مقالات وآراء

قال الحذاء فاسكت الخطباء

د. عبدالفتاح سليمان
 
 

لم يكن الحذاء مألوفا في سابق الأزمان ، فقد كان الإنسان يلف قدميه بأوراق النبات والأعشاب أو بفراء الحيوانات لوقاية نفسه من الحر والبرد أو لإتقاء صدمات الصخور وقارعات الطريق.
وكانت أحذية النوبيين والإغريق والرومان ناعمة وطرية لأنها كانت مصنوعة من جلد الحيوان بينما كان الصينيون ينتعلون الخشب والقماش. ولكن الحذاء تطور بمرور الزمن من مجرد نعال واق من البرد والحر إلى قطعة ناعمة ومريحة تدل على الثراء والرفاهية والمكانة الإجتماعية وفي القرن الخامس عشر أضيف الكعب العالي على أحذية الفرسان حتى لاتنزلق أقدامهم عند ركوبهم للخيل وهى عادة ماتزال باقية عند سايسي الخيل وفرسانها وأصبح الحذاء بعدها مألوفا لدى النبلاء .
وبحلول القرن الثامن عشر صار الحذاء شأنا نسائيا خالصا فكانت النساء أول من انتعل الكعب العالي عام 1533 ؛ وأول من حظيت بشرف إرتداء الحذاء في موضته الجديدة هى كاترين ميديشي زوجة دوق اورليانز بمناسبة زفافها وذلك بسبب قصر قامتها واعتبر الحذاء بعد ذلك التاريخ معيارا للرقى تنتعله سيدات المجتمع الراقي .
وتشير الإحصاءات أن 57% من النساء مهوسات بجمع الأحذية دون الحاجة إليها ، وقد اشتهرت زوجة الرئيس الفلبيني أميلدا ماركوس كأكثر النساء حرصا على إقتناء الأحذية فقد وجد بخزانتها أكثر من ثلاثة آلاف زوج من الأحذية عندما فرت من بلادها عام 1986 عقب الإطاحة بزوجها لدرجة أن هوس اقتناء الأحذية عرف فيما بعد (بمتلازمة أميلدا). اما الأمريكية دارلين فلين فقد دخلت موسوعة غينيس للأرقام القياسية حيث كان بحوذتها (7765) زوجا من الأحذية بدأت بجمعها بعد طلاقها من زوجها (ربما كان للطلاق أو العزوبية دور في جمع الأحذية على صعيد المزاج الحريمي).
اما الروائية الأمريكية دانيال ستيل فقد حازت على ستة آلاف زوج من الأحذية بينما تمتلك الممثلة الأمريكية ليندسي لوهان مخزنا من الأحذية ضم خمسة آلاف زوج .
وقد مثل الحذاء رقما هاما في المسرح تقول الممثلة الاسبانية بينيلوبي كروز أنه عندما يعرض عليها دور فإن أول ماتفكر فيه هو الحذاء الذي ستنتعله فهو يساعدها نفسيا في تجسيد الدور المطلوب.
ولعل أشهر حذاء في التاريخ السياسي هو حذاء الرئيس السوفيتي نيكيتا خرتشوف (1894_ 1971) عندما وضعه على طاولة مفاوضات الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1960 في جلستها رقم (902) المنعقدة بنيويورك وبينما اختلف الرواة حول حادثة خرتشوف ، فقد سعى الرئيس إلى صرف انتباه الصحافة عن الحدث فأشار لحذائه ممازحا الصحفيين قائلا ماذا ترون في حذائي هذا ؟ قالوا إنه جميل فرد عليهم ، ومع ذلك لاتعلمون الموضع الذي يؤلمني منه . وتعد حادثة قذف الرئيس الأمريكي جورج دبيلو بوش الإبن الأشهر في تاريخ معارك الحذاء ، إذ فاجأ الصحفي العراقي منتظر الزيدي الرئيس بوش بقذف فردتي نعاله أثناء المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع مضيفه الرئيس العراقي السابق نوري المالكي في الرابع عشر من ديسمبر عام 2008 إلا أن الرئيس بوش انحنى برشاقة متفاديا ذلك القصف الزيدي مما ادى ألى اصطدام الحذاء بالعلم الأمريكي فسارع حراس الرئيس من الجانبين بالامساك بالزيدي وركله ثم الخروج به إلى خارج القاعة حافي القدميين بعد ان كسرت ذراعه بينما تحفظ فريق آخر من الحرس على فردتي الحذاء خشية أن تكونا محشوتين بالمتفجرات وقد قامت فرداء الحذاء كشاهدي إثبات ضد الزيدي الذي حكم عليه بتهمة إهانة رئيس دولة أجنبية زائر وقضت محكمة عراقية بسجنه لمدة عام هاجر بعده إلى باريس ودعى هناك إلى ندوة اقامها نادي الصحافة العربية إلا أن سهم الزيدي إرتد إليه هذه المرة حيث قذفه صحافي عراقي يدعي سيف الخياط بفردتي حذاء متبوعة بلعنات وسباب . وفي تعليقه على ماحدث منه قال الخياط إن الزيدي كسر قلمه ورفع حذائه فلم يعد صحافيا يستحق التكريم . وقد علق الرئيس بوش بعد النجاة من حادثة الحذاء بأن الحذاء كان من مقاس 40 في دلالة على أن الرئيس الأمريكي كان شديد الاحتفاء بلغة الأرقام .
وللحذاء قصة طويلة مع الرؤساء والشخصيات الهامة فقبل سنوات سدد مهاجر سوري رمية بالحذاء على الرئيس الإيراني الأسبق احمدي نجاد أثناء خروجه من المسجد الكبير بالقاهرة ولكن الرئيس الإيراني انحنى في آخر لحظة متجنبا رمية الرامي السوري. ويبدو أن الرؤساء مدربون على تفادي الرميات الملعونة سواء كانت بالاحذية أو برشقات البيض الفاسد . ولم تكن النساء يستخدمن الحذاء كعقاب سياسي بل كن يستخدمنه كعلاج تربوي لتأديب المارقين من الاولاد أو لتأديب العنيدين من الازواج . (في سنى طفولتي البهيجة في حيفا كان الحذاء يطير ويطاردني في كل مرة كنت اتجرأ فيها أنا واختي على الإخلال بقدس قداسة السكون المطلق والشغب بين الثانية والرابعة عصرا، فقد كانت أمي تستغل السلاح الفظيع من تحت السرير وتسدده إلى الهدف وتصيبه على نحو عام) . (سمدار بيري صحفية).
وتقول مجالس النساء الهامسة أن الحذاء يستخدم في تأديب الزوج العنيد ، ذهبت دراسة حديثة ألى أن 66% من النساء يعتدين بالضرب على أزواجهن باستخدام أسلحة مختلفة أدناها الحزام وأدوات المطبخ إنتهاء بمواد التخدير ، غير أن للحذاء قصب السبق في أسلحة التأديب (أحمد البحراوي – من مقال له بصحيفة الوفد المصرية بعنوان :- النساء قادمات ).
وإذا كان الحذاء سلاحا في المعارك الأسرية بين الجدران المغلقة إلا أنه صار مشهرا في المعارك السياسية كما حدث من صحفية سودانية تدعى صفاء الفحل تجاه غريمها السياسي التوم هجو ولست بصدد الدفاع عن القاذف أو المقذوف بقدر استغرابي أن يصدر ذلك من فتاة سودانية ومن صحفية عتادها الكلمة وسلاحها القلم !. وقد علمنا التاريخ أن سلاح الرامي غالبا ما يرتد إليه ، فقد كان الرئيس الروماني تشاوتيشسكو ممن اشتهروا باغتناء الأحذية فقد كان يشتري الحذاء أول النهار ثم يقوم بحرقه في آخره ولم يكن ذلك بغريب على نيكلاى تيشاوتيشسكو حيث لم يكمل تعليمه الابتدائي فسافر إلى بوخاريست وعمل كصانع أحذية فانتهى به المطاف مقذوفا بالاحذية ثم الرمي بالرصاص في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1989 على النحو الذي شاهده العالم .
وقد شكل القبقاب الذي هو الحذاء نهاية مأسوية للملكة شجرة الدر حيث قامت جواري (ضرتها) . أم الملك منصور بضربها بالقباقيب التي كانت تحبها حتى ماتت في مشهده سجله التاريخ . قام رجل بصفع الأحنف بن قيس في مجلسه ، وقد عرف الأحنف بالحلم والأناة فقال للإعرابي ماحملك على مافعلت فقال الرجل تراهنت مع أصحابي على صفع سيد بن تميم واغضبه فقال الاحنف لقد أخطأت يابن أخي فما أنا بسيد بني تميم إنما سيدهم هو حارثة بن قدامة فذهب الرجل إلى حارثة وصفعه وسط قومه وكان الحارث غضوبا أحمق فامسك بالرجل وقطع يده.
ولايكتمل الحديث عن الحذاء دون الإشارة إلى مكانته في الشعر العربي يقول شاعرهم :-
إذا ضرب الحذاء برأسه صاح بإي ذنب أضرب .
وبمناسبة الحذاء نحكي قصة الشيخ الباقوري مع حذاء الكاتب الكبير أنيس منصور تلك الرواية اللطيفة حكاها انيس منصور بنفسه في مقال له حيث كتب (كان ذلك في سنة 1955 حيث ذهب وفد مصري كبير برئاسة الشيخ الباقوري مشاركا في مؤتمر الخريجين الذي كان يرأسه رجل الأعمال اللبناني إميل البستاني صلينا في المسجد وخرجنا كل يبحث عن جذمته وسط مئات الأحذية والقباقيب التي تناثرت في كل مكان وكان مطلوبا من كل واحد أن يجمع رأسين في الحلال ولم اعثر على جذمتي وكان على أن اعود إلى الفندق والأرض مبتلة والمطر لايزال منهمرا فعرف الاستاذ الباقوري بما حدث وأنشأ يقول :-

كظيم الغيظ محتشم الخطى

تكاد تجليه لك العين باكيا.

إن الحذاء ضرب في الوحل والنجاسة والرمي بالحذاء دلالة على قصد الرامي تبخيس الهدف والتقليل من شأنه .
يقول المعري :-

يخونك من أدى إليك أمانة

فلم ترعه يوما بقول أو فعل.
الصحافة مسئولية والصحافي الذي يعجز عن التعبير بالقرطاس عليه أن يكسر قلمه ويبحث عن مهنة اخرى .

الملفات الشخصية ليست صحافة .

 

[email protected]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..