التجريب والتجديد وتقنيات القصة الحديثة في مجموعة القاص محمد المصطفى موسى (كافينول)

عزالدين ميرغني
هذه هي المجموعة الثانية للقاص الدكتور محمد المصطفى موسى , بعد مجموعته الأولى , والتي صدرت قبل أعوام بعنوان ( منضدة وأوراق ) . وقد كانت تمتاز بتعدد مواضيعها وأمكنتها وأزمانها , ولكن كان أكثر ما يميزها هو نضج الفكرة وفن التقاط المواقف لشخوصها .
ولعل هذه المجموعة الثانية ( كافينول ) , تعتبر مواصلة لمشروع هذا القاص الشاب مع جنوحه هنا لتوظيف تقنيات القصة الحديثة ومواكبتها لمستجدات العصر ومشاكل الجماعات المغمورة والتي كما نعرف هي عماد القصة القصيرة في كل أزمنتها وأمكنتها . ولئن كانت المجموعة الأولى قد حاولت الالتزام ببنية ومعيارية القص الكلاسيكي الموباساني (البداية – والوسط – والنهاية) , فإنه قد حاول في هذه المجموعة الثانية أن يطوع ما استجد في القصة الحديثة ليساير مضامينه الإنسانية العميقة .
أفلحت هذه المجموعة (كافينول) , في محاولة رصد الواقع الذي دخلت في فجواته ومنها المسكوت عنه , وذلك بمحاولة رصده من الداخل والخارج بمنظوره المستقيم , أو المعوج . بوجود الخير فيه أو الشر. والمجموعة بهذه التقنيات ورصدها للواقع يمكن أن تدخل في تيار ما يسمى بالحساسية الجديدة . وهذه الحساسية الجديدة لا تتقيد بزمن الكتابة ولا بعمر الكاتب , فهي تسعى نحو المعرفة والتواصل مع الآخر وتشكيل إدراك مشترك لمعرفة مشاكل الفرد داخل المجموعة , ومشاكل المجموعة مع هذا الفرد . وفيها أى هذه الحساسية الجديدة , مسحة من عمل النبوءة بالمعنى الشامل أي بمعنى الرؤيا والعرفان في هذا العصر الذي تطغى فيه رسالة الإعلام وهيمنة الصورة . وقد تأثر جيل القاص محمد المصطفى موسى بعوامل اجتماعية كثيرة ساعدت في كتابة نصوصهم بهذه الحساسية الجديدة المتجددة منذ جيل السبعينات في القصة القصيرة . منها وجود الجماعات المغمورة والمهمشة وتمزق الفرد والبحث عن هويته وسط هذا الإحباط الفكري والسياسي والذي بدأ منذ الاستقلال وحتى الآن . ولعل هذه الحساسية الفنية الجديدة هي التي جعلت هذا الجيل يثور على قوالب القصة التقليدية والتي قد لا تواكب كل معاييرها مستجدات العصر .
حاول القاص محمد المصطفى في مجموعته الثانية هذه , أن يجنح نحو الخصوصية والتميز في نصوصه , في ناحية الشكل والمضمون . أما من ناحية المضمون أو المعنى , فقد حاول أن يبتعد عن قصص اللحظة الخاطفة أو القصيرة . فهي تسرد حال واقعنا الجديد المتغير والذي يحتاج إلي تمهل في السرد بوصفه المكاني والزماني , بحيث يرجع للماضي بتقنية (الفلاش باك) , ثم يعود لنكتشف بأن بعضنا لا يزال يعاني من الماضي والذي لا دخل له فيه حيث الأخطاء التاريخية الموروثة مثل تجارة الرقيق والعنصرية المتوارثة في أجيال سبقت وما تزال آثارها موجودة حتى الآن . وبهذا يكون الدخول في المسكوت عنه قد تطلب بأن تواكب القصة التقنيات الحديثة وخاصة تقنيات السينما , من رجوع للماضي وعودة للحاضر , ثم تقطيع الأحداث إلي مشاهد منفصلة كما فعل القاص في أكثر من نص قصصي . ثم الدخول إلي الزمن الخاص للشخصية يتطلب مثل هذه التقنيات الفنية الحديثة . رغم أنه قد استعار فنيات تراثية قديمة موجودة في الحكي الشفهي السوداني وهو بهذا التوظيف يجعل القصة حكاية مروية للعامة والخاصة حتى يسير بها الزمن بركبه الذي لا يتوقف .
وكنموذج لهذا التجريب والتجديد , كانت قصة (كافينول) , والتي أخذت المجموعة منها هذا الاسم, تمثل هذا التجريب وهذا التجديد . بل الحساسية الجديدة في الموضوع وفي الشكل . فهي ذات نفس سردي طويل وعميق يمكن تحويلها إلي رواية . وقد وظف فيها القاص الدكتور العديد من التقنيات الفنية الحديثة التي ذكرناها ( الرجوع والعودة , والمونتاج , وتقسيم النص إلي مشاهد مستقلة ) . حيث أن الشخصية الساردة تحكي عن تعاقب أجيال وهي آخرهم والتي تعاني بصمت من هذا التاريخ الذي لم تصنعه ولم تشارك فيه . يقول الراوي مخاطبا المتلقي (فأنا ليس لدى عليكم سلطان حتى ألج إلي رؤوسكم الفارغة لأمحو ما توارثتموه من أوهام , ولكن ثقوا أن كل ذلك لن يمنعني من أن أروي عليكم قصتي بكل تفاصيلها .. لعلكم تتعلمون في يوم ما كيف تصفون الأشياء كما هي وحسب) . ولعل بهذه المخاطبة للمتلقي يكون فعلا قد استفاد من تقنيات السرد الشعبي الشفهي والذي ينبه فيه السارد مستمعيه لما سيقوله ويحكيه . وفي هذه القصة بالذات وفي أغلب نصوص المجموعة , فإن القص لم يتقيد بالترتيب الزمني للأحداث, فالراوي يوظف السيرة الغيرية التي تتطلب الحرية في الزمن لسردها وحكيها .
لم يمنع انتماء هذه المجموعة القصصية لمدرسة الواقعية , أن يوظف القاص محمد المصطفى من استخدام الفنتازيا والخيال , وخير مثال لذلك هي قصة (تراجيديا الغياب) , بحيث توفى الراوي ولكنه عاد للحياة متخفيا , ليحكي ما حدث بعد وفاته . (أصوات وخيالات ما زالت تغزو ذاكرتي حتى الآن) . الذاكرة التي ما زالت تعمل بكفاءة عالية رغم فناء الجسد في غياهب اللاعودة . أهال عليه المشيعون أكواماً مهولة من التراب وكأنهم يعبرون عن رغبتهم الجارفة في أن لا أعود بأي ثمن .. ولما أيقنوا من اكتمال ما اجتمعوا عليه عدت أتعقبهم بلذة خبيثة .. (أراهم وأسمعهم دون أن يراني منهم أحد ..) . ورغم هذا الخيال الذي لا يمكن وقوعه ولكنه موظف لخدمة الواقع بحيث يتسلل الراوي (الميت) بسهولة ليكشف فساد الأحياء بكل أنواعه . وبتوظيفه أيضاً لما يسمى بالترميز العيني وهو استنطاق الأحياء والأشياء كما في قصة (يا أيها النمل اخرجوا من مخابئكم) , حيث النملة تتذكر وتخاطب غيرها في قصة رمزية ذات دلالة عميقة قابلة للتأويل والتفسير بحسب المتلقي . وهي تعود بنا لساحات التاريخ وظلم الغزاة والنمل يمثل الشعوب المقهورة والمستعمرة في كل زمان ومكان .
يتمثل هذا التجديد والتجريب في هذه المجموعة ( كافينول ) , في أن القاص قد قدم عدة حوافز لكي يجذب المتلقي لهذه النصوص , وهذه الحوافز motivations , تتمثل أولا : في حافز التأليف , بحيث توظيق كل التقنيات الحديثة في خدمة النص ولتنبيه القارئ إليه .
وثانياً : التحفيز الواقعي بحيث أن كل الأحداث والوقائع يمكن حدوثها ووجودها في واقعنا الحالي أو المستقبل . وهو ليس واقعاً افتراضياً وإنما واقعاً حقيقيا , يتمثل أيضا في واقعية الشخوص والتي ليست بالكائنات الورقية . وهذا الواقع جعلته يكتب بحسب تجربته عن مشاكل الغربة والمنافي البعيدة عن شخصيات كانت تعتبر بأنها تهرب إلي الجنة ولكنها اصطدكت بألم عن جحيم الغربة ومشاكلها . وثالثاً : تحفيز اللغة , بحيث كانت ذات نسيج شاعري في وصفها وفي جمالياتها في التعبير ,وقد اختط الكاتب لنفسه بصمة أسلوبية خاصة . وأصبحت ذات مقدرة خاصة في إنتاج المعنى وخلق العديد من الرمز والدلالات . ولقد كانت اللغة رغم مقدرتها التوصيلية , كانت هي نفسها ذات غاية جمالية تحفيزية . استعان بالتناص في إيراد المثل السوداني والحكمة والنص القرآني , والسجع البلاغي فجاءت لغته ذات موسيقى طروبة (الملاججة , والمحاججة) . والاستعانة بالرومانسية الراقية والتي يقول كمثال لها في وصفه للزمن (كدأبه منذ بدء الخليقة , لملم الليل أطرافه المبعثرة بخطى حثيثة وانصرف . طاردته طلائع النهار بشغفها المعهود حتى غيبة الأفق) ومن تشبيهاته الرائعة تجسيد المجرد وتجريد المجسد بلغة جميلة (عاد من هناك وهو يتأبط العافية) .