني وجمالي ليس مع الغلابى والمساكين في السودان فقط، بل اكتسبت صفة العالمية ولو قدّر لهذه الأشعار أن تترجم لوجدت نفس الرواج والقبول الذي وجدته في داخل السودان!
ويلحظ المتابعون أن الكثير من الأغنيات التي جمعت بين الاثنين مشبعة بالدراما والمشاهد المتحركة وعلى رأسها (عم عبد الرحيم) و(يا مطر عز الحريق) و(نورا) إضافة للعديد من الأشعار المطولة التي كان يعطيها بإلقائه المتميز بُعداً مسرحياً لا يخلو من الموسيقى التصويرية المعبرة.. هكذا كان الرائع حميد يختار شخصيات مشروعه الشعري بعناية فائقة، وينسج خلفها لوحات موحية بالظلم، والاستبداد، والفقر، وضيق ذات اليد، ثم يجعل تلك الشخصيات تتحرك بحرية كاملة على مسرح الأحداث، الذي يعُج بمشكلات أهل السودان، وبذلك يحاول أن يخلق وعياً جمعياً من خلال السرد القصصي للنصوص الشعرية، ومضابط الحوار بين أطراف القضايا المطروحة
ويكفي أن قصيدة (عم عبد الرحيم) هي التي توجت الرائع مصطفى سيد أحمد كرائد من رواد الاغنية في السودان، فبقدر ما في القصيدة من إبداع وروعة تجد ذات القدر من البساطة التي تزيدها ألقاً حيث يجد المتلقي مهما كان مقدار ثقافته وعلمه يجد نفسه يلم بكل ما فيها، ويميز قصائد حميد أكثر أنه يكتب من حيث هو الإنسان القروي البسيط وفي شكل مسرحي تعيش كمتلقى كل تفاصيل الشعر بخيالك وكأنك تعيشها اللحظة.. حتى في اختياراته لعنوان شعره تجد البساطة (عم عبد الرحيم – ست الدار – السرة بت عوض الكريم وغيرها)..
ما بين أشواك الفلاحين وأشواق الشعراء:
كتب الشعر كثيراً وطويلاً، مستخدماً شخصيات حقيقية من الواقع البسيط أعطت مطولاته الشعرية طعماً ولوناً مميزين يعرفانه الناس على الفور، وحمتها من الملل.. سئل مرة عن تعريف الشعر وعلاقته بالفلاحين الذين دائماً ما يستفتون بعضهم في مفرداته المستوحاة من بيئتهم، فقال: القصائد كالأشواك في أرجل الفلاحين. تؤلمهم ويمشون عليها، ومتى ما توفر لهم الوقت وضعوا على مكانها بعد جرح الموضع قليلاً من الأعشاب.. ويتركونه لأيام، وقتها يكون خروج الشوكة سهلاً وممتعاً للفلاح خاصة مع حصحصة الزوجة للشوكة في كل الأنحاء، وبالضغط الخفيف تنط الشوكة فيرتاح الفلاح برهة وهو يهيء أقدامه لشوك جديد، وإن كثيراً من الأشواك تزوغ في اللحم الحي ولا تعرف طريقها إلى اليابسة مرة أخرى، وكم من الفلاحين ماتوا وبين أجسادهم أشواكاً تكفي لبناء زريبة متواضعة.. وما بين أشواك الفلاحين وأشواق الشعراء أشجار من الحب والزهور المتشابكة..!
ملمح آخر يؤكد هذه السمة المائزة وهو مزاوجته بين الهم المحلي والهم العالمي في نسيج خلاق، يعكس جوهر الوحدة الإنسانية على اختلاف صروفها وظروفها: من حقي أغني لشعبي من حق الشعب عليّ..
لا بإيدك تمنع قلبي لا قلبي كمان بإيديا..
علمني أغني الطين المخرطة والطورية..
الناس الصابرة سنين بالحالة الما دغرية..
ومن حقي أغني العالم إبداع وعلم حرية..
إنساني شعوب نتسالم.. نتسالم بحنية..
على نخب الود نتنادم..
لا جنس ولا لونية
عَبَر حميد النيل إلى فضاء السودان الرحب، وأغدق عليه من نبض مشاعره، وتمكن من حمل بذرة الوطن الكبير بتنوعه الثقافي ولامست قصائده عاميّاتٍ انتشرت في كافة بقاع السودان الكبير.. لم ينزع لباس اللغة الثقافية الخاصة بموطنه الأول، بل حمل البيئة في مخادع ليله وحمل شعلتها المنيرة في صدره، وجمّل بها بيوت الوطن المتعدد المشارب والسحنات والأعراق واللغات وحاز شعرُه المكانة العالية في وجدان العامة والخاصة
هي.. أقيفن.. نورا فيكن
نورا نقاحة الجروف ..
نورا حلابة اللبيني.. للصغيرين والضيوف
نورا ساعة الحر يولع.. تنقلب نسمة وتطوف
تدي للجيعان لقيمة
وتدي للعطشان جغيمة
والمخلي الحال مصنقر..
في تقاة الليل تندقر.. تدي لي باكر بسيمة
تكسي للماشين عرايا وفوقا انقطع هديما
ما عرفتن نورا إنتن.. قولن إنتن شن عرفتن
-===-
اليوم التالي
في ذمتك عمرك سمعت الراحل حميد قال (الفلاحين)؟!! حميد رحمه الله يقول المزارعين و الترابلة و عمال الكلات وابدا مسمعناه قال الفلاحين دي يقولها واحد جايي من مصر او متمصر او غرقان في الثقافة المصرية