مقالات وآراء

العبادي (13) : لیھا نرجع أنا والأمین ..!!

مرتضى الغالي

 

ارتبط عدید من الأدباء والروائیین والشعراء بمدنھم التي عاشوا فیھا أو ھاموا بھا وتحدثوا عنھا وحنّوا إلیھا واقترفوا إبداعھم من طبیعتھا ومناخاتھا .. ومن أمثال ھؤلاء الروائي الایرلندي جیمس جویس عاشق “دبلن”.. وحتى عندما ھاجر إلى باریس كان
یحن إلیھا ویقول عنھا “دبلن القذرة العزیزة”..!! ” وكذلك كان حال شارلس دیكنز بلندن ونجیب محفوظ بالقاھرة ولورانس داریل بالإسكندریة والروسي دیستوفسكي
ببطرسبورج والتركي أورھان باموق باسطنبول ومحمد شكري بطنجة وبدر شاكر السیاب بجیكور .. وھلمجرّا.. (ھلمّجرا أو “ھلم جرّا” تعني “على ھذا المنوال أو ھكذا
إلى آخره”.. وھلمّ بمعنى أقبل تعال .. وجرّا تنصب على أنھا “مفعول مطلق” وھي حالة في ترك الإبل والغنم ترعى خلال سیرھا (لطالما جررتكن جرّا) وقصة ھذا العبارة طویلة بین عائذ وجندلة أبناء یزید الیشكري..!
وكذلك كان العبادي ھو ابن أم درمان الذي یعد وجوده تمثیلاً حیویاً لھا .. وأمدرمان مدینة بناھا أھل الإطراف كما یُقال بحق؛ وكانت تمثیلاً مصغراً للسودان ولم تكن حصراً على فئة أو جماعة؛ وھي ترفض (الشوفونیة) والانغلاق .. ھكذا عاشت
وكانت ..!! وولع العبادي بأم درمان لا یخفى ویفضحھ الحنین إلیھا متى ما ساقتھ المقادیر بعیداً عنھا (حتى بمقدار أربعة أیام) وھي حالة یقاسمھ فیھا -بمقادیر- معظم شعراء أغنیة الحقیبة ویمكن أن ننظر إلى اشتراكھم في كتابة أغنیة خاصة بكل منھم
حول أم درمان؛ وھي (مصفوفة عجیبة) عنوانھا الحنین الجارف لھذه المدینة، ولكن یختص كل منھم بتصویر ولعھ الخاص بھا :
كتب خلیل فرح :

اذكر بقعة أم درمان.. وانشد في ربوعا أمان .. ذكّر بي شبابنا زمان ..

وكتب عبید عبد الرحمن :

طال ھجري یا أم در أمان

بي بعادي حكم الزمان

وكتب عمر البنا :

امتى ارجع لأم در واعودا اشوف نعیم دُنیتي وسعودا

كما كتب أیضاً :

أم در أمان وقبلة أماني  انتي جنة وداري الأمین

وكتب أیضاً :

یا حلیل أم درمان ویا حلیل ظباھا..
في جنح اللیل فاح طِیب شذاھا..
عیني فاضت والنوم أباھا
وكتب محمد عبد الله الأمي :

اذكر بقعة الآمال .. جنة شعبنا إجمال .. أم العُلما والعمال

وكتب عتیق :

بالنیل بالجھة الغربیة .. اذكر معقل الوطنیة ..

أم درمان

وكتب مصطفى بطران :

یا ندیم قوماك یلا نمشي أم در .. نسمع الآیات والحدیث الدُر

وكتب علي محمود التنقاري:

أنا بعشق أم درمان ..

حب الوطن إیمان .. وأعظم رسالة

وحتى الراحل المُبدع حسن الزبیر الذي یسمي نفسھ (طیش الحقیبة) من باب محبتھ وتقدیره لشعرائھا ومطربیھا.. ولیس تبخیساً لنفسھ أو نقصاً في إبداعھ وموھبتھ .. كتب :

نذراً عليّ أزور .. لو تمنحیني أمانك .. آمنت بیك یا أم در .. یا مفخرة سودانك ..
من سحرك المشھور .. ومن عیون غزلانك ..!

ولیس من سیماء (الطیش) أن یقول مثل ھذا الكلام الجمیل :

أحمل معایا ورود .. وزھور إلى سكانك/ أقدل شمال السور .. وأطوف على أركانك ../
غناك كرومة سرور .. غرّد خلیل برھانك ../ أنا في رباك مأسور .. أحمیني من
نیرانك..!!
– مرّت علیك دھور .. ما زلتي في ریعانك ../ فیك شبّ كل جسور .. یحمي حمى أوطانك ../ كم جندي فیك مجھول .. ساھر على حیطانك ../أنا بي ھواكي فخور .. وأنا
قلبي طوع بنانك ..!
ما بجاري عزّك زول .. خُلق الفخار علشانك ../ أكرم كریم منزول .. غمر النزیل إحسانك ../ العسر فیك یزول .. دُمتي المعظّم شأنك ../ أم الدُرر واللول.. اسمك دلیل لأمانك ..!! .

ھذه كلھا أغاني خاصة بأم درمان .. إما ذكر أم درمان في السیاق العام فقد كان یتردد كثیراً في أغاني تلك الفترة وھو من الكثرة بحیث یصعب حصره..!!
أما العبادي فقد كتب :

لیك سلامي یا ام در أمان..

اقبلیھو وھاتي الضمان..

وشحنھا بالحنین (على طریقتو) وتفنّن في التعبیر عن الالتیاع والشجن وفي لزوم ما لا یلزم وفي اللمحات الذكیة في الأمثال والكنایات :

یا نسیمي منك برید ابقى لیھن مني “البرید”
عني قبّل باھي الورید المتنّى .. الفي أم در فرید
**
حن قلبو حین لیلو جنْ والھموم حافاتنو جن
والله یا نایرات الوجن صد دھري وقلب المِجن

أي (قلب ظھر المجن) بمعني تحوّل إلى العداوة؛ فإذا عادى احد أحداً في عادات العرب قلب لھ ظھر الترس .. ویروى عن “معن بن أوس :

قلبتُ لھم ظھر المجن فلم أدم ..

على ذاك إلا ریثما اتحوّلُ

وفي الختام یتضرّع العبادي ولا ینسى صاحبھ:

راجي من رب العالمین .. لیھا نرجع (أنا والأمین)
في ربوعا نكون سالمین .. قولو آمین یا مسلمین ..!!

والعبادي یعبّر عن ھذا اللوعة لام درمان ضمناً في أغنیة أخرى ھي :

(یا عازه الفراق
بي طال/ وسال سیل الدمع ھطّال) :
ارض أمالي في امحال ومن الھم بقیت في أوحال
بعدك عازه ساء الحال ونومي وصبري أضحى محال
**
طریت برق الفویطر الشال وسال دمعي البكُب وشّال
فقد صبري ومنامي انشال لبس من ناري عمھ وشال
**
انا والھم دوام في نزال نحل جسمي وصِبحْ في ھزال
یا شماتي والعُـزّال … أفرحو بي العلي ما زال..!

وفیھا یقول :

طلایع خدو لیھو كمین و(وِروِر) نھدو دون تأمین
ھذا سلاح بغیر تأمین..!!

والوِروِر في “لغة الجیاشة” یعني (تتك) المسدس والبندقیة..
والتتك أو الزناد أو المِقداح ھو الإصبع الحدیدي الذي یتم غمزه لینطلق
الرصاص .. والعبادي یقول أن ھذا التتك تركوه بغیر تأمین ..!! وانظر إلى بقیة المعادلة:

طلایع خدو لیھو كمین و(وِروِر) نھدو دون تأمین
صوّب فق أخوك یا أمین وضحى بیھو .. تقبض مین ..؟!

ھذه جریمة یُحفظ فیھا البلاغ باعتبار أن (الفاعل مجھول)..!!
قالوا و(الله اعلم) إن العبادي كان في مدینة (….) وحاولوا أن یخففوا وحشتھ لأم درمان
السلوان .. وجاء ردّه (توریة) من غیر أن یجرح أحداً: .. وكلموه عن امرأة جمیلھ من نساء الأنس الراقي اسمھا (ونّاسھ) ولم یجد العبادي

إیھ ونّاس وونّاسھ..؟! طریت أم در حلیل ناسا
وكیف اسلاھا واتناسا ومفتون بي ظُبا كُناسا
ثم آمال الرجعة

في الختام :
ولّع قلبي جمرو الحي وما بتطفیھو (آه وأحي) ..
ویا زینة ربوع الحي .. لي دیاركم یعود الحي ..!!

 

[email protected]

تعليق واحد

  1. اذكر ليالي العاصمة ومن سوء إلهك عاصمة
    هي عاصمة وشرط عاصي ما يمسك سوار في معاصما

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..