ليتنا نلتقي في غير هذا المكان

طه جعفر الخليفة
تجلب ذكراها روائح أليفة لنفسه. نعم ذلك النوع من روائح البيت. عطور… عطور هامسة بالمحنّات المؤجلة والماثلة . تذكرها في هذا اليوم. تذكر ان الحب بينهما كان محروساً ببنيات عتيدة. عميقة الجذور لا تتكسر. اللقاءات بينهما غير مقصودة. كانت تحدث هكذا بلا تخطيط. دروبهما متقاطعة. مواقيتها محسومة بنوعٍ من الإعتياد والحزم. هل كان ذلك بسبب الجِيرة أم بسبب هفو القلب النابض بالحب؟ لم يكن يعرف
تابعت مراهقته حتي قُبِل بالجامعة. نضجت وأستوت علي مجامر الجمال قبله بكثير . تفنن جسمها في الإكتمال. نعم تفنن. من جانبه كان يري انتقالها من الإبتدائي للثانوي العام مشوار بين الطفولة والنضوج.
تذكر كيف تفاجأ عندما جاء من رحلةٍ مع أهله خارج المدينة دامت لأشهر ببروز نهديها المغامرين وإستدارة عجيزتيها بنوعٍ من المثابرة. الساقان وإمتلاءهما بالوعود. أخذ وجهها طائفٌ من جمال أمها وقوامها في إستقامة أبوها. أحبها أكثر. تفاجأ بمجيئها لبيتهم لتسلم علي أمه في ذلك المساء. جاءت وحدها وسلمت عليه بمودة أهتزت لها شجرة الليمون في بيتهم. كان الوقت خريفاً وسماء الضراع محتشدة بالسحب الواعدة. ذهبت وتركته وحيدا يعالج إنباثقات البروق وهزيم الرعود. كان متأكداً من مقابلتها في الصباح عند متجر الناصية.
بالفعل إلتقيا في متجر الناصية أو دكان إسماعيل في الصباح جاء ليشتري السُكّر وأغراض أخري من ضمنها ملح ، باكنبورد، زيت فهد، زيت سمسم وحبوب أسبرو. عندما رآها هاجت دماء مشتاقة في جسده وتضوع نوعٌ من الفرح كبخور لبان حوله. في المسافة بين الميدان الكبير وفراندة دكان الناصية فتح لها حضنا مشتاقا فاستقبلته. أحس بإرتياح نهديها علي صدره. أحس بقرب روحها من روحه. تشمم أنفاسها وهي بلا شكٍ فعلت. لم يتكلما. بنكة الدكان محجوزة بإطار خشبي تغلق فتحاته نمليات ناعمة واسفلها لوحٌ ونصف من الزنك. لا يري البأئع منهما غير أعلي الصدر والرأس . تلامسا ليتكلما مع البائع. إشتم رائحة دهن الكركار تفوح من جدائلها الشابة. تلامُس فخذيهما أشعل بالطمأنينة شمعات روحه . قالت : المرة دي طولتوا. قالت ذلك همسا في أذنه دون أن يسمع همسهما البائع.
كان في مقدروره الذهاب لبيتهم دون المرور بباب بيت أهلها وهو الطريق الأقصر. لكنه إختار المشي إلي جوارها حتي باب بيتهم. في الطريق تلامسا من جديد. كان الشوق بينهما نهراً دافقا. نهرٌ دافق كان الشوق بينهما. عندما إدراكهما باب بيت أهلها إنجمّ في فمه ريق رافض لدخولها بيت أهلها. لم يعرف ما يجب أن يقوله لها. لكنها سمعت همس روحه وقالت: ليتنا نلتقي في غير هذا المكان. دخلت بيت أهلها ومشي إلي بيتهم يقول لنفسه ليتنا نتلقي في غير هذا المكان. تردد ذلك النداء في روحه دون توقف ليتنا نتلقي في غير هذ المكان … ليتنا نفعل ذلك .
لم ترحتل غلالة النداء طويلا فى روحه ، خاصة بعد ان فتح قنينة زيت السمسم و صب منها على زيت الفهد.وهو يذكر عبق الكركار المنساب ودكا على دهن أثدائها الملتفة.
هنا بدأ صداعه يشتد ، فقد كان يعانى من تصلب الشرايين دون أن يدرى ، فسقط وهو يمد ساعده الى الاسبرين فلا يدركه ، و قبل أن يغيب للمرة الأخيرة ، صرخ بشوق مكتوم لرجرجة عجيزتها قائلا :
غبشاء و جقه !!
هنا رأى عزرائيل متحسرا وهو يتمتم قائلا :
هذه نهاية _ الجلبطة !!.
شكرا علي الاهتمام . جيد جدا ان يكتب كل شخص ما يشبهه
هسه ده يسموهو شنو ؟ اعتقد سمك لبن تمر هندي انسب مسمى لهذا لكوجين
بل أنا من أشكر أهتمامك أستاذنا , وربما الانحياز البيئى هو ما كنت أرمى اليه تحديدا و الذى أنتج أدبا سودانيا محصنا خلف واقعه.
موسيقيا : أرسى لبنات جدار حديدى أنتصب حائلا دون أنتشار أدبنا الى بقية العالم , شعريا , أوقف تمدد النظم السودانى لخارج الحدود منذ سبعينيات القرن الماضى حسب ما أذكر , أما مسرحيا فالحال لا يخفى على أساتذتنا بالتأكيد.
هذا الواقع حسب ما يصفه المختصون _ الادب البيئى _ يرخى بسدوله على الانتاج الانسانى و المجتمعى بكل ظلاله _ سياسا و أجتماعيا و أقتصاديا _ على أنسان الدولة , وربما يحد من قدرته على الابداع و خلق واقع جديد مغاير يضفى على بيئته و مكوناتها بدلا أن يكون أسيرا لها.
لذا نعوّل عليكم أنتم المثقفين _ فى حمل راية صناعة وعى خلاسىّ وربما جديد أنطلاقا من قول الله عزّ وجل ّ :
هو الذى خلق لكم مافى الارض جميعا .
بمعنى أن البيئة ملكنا نسخرها كخلفاء للمولى عزّ وجل كيفما شئنا , لا لتشكلنا البيئة كيفما شائت هى.
تقبل تحياتى.