ھل الدنیا علي شفا حفرة !

الفاضل عباس محمد علي
في مقال سابق ، ظننت ، وبعض الظن إثم ، أن فلادیمیر بوتن ینفذ سیاسة السیر علي حافة الھاویة ، (أو السواقھ بالخلا) ، ولكنھ سیعدل عن رأیھ في آخر ثانیة ، علي طریقة
المیلودراما الھندیة ، إذ أنھ من غیر المنطقي أن یفتح نیرانھ القاتلة علي الأوكرانیین بني
جلدتھ ، والدم أغلي من الماء ، بلا مسوغ مقنع ، فلا بد أنھ سوف یجنح للتفاوض السلمي مع
حكومة كییف الشرعیة القائمة ، بعد أن یكون قد ردع وروّع الأوكرانیین بعض الشيء ، ورفع
سقف مطلوباتھ وجعل یده ھي العلیا ؛ وعلي كل حال فإن المطالب الروسیة ممكنة التنفیذ
وبسیطة ویمكن حسمھا في جلسة أو جلستین : فالحكومة الروسیة ضد دخول أوكرانیا في
الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو ، وترید من أوكرانیا أن تعلن الحیاد مثل فنلندا والنمسا.
بید أن بوتن كان یستبطن نوایا عدوانیة توسعیة شریرة لم یشھدھا العالم إلا في عھد ھتلر وموسلیني ، اضف لھما جوزیف ستالین والجیش الأحمر الذي أسكره الانتصار علي الألمان ، فسرح في شرق أووبا انقلاباً وراء انقلاب فبركتھ الكي جي بي ، وفرضاً
لحكومات puppet موالیة لھ خلق منھا حلف ورسو ، (أسماھا الدیمقراطیات الشعبیة – وھو إسم یتردد ھذه الأیام للدویلتین – دونیتسك ولوھانسك – اللتین یحاول جیش بوتن استیلادھما بعملیة قیصریة من أوكرانیا باعتبارھما یحتویان علي أقلیة روسیة) . ومنذ شھر أخذت الماكینة العسكریة الروسیة تطحن الشعب الأوكراني وتھشم بنیتھ التحتیة بلا رحمة أو
انسانیة ، والأیام الكالحات مقبلة لما لا نھایة فیما یبدو . وأخذ المراقبون یحسون بأن روسیا ربما تلجأ للأسلحة الكیماویة كما فعلت في سوریا قبل ثمان سنوات ، ولا یستبعدون القنبلة
لتسحق مقاومة الشعب الیاباني العنیدة . النوویة نفسھا كما فعلت الولایات المتحدة بالیابان عام 1946 في ھیروشیما ونجازاكي وھكذا ، أصبح العالم مرة أخري علي حافة الھاویة – ھل ستتحول ھذه العملیة التي قال بوتن إنھا بسیطة ومحدودة إلي حرب نوویة؟ ھل یمكن أن تتحول إلي حرب عالمیة
ثالثة تصطف فیھا دول نوویة أخري إلي جانب روسیا – تحدیداً الصین وكوریا الشمالیة ،
وربما إیران وباكستان – في مواجھة حلف الناتو بقضھ وقضیضھ ؟ احتمال، رغم أنھ بعید .
2 . ھل السودان كذلك علي حافة الھاویة؟ .
فبینما تواجھ أوروبا ومن خلفھا العالم ھذه الأسئلة الوجودیة ، یواجھ السودان كذلك أسئلة وجودیة لا تقل خطورة رغم أنھا مختلفة بعض الشيء : فالسودان بلد الملیون میل مربع الذي حافظ علي وحدتھ منذ مملكة سنار 1504 – 1822 تقلص إلي ثلثي تلك المساحة بسبب انفصال الجنوب عام 2011 ، وظلت تتناوشھ الحروب الإثنیة الإقلیمیة
بدارفور وكردفان وجنوب النیل الأزرق والشرق ، وتمظھرت تلك المناوشات في شكل مجموعات قبلیة ومناطقیة مسلحة منزویة ببطون العاصمة المثلثة ، لا یقل عددھا عن ثمانیة
وعشرین ، وإذا طارت قذیفة طائشة من مجموعھ واستقرت لدي أخري منافسة فإنھا ستكون كالطلقة التي انطلقت في سراییفو وقتلت الأمیر النمسوي فرانتز فیردناند وزوجھ في 28 یونیو 1914 وتسببت في الحرب العالمیة الأولي . ومن المستبعد أن یتسبب السودان في حرب كونیة أخري ، ولكنھ سینفجر ویتصدع مثل الاتحاد السوفیتي ، أو قل دولة یوغسلافیا التي خرجت منھا تسع جمھوریات بنھایة القرن الماضي ؛ وسووف تتحقق الصوملة التي طالما حذرنا منھا منذ أیام نظام البشیر الإخواني.
إن كل الدلائل تشیرإلي أن السودان موعود بانفلات أمني فظیع وحرب أھلیة
كالتي ظلت تعاني منھا الصومال منذ نصف قرن ، والأسباب عدیدة یدركھا الجمیع ولا یفعلون
شیئاً لتداركھا :
1 . فلقد تردي الوضع الاقتصادي لدرجة غیر مسبوقة ، وما عاد الشعب
قادراً علي تحمل نفقات الحیاة ؛ وثورتھ التي لم تخمد منذ أكتوبر
الماضي ، بل منذ دیسمبر 2018 ، ھي ثورة جیاع في حقیقة أمرھا ، یقوم بھا شباب وكنداكات یأتون راجلین من أقاصي الأرض
وكراً وفراً مع باشبزوك الشرطة والملیشیات علي بطون خاویة – (ما فاكین الریق) ویبیتون علي الطوي ، ویقضون الیوم كلھ ھتافاً فأي ثورة جیاع أكثر من ھذه؟ وأي مسغبة أكثر من التي ظل یعانیھا شعب السودان منذ عھد الإخوان اللصوصي حتي الآن؟ .
2 . ظلت البلاد في حالة فراغ دستوري منذ 25 أكتوبر حتي الآن .
لیس ھذا فحسب ، بل لیس ھنالك ضوء في آخر النفق : فالحاضنة التي كان المكون العسكري یتفاوض معھا منذ سقوط البشیر في 3 أبریل 2019 ما عادت ھي نفس الحاضنة الموحدة والمستندة علي
إرادة الشارع الثائر ؛ فقد تآمر علیھا المكون العسكري وفرق شملھا واشتري جزءاً من قادتھا وحیدھم تماماً ، وخدع الباقین بسلام جوبا الزائف الذي جعلھم یباركونھ ویوافقون علي استحقاقاتھ ، بینما ھو في حقیقة أمره كمین منصوب بعنایة فائقة ھدف لإعادة تدویر الفلول ورموز النظام الآفل ، بل جعلھم في قمة
النظام الجدید – مجلس السیادة وأھم الوزارات مثل المالیة التي
آلت لإسلاموي لم یخف تعاطفھ بل تمثیلھ لتنظیم الإخوان المسلمین
الذي قامت الثورة ضده ، وظل ھمھ معاداة وحل لجنة التفكیك ووضع أعضاءھا في السجن .
3 . أصرت الحركات الحاملة للسلاح التي شملھا سلام جوبا علي
الاحتفاظ بسلاحھا الذي دخلت بھ العاصمة المثلثة، وھو الآن مشوّن بأطرافھا كافة ، وسوف یلعلع في أي لحظة وتتحقق نبوءة
حمیدتي الذي قال : (عماراتكو دي وكتین الخبخانھ تدور ما یفضل
فیھا إلا الكدایس. أسألو ناس ملیط ، حصل مرة نحن فضیناھا من
سكانا شت) .
4 . لقد أخطأت قوي الحریة والتغییر خطأً فادحاً بقبولھا المحاصصة
التي جلبتھا اتفاقیة جوبا (باستثناء الحزب الشیوعي) ، وكان ذلك
ھو استدراج إبلیسي كشف أولاً أن الاستوزار صفة ملازمة لمعظم البرجوازیین الصغار السودانیین ، ولكنھ جعلھم أصحاب الید
السفلي ، وأصبح صاحب الید العلیا ھو المكون العسكري بالإضافة
لوزیر المالیة رئیس العدل والمساواة ؛ ودخل الفریقان في جدل سرمدي ومماحكة مضنیة انتھت بانقلاب 25 أكتوبر الذي زاد الأمور تعقیداً ، وأعاد البلاد لما قبل 6 أبریل 2019.
5 . النتیجة التي بلغناھا في نھایة الیوم ھي ذبول وتواري الحریة والتغییر ، إما خجلاً وإما عجزاً بسبب ضعف الحجة والسند الفكري ، وعدم الارتباط بالجماھیر ، وعدم الخبرة السیاسیة ، في غیاب 4
الرؤیة المقنعھ التي من المفترض أن تطرحتھا أمام الجماھیر الثائرة ، وتقنعتھا بھا ، ثم تتقدم لقیادتھا وفق تلك الرؤیھ .
لقد سألتني قبل یومین صحفیة صدیقة زائرة : من ھي القیادة البدیلة لقحت التي یلتف حولھا الشارع الآن ویتحرك بموجب تخطیطھا وتعلیماتھا ؟ كنا نسمع بتجمع المھنیین
أیام الثورة الأولي ، ولكنھ فص ملح وداب . من البدیل؟ .
فقلت لھا الله أعلم ، ولو كنت أعلم لما كشفتھم لك ، فالنضال یمر بمرحلة العمل
السري رغم الزخم الجماھیري في الشارع .
ولكن الحقیقة التي نلمسھا جمیعاً أن الشارع یلتف حول شعاره الأثیر (بألا
تفاوض ولا شراكة مع العسكر) ، ولكنھ غیر متوحد حول كیفیة تطبیق ذلك الشعار علي أرض
الواقع . وكیف یتم إنزال المكون العسكري بدون التفاھم معھ حول لوجستیات ذلك الإنزال . إن الجیوش المھزومة في كل تاریخ العالم تجلس مع المنتصر بكل احترام متبادل لتتفق علي شروط واستحقاقات التسلیم والتسلم .
وثمة حقیقة أخرى لا بد من الوقوف لدیھا إذا أردنا أن نتفھم الوضع الراھن ،
فكل من شارك في ھذا الحراك یدرك أن شباب وشابات الثورة لھم رأي سلبي في قیادات الحریة والتغییر السابقة باعتبارھا ضعیفة ومترددة (مثل كبیرھم حمدوك) ، وكونھم أضاعوا الوقت في اجتماعات مارثونیة استمرت لثلاث سنوت بلا طائل ، وربما كانت المفاوضات الفلسطینیة الیھودیة أكثر إثماراً منھا رغم جرجرة السنین الطویلة . ولو سألت عن الأحزاب المشاركة في قحت : أین قواعدھا ، وھل طبقت الدیمقراطیة في نفسھا ، وھل عقدت مؤتمراتھا؟ فالإجابة سالبة ومحبطة للغایة. ولو سألت عن تجمع المھنیین – ھل التأم شملھ بعد الشرخ الذي حدث فیھ بأول أیام الثورة ، كانت الإجابة ضبابیة وغیر واضحة .
ھنالك جسم واحد لھ وجود ملموس في الشارع، وھو لجان الأحیاء ، وھي
تشكیلات ثوریة كالسوفیتات التي اضطلعت بالثورة البلشفیة في روسیا منذ 1905حتي
انتصارھا النھائي في اكتوبر 1917 ، ولكن السوفیتات كانت تحت قیادة البلاشفھ
(الشیوعیین) ، أما في السودان فإن الحزب الشیوعي رغم موقفھ علي الجانب الصحیح من
التاریخ ، لیس بمقدوره واقعیاً ولوجستیا وكادریا قیادة كل ھذه اللجان بكافة ربوع البلاد ، فلقد
ظل الحزب یتلقي ضربة إثر ضربة من كافة الأنظمة منذ 22 یولیو 1971 ، ولم یبق فیھ إلا 5 نفر قلیل مصادم رغم تقدم السن . ویبدو أن العمل الجبھوي في المرحلة الوطنیة الدیمقراطیة السابقة للاشتراكیة ھو استراتیجیة ظل ھذا الحزب متمسكاً بھا طوال تاریخھ ، ولیس بسبب النكبات المتكررة .
وعلي كل حال، تسیر حركة الشارع وفي بطنھا لجان المقاومة في خط ثوري
مستقیم وتقدمي وصحي ، مستمد من التاریخ النضالي لشعب السودان منذ الثورة المھدیة ،
ویبدو أن القیادات التي قد أفرزھا الشارع ھي من طراز جدید یضع نصب عینھ شعارات
الثورة الأم (حریة سلام وعدالة ، مدنیة خیار الشعب ، الثورة خیار الشعب). ومن أرد أن
یتفاوض مع ممثلي الشارع الحقیقیین فلیبحث عن لجان المقاومة . ولو أرادت الأحزاب خیراً
بالسودان فلتتواري أثناء فترة الانتقال ھذه، ولتدعم لجان المقاومة مادیاً وبشریاً ، ولتشجعھا علي استكمال المیثاق الموعود المعبر عن نبض الشارع الدیسمبري ، وعلي اختیار المنادیب وانتخاب قیاداتھا الجدیدة، ولتخرج لنا ببرامجھا المحددة للانتخابات وما بعدھا. الذین سیستلمون السلطة من المكون العسكري . ولتتفرغ الأحزاب كافة لعقد مؤتمراتھا النصر معقود لواؤه لشعب السودان.
حریة سلام وعدالة.
مدنیة خیار الشعب ! .
سديد الرأي
تشكر يا أستاذ علي هذا المقال