بروفائل محجوب شريف.. عطر الأمكنة
آمن بأن الجمال ممثلاً في الشعر يعيد ترتيب العالم، ويجعل الحياة تستحق أن تعاش

انفرد برفع العادي والمعتاد الى عوالم متع العقل والقلب
اكتظت قصائده بمختلف الحالات والحكايات والصراعات الإنسانية:
الخرطوم: محمد إسماعيل
تمر علينا هذه الأيام الذكرى الثامنة لرحيل الشاعر محجوب شريف
من مواليد 1948 – ولد بقرية أب قدوم ريفى المسلمية، ورحل في 2 أبريل 2014، وبرز كشاعر إنساني، وضع بصمته في خارطة الشعر السوداني بعد أن أثرى الساحة بالأغاني الوطنية، وهي تجربة طويلة وعميقة امتدت لأربعة عقود،
وبث فينا على مدى عقود الأمل وروح المثابرة والطموح، ومن أشهر قصائده (يا ولادة يا مريم) و(مساجينك) و(صباح الخير مسا النور) وآخر قصيدة له (تلاتة كباري وشارعين وسد).
تعلمه وعمله:
تلقى تعليمه بالمرحلة الأولية والوسطى بين عام 1958- وحتى 1962م في مدارس المدينة عرب، ثم معهد مريدي للمعلمين بالخرطوم، وتخرج معلماً من أبريل 1968 وعمل منذ تخرجه معلماً بالمدارس الابتدائية، فصل تعسفياً عدت مرات خلال مسيرة عمله.
قصيدته في كل قلب:
فمحجوب شريف كان يكتب شعره من تلك اللغة البسيطة المتداولة والسهلة لكل الناس بمختلف طبقاتهم ومستويات تعليمهم، ويحمله المعاني المعقدة التي ينبغي أن تحملها القصيدة، أيضاً امتلك موهبة أن يحبه الناس، أن يفتتنوا به وبأشعاره، وأن تصبح قصيدته في كل قلب وعلى كل لسان، بمجرد أن خرجت من عنده، وبالرغم من أنه لم يكن يملك منبراً إعلامياً كبيراً، ولا كان من هواة الظهور فضائياً في تلك القنوات التي بلا عدد، كانت القصيدة الشعبية المكتوبة بحبر المعاناة، والمرسلة لكل الناس، تصل بسهولة.
جاءت أشعاره تعكس نبض الشارع السوداني العريض منذ زمانه الباكر حين كان يعمل معلماً بمدارس أمدرمان منذ عام 1968م جاءت مرحلة بزوغ نجمه بأشعاره الندية التي تفيض بإحاسيس الغلابى فقد كان مصيره دائماً خلف القضبان في زمان سلطة مايو.
كان محجوب شريف هدية الفرح والأمل والحلم الساطع حين يحاول اليأس والإحباط أن يقوي إرادة الشعب، فيرفعه محجوب عالياً ويذكره بأنبل ما فيه، كانت موهبته تكمن في تلك القدرة المدهشة في التقاط الكلمات العادية من الطين والتراب ليجعل منها فراشات تفيض بالجمال والسحر، ويحولها إلى لغة كأنها من نحت فدياس أو من أوتار زرياب، في حسنها ودقتها وتأثيرها، فقد انفرد محجوب برفع العادي والمعتاد الى عوالم متع العقل والقلب.
عذوبة وشفافية:
يفتح النص الشعري عند محجوب شريف ليحضن اليومي المعاش والإنساني في جزيئات الحياة المتناثرة، اللمة، الونسة، القدلة، الأصحاب، الهمس الحنون، الحكاوى، الحلم الجماعي، ترامس الشاي، الضل الوريف، الموية العذبة، النفاج، حسن الظن وطعم الخبز والسترة، كل ذلك رفعه الى مصاف الغناء البهيج، من جماليات القصيدة عند شريف انغراسها في لغتها في غور شعبها القاصية واستثمارها لعذوبة الشفاهية السودانية، فقد كان الشاعر محجوب شريف كثير النكتة ظريفاً بشوشاً رغم ما تحمله قصائده من الأدب الثوري والتنويري كانت أحاديثه وقصائده تدخل القلب بلا استئذان دون تكلف وينسج من مشاهداته اليومية صوراً فنية وأدبية.
وحول كيف تولد القصيدة عند محجوب شريف؟.
يقول الأستاذ كمال الجزولي عن طريقة نظمه لأعماله الشعرية: (لمحجوب عادات مختلفة في النظم حد الفرادة. فهو لا يجلس، قط، إلى منضدة لكتابة قصيدته، إلاَّ بعد أن تكون قد علِقت معالِقها واستدارت خلقاً سوياً. أما مراحل تكوُّنِها الأولى فغالباً ما تتخلق لديه ماشياً على قدميه، حتى لقَّبه الصديق الحميم عبد الله علي إبراهيم بـ(الأمي) تحبباً..! تجده كثيرَ المشي بقدر غزارة إنتاجه.. في حوش البيت، في باحة السجن، أو حتى داخل زنزانة مغلقة، مثلما في أزقة أم درمان المتعرجة، وساحاتها المحتشدة بالعنفوان، وبالأخص سوقها الكبير الضاج بالحيوية. ولعل هذا ما يفسر اكتظاظ قصائده بمختلف الحالات والحكايات والصراعات الإنسانية)
ما الأستاذ المسرحي والشاعر يحيى فضل الله فيقول: (تفجرت شاعرية محجوب شريف التي عودتنا دائماً الانحياز إلى الإنسان السوداني، تفجرت هذه الشاعرية لتفضح أساليب القمع والإرهاب، إذ أن موقف الشاعر هو موقف معلن وفي الضد الصريح والصارخ من الممارسة القمعية، تلك التي اعتدت على الحياة في السودان وقادت نبضاتها إلى ذلك الموات الذي على كل التفاصيل)
قال عنه المفكر حيدر إبراهيم (جاء شعره في أصعب الأوقات، ولكنه آمن بأن الجمال ممثلاً في الشعر يعيد ترتيب العالم ويجعل الحياة تستحق أن تعاش رغم صعوباتها، وقد تحمل بجسارة مسؤولية إعادة النظام لفوضى العالم، وأن يطارد القبح من حياة الوطن، وحاول أن يسكن الشعب في الحلم واجب التحقق رافعاً إياه من عذابات وخيبات لا تنتهي).
ويروي حسن الجزولي في مقالته: (محجوب شريف، ملك الشغب، وأمير المقالب)
كان يتنفس بهجة وضحكاً وفرحاً ومرحاً، في صباحاته ومساءاته، كأنه يرحمه الله يعبر عن حالة البؤس المدقع وضنك الحياة السياسية والاجتماعية بأن شر البلية هو بالفعل ما يضحك، كان ملكاً للشغب كما كان أميراً للمقالب، يبحث عن النكات الضاحكة ويعشق أن تُروى له بواسطة الصحاب فيقهقه من الأعماق حتى تدمع أعينه، ثم تراه يتولى صياغات جديدة لحكي الطرفة، فتدمع أعينك من طريقة روايته لها حتى وإن سمعتها من قبل!، يدبر المقالب والمواقف الهزلية ويسره ممارسة ذلك في أوساط المعارف الجدد تحديداً، قاصداً من ذلك كسر حواجز الهيبة والرهبة وتسليك دروب المباشرة والعادية في العلاقات الاجتماعية.
رد الجميل:
وظف محجوب شريف اسمه الكبير، والمقدر اجتماعياً، وعلاقاته الواسعة للدخول في مجال العمل الخيري، وذلك واجب حتمه دوره كمثقف ملتزم نحو مواطنيه، وأسس مع آخرين منظمة (رد الجميل) التي كان يستقطب من أجلها العفش المتهالك الذي ترميه الأسر في أركان الحوش أو في المخزن، فيشجعهم على التبرع به ليصنع من ذلك الأثاث بواسطة الصبية المشردين أثاثاً جديداً يمكن تسويقه ومساعدة هؤلاء الصبية والأطفال وأسرهم النازحين بريع بيعه لسد حاجاتهم وحاجات أسرهم الحياتية، وقد نذر نفسه لهذه الخدمة كما كان ناشطاً في تأسيس جمعية مرضى الفشل الكلوي للأطفال بطريقة لا تخطئها العين.
ومنظمة (رد الجميل) قدمت أعمالاً متميزة في العمل الصحي، والاقتصادي، لذوي الدخل المحدود، واستطاعت المنظمة أن تقيم عدة مستوصفات مجهزة بصيدليات في بعض الأماكن النائية في العاصمة القومية.
لسان حاله:
طوال ارتباطه بالحزب الشيوعي كان محجوب لسان حاله مرة، ولسان حال الحزب في مرات أخر، ذلك الذي لا يصمت طوال الأربعة عقود الماضية ونيف، فدبج الأناشيد التي تلقفتها حنجرة محمد وردي، ومحمد الأمين. ولعل التعاون الكبير مع وردي أثمر تاريخاً فنياً، محتواه ما يقارب العشرة من الأعمال المباشرة سياسياً، وأيضاً الأعمال الوطنية المغلفة بالعاطفة، منها (السنبلاية) و(حنبنيهو) و(يا شعباً لهبك ثوريتك) و(وطنا البإسمك رطنا) و(بلا وانجلى) و(وتر مشدود) و(حنتقدم وحنتقدم) و(يا شعباً تسامى)، بالإضافة إلى ذلك تعاون شاعر الشعب مع الفنانين مصطفى سيد أحمد وعثمان حسين، وصلاح مصطفى، وعبد اللطيف عبد الغني، وسيف الجامعة، وآخرين، وعرف الشاعر بانحيازه الكبير لقضايا المرأة، وظهر ذلك من خلال العديد من قصائده لعل أشهرها قصيدة (ست البيت) التي تغنت بها فرقة عقد الجلاد.
محجوب شريف كان دنيا من المشاعر والأحاسيس الإنسانية متوحد في الاثنين الحبيبة والوطن، كان يقف على حد العدل والاعتدال.
محجوب شريف، من بين قلائل في هذا العالم تمكنوا من إنجاز مشروعهم في محبة الناس، الحياة حق، والموت حق، وحياتنا هذه القصيرة، ليتها تعاش كما عاشها محجوب شريف، الذي لم يقف موقفاً يستحي منه، كان رجلاً صميماً ليس فيه تصدعات أو شروخ (العُوده خاتي الشق، ما قال وحاتك طق) كان شاعراً إنساناً، متسقاً مع مبادئه، يفعل ما يقول ويقول ما يفعل ولا يعرف بقبيلة أو بجهوية أو بحزب، لقد جسد في إبداعه ألق السودان الحديث عصي عن رجل مثل محجوب شريف الذي قال كلمته ثم مضى، ولو قدر له أن يعود، لما اختار غير المنافحة عن الكادحين.
==-=-=
اليوم التالي