موسم الخراب الغريب
سامية محمد نور
قراءة حول الطيب صالح وعبد العزيز بركة ساكن والبير كامو
في روايات موسم الهجرة ألي الشمال-الرجل الخراب –الغريب
“لا يمكن لأي كان أن يتهرب من التعامل مع ثنائيات الشرق والغرب، والشمال والجنوب، والمالك والمملوك والإمبريالي والمناهض للإمبريالية والأبيض وذي البشرة الداكنة. لا يمكننا تجاهلُ أي من هذه الثنائيات والتظاهرُ بأنها غير موجودة، فالاستشراق المعاصر يتلاعب بها مما يزيد من اتساع الهوة ما بين الطرفين ويزيد من احتقان علاقتهما لتتحول من مرض عارض إلى مرض مزمن”.
(إدوارد سعيد – الاستشراق)
يقول الطيب صالح: “إن العلاقة بيننا وبين أوروبا ليست علاقة رومانسية كما يصورها الأدب العربي، إنها علاقة قائمة على الصراع ما بين حضارتين مختلفتين. هذا لا يعني أن قدرنا خوض صراع مع أوروبا إلى الأبد، ولعلنا نصل إلى حلّ ينهي هذه الصراعات ويردم الفجوة بيننا، ويبلّغُ شعوبنا مكانة مرموقة بين الأمم”.
كتب رواية “الرجل الخراب” السوداني عبد العزيز بركة ساكن الحائز على جائزة الطيب صالح للرواية في دورتها السابعة في عام 2015 أي قبيل الثورة السودانية بقليل.
كتب الطيب صالح روايته في منتصف الستينات وقت خروج دول أفريقيا والعالم العربي من الأستعمار الأوربى.
الغريب لالبير كامو كتبت عام 1942 خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر وقد حصلت علي جائزة نوبل.
أنتهي الأستعمار الأوروبي الشمالي الابيض للقارة السوداء في الجنوب. أنزل أعلامه وجمع جنوده ورحل ليظهر في مكانه شكل جديد من أشكال الأخضاع والسيطرة . هذا الشكل ما بعد الكولونيالي هيمن علي أفريقيا وبقية المستعمرات بقوة الأمبريالية الحديثة التي تتضمن ذات الأخضاع الثقافي والأقتصادي والسياسي .
تتقارب الرويات الثلاثة موسم الهجرة ألي الشمال للأديب الطيب صالح، الرجل الخراب لعبد العزيز بركة ساكن الغريب لألبير كامو في تناولها لقضايا مشتركة معاصرة مثل الهجرة وتأثيرها علي المهاجر التطرف والعنف والجريمة.الكولونالية والأمبريالية ، وصعوبة أندماج المهاجرين وقضايا الهوية والدين. الجنس. ونسبية الأحلال بين قيم القديم والحديث وسط مكونات المجتمع المتحضر ذات الطبيعة المختلفة.(ما عدا رواية الغريب لالبير كامو حيث تفد فرنسا علي الجزائر) وتأثير الأمبريالية اللاحقة للأستعمار كامتداد له علي مجتمعات ما بعد الأستعمار. وتجمع الروايات الثلاث علي مرارة تركة الأستعمار وعمق شروخه علي بنية المجتمعات المحررة التي لن تعود أبدا كما كانت قبل أن تبتلي بهذه التجربة
تروي القصص الثلاث جرائم عنف يرتكبها أشخاص خارج محيطهم الطبيعي وفي ظروف من القهر والكبت النفسي المترتب علي ضعف التواءم مع المحيط مما يصنع من البطل مجرما وليس مواطنا. وتأتي نهايات الأبطال كنتائج تشابه الأفعال أو تمثل امتدادا لها فيختفي مصطفي سعيد فيما يشبه الأنتحار ويقتل درويش علي يد زوجته قتلا اشبه بالأنتحار ويعدم مورسو الفرنسي في الجزائر في دراما تؤكد من خلالها فرنسا عدلها بين أبناءها البيض وأبناء مستعمراتها السود.
وأمر أخر عريض عن تقبل أوروبا (المستعمر) للهجرة السوداء وما تأتي محملة به من تطرف وهوس ديني يرتبط بخطة دفاعية مسبقة تهدف لحماية معتقدات الوافد وحظه من التعليم وسلامة بناء شخصيته وقدراته حيث أن مجتمعات المهاجرين غالبا ما تكون ضعيفة علي كافة المستويات مما يجعل المهاجرعبئا علي المهجر وليس أضافة أو اثراء له بل قد يكون خصما علي أمن البلاد في حال نشاط الفصام الديني واللجوء للعنف لأيصال رسالة ما. وكثيرا ما تتواجه الهجرة مع الأمبريالة في صدام لا يسبر غوره بالمعايير المتعارفة العادية فتطفو ألي السطح عناصرالصراع التقليدية متأرجحة بين الاقصاء والقبول .
كان الأستعمار الأستيطاني أقوي أثرا علي مستعمراته من حيث تأثيره المباشرعلي ثقافتها وتراثها وبنيتها السكانية بإحلال المستوطنين محل المواطنين، وفي الجزائر تحديدا أمتد ألي مطامع فرنسية حول امتلاك أراضي البلاد وتوزيعها علي المستوطنين وأقصاء المواطنين بل وتهجيرهم قسرا وأرسالهم ألي فرنسا للقيام ببعض أعمال السخرة (مشروع مترو باريس) حيث عاشوا كأقلية سوداء مضطهدة .وقد هدف هذا الأستعمار ألي أحلال شعب فرنسي الجنسية والثقافة بالجزائر العربية الأفريقية ،مما هدد هوية المواطن وانتماءه كصاحب أرض وثقافة وفضاء حر يمارس فيه وسائل عيشه كما عرفها وورثها عن أجداده. لجأ الفرنسيس للعنف والقتل والأبادة الجماعية لتنفيذ مشروعهم الأستيطاني، ومارسوا سياسة فرق تسد بالمفاضلة بين العرب والبربر وتقديم المسيحيين علي المسلمين وفرض اللغة الفرنسية كبديل للعربية.
علي أن درجة قبول المستعمر لثقافة المستعمر (بكسر العين) ومحاولته للحفاظ علي هويته ودفاعه عنها تبدت في مقاومة الجزائر العنيفة للوجود الفرنسي بأرضها ألي أن رحل عنها ولكنه خلف تركته السامة في أشكالات الهوية المتمثلة في اللغة والثقافة والخلافات العرقية….. يقول البير كامو: (نحن الفرنسيون منصفون ولسنا عنصريون فعندما قتل أحد منا جزائريا عربيا أعدمناه في تطبيق منصف وصارم للقانون)..
موسم الهجرة ألي الشمال ،هذه الرواية كتبها الطيب صالح في حقبة الستينات ،وقتها كان الأستعمارالأوربي قد رحل ألة وجنوداعن دول أفريقيا والعالم العربي فكانت هذه الدول تلعق جراحها وتلملم كبريائها وتبحث لذاتها عن صوت وهوية وسط العالم الذي اختل توازنه ،فخروج الأستعمار لم يؤثر علي المستعمر فقط بل أثرعلي المستعمر بذات القدر. فالجنود العائدون من ويلات الحرب والموت والقناصل والموظفون العائدون من الصحراء ومن خط الأستواء لم يكونوا هم أنفسهم ذات الشباب الذي اندفع نحو المغامرة والأستكشاف في تلك المنافي البعيدة . (رأيت الجنود يعودون يملؤهم الذعرمن حرب الخنادق والقمل والوباء… رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في معاهدة فرساي.ورأيت لويد جورج يضع أسس دولة الرفاهية العامة). هذا علي المستوي الأنساني والنفسي العاطفي ومن خلال التجارب الشخصية التي مر بها هؤلاء، أما علي المستوي الاقتصادي فالمستعمر قد فقد الذهب والقطن والعمالة والأرض والهيمنة المرتبطة بكبرياء الرجل الأبيض والتي استندت علي تدفق هذه الأموال والموارد من المستعمرات.هذان العنصرن فقط كفيلان بتسليط الضوءعلي نتائج رحيل المستعمرعن المستعمرات علي الطرفين معا ومع ذلك يظل هناك الكثير مما يمكن رصده.
وتمر الرواية بثلاث مراحل تاريخية متصلة يبرز في كل مرحلة منها شخصا أو أشخاصا ينعكس من خلالهم تأثير المرحلة وحمولتها علي حياة الفرد والجماعة .في مرحلة البداية الأولي يظهر جد الراوي بتوازنه واستقراره الفريد ممثلا سودان القرية في وحدة جغرافية وتاريخية قبل أن يتلوث بجرثومة الاستعمار ووجود الأخر وتساؤلات الهوية (نحن بمقاييس العالم الصناعي الاوروبي فلاحون فقراء لكنني حين اعانق جدي احس بالغني).
والمرحلة اللاحقة لها يمثلها مصطفي سعيد وهي تنظر ألي مجتمع ما بعد الأستعمار وعلاقته بالمستعمر القائمة علي البغض وعدم الثقة والمرارة الناتجة عن تشوه الهوية خلال سنوات الأحتلال الطويلة التي غاصت في عمق الثقافة واتلفتها من الجذور وغادرتها محقونة بسموم يصعب التعافي منها بعد أن أعمل فيها الأستعمار خرابا، وتنقسم جغرافية هذه المرحلة بين القرية السودانية ومدينة لندن الأوربية.
أما المرحلة الثالثة، مرحلة ما بعد الأحتلال العسكري الأمبريالية فتظهر في واجهتها شخصية الراوي وهو يحاول التعاطي بتوازن منطقي مع تركة الأستعمار المزدوجة التي غيرت طبيعة المجتمع بتدخلها الثقافي مما زعزع البنية التقليدية القديمة فأفقدها صورتها الأولي ومن المنظور الأخر لذات المجتمع نري أنه بسبب أفتقاده لهويته الأولي فشل في مواكبة الحداثة . فظهرت ألي السطح ثقافة هجين مزدوجة تري بعينين وتتحدث بلسانين .نلاحظ أن الراوي أيضا قد عاش وتعلم في أوروبا ( لقد عشت أيضا معهم لكنني عشت معهم علي السطح لا أكرههم ولا احبهم.كنت أطوي ضلوعي علي هذه القرية الصغيرة الوجوه هناك كنت أتخيلها قمحية أو سوداء فتبدو وجوه لقوم أعرفهم هناك مثل هنا ليس أحسن ولا أسوأ لكني من هنا).
مرت شخصية مصطفي سعيد بعدة تساؤلات وجوديه بدأت بضبابية ظهوره ألي الحياة فهو لم يكن له أب موجود بل أن الكاتب نسب هذا الوالد المتوفي (عمدا) ألي قبيلة العبابدة وهي مجموعة متنقلة بين الحدود السودانية المصرية ومتباعدة عن وجدان الدولتين القومي في تأكيد لذات السياق ،وكذلك لم يكن لمصطفي أخوة يؤكدون وجوده ويضمنون استمرارية هذا الوجود بل كانت هناك أم من قبيلة بعيدة لا أسرة لها ارتبطت به في علاقة غريبة لا تشابه في شيء علاقات الأسرة داخل مجتمع السودان التقليدي، فالراوي بالمقابل له جد وأب وأم واخوة وبيت روائح وأصوات وصديق ،يمثلون القالب النمطي للمجتمع والأسرة في السودان.وتواصله، وبعد سنوات طويلة تأتي نهاية مصطقي ضبابية أيضا فلم يتحدد مصيره بالضبط هل غرق أم انتحر أم ارتحل ملبيا النداء الذي عجز عن تجاهله حتي أن الراوي يتشكك (أن مصطفي سعيد لم يحدث أطلاقا، أنه فعلا أكذوبة) بيد أن حضوره الكاريزمي للامتناهي يبدأ ويستمر حتي النهاية بعد رحيله مجسدا في ما مرت به زوجته حسنة وفي تذكر زملاءه السابقين له وعشرات الكتب التي الفها. وقد تقرأ أيضا نهايته مفتوحة الأطراف حالة عدم الوضوح التي تشكلت من خلالها هويتة عقب دخولها في تجارب ومواقف أثرت عليها دون أن تصل بها ألي وضع محدد المعالم قابل للقراءة والتأويل.
دخول مضطفي سعيد ألي المجتمع البريطاني أرتبط بنبوغه المدرسي حيث انحصر عقله في تلقي العلم وانفتح له علي مصراعيه، بينما ظل قلبه في المقابل مغلقا خاويا بلا مشاعر (كحقل من جليد) ،فحتي والدته لم تنشيء معه علاقة الأمومة والبنوة الكلاسيكية تماما كما وصف البير كامو بطله مورسو فارتحل مصطفي بعد أن بلغ غاية التعليم في السودان بلا وداع وحيدا ألي مصر ليتلقي المزيد في مدارسها، حيث استضافته أسرة روبنسون الأنجليزية المقيمة في القاهرة وارتبطت به ورعته كأبن لها وليس كزائر عابر ، مع ذلك لم يحفل بالحب الذي اسبغته عليه رغم أنه طاف برفقتها معالم التاريخية للبلاد وتعلم منها موسيقي باخ وشعر كيتس وعرف مارك توين وفي هذه الفترة بدأ انبهاره بثقافة الغرب وميله أليها يشاركه في ذلك درويش بركة ساكن الذي وفد ألي أوروبا جاهلا بالفنون والأدب والموسيقي ولما تعرف أليها خلال مهجره الطويل اكتشفها فأحبها (ذهبنا ألي السينما والمسرح وكل المعارض التشكيلية بسالزبورج) وعرف فان جوخ والموسيقي الكلاسيكية وحفظ قصائد تي أس أليوت!.
تبدوغرابة أحساس مصطفي سعيد بمسز روبنسون لحظة التقاءه الأول بها في الأثارة الحسية التي أعترت سنواته الأثتي عشر (كانت تعلم أنني أشتهيها) والتي تطورت لاحقا في لندن ألي علاقات عابرة عديدة مع نماذج مختلفة من النساء الأوروبيات قبل أن يتزوج مما يعكس افتتانه بالسيدة البيضاء. وقد عاش مصطفي سعيد سنوات دراسته في مصر بلا ذكريات ولا مغامرت عاطفية أرتحل بعدها ألي لندن فودعته أسرته الأنجليزية بالدموع من طرف واحد، ويبدو رغم ذلك أن علاقته بأسرة روبنسون قد أستمرت لأن الزوجة حكت فيما بعد عن أعتراضها علي زواج مصطفي من جين مورس ولما حكم عليه بالسجن كانت موجودة لمساندته وكذلك أبدت أهتماما بأسرته بعد وفاته من خلال مراسلات تمت بينها وبين الراوي.
رحل سعيد ألي لندن لتلقي المزيد من العلم وفي نفسه مرارة المستعمر الأفريقي تجاه المستعمَر الأوربي (الرجل ابيض لمجرد انه حكمنا في حقبة من تاريخنا سيظل أمدا طويلا يحس نحونا بالأحتقار الذي يحسه القوي تجاه الضعيف) هذا الموقف الأستباقي هزمته في مصر حرارة أستقبال أل روبنسون ألي مصطفي بيد أنه لم يدفعه ألي أعادة النظر في تفكيره فوصل ألي عالم جين مورس مقدما نفسه كغاز أفريقي يقاضي أوروبا ثمن استعمارها لبلاده (اني جئتكم غازيا في عقر داركم . قطرة من السم الذي حقنتم شرايين التاريخ).المعطيات التكنولوجية والدرجات العلمية التي تحصل عليها لم يعترف بفضل المستعمر فيها (البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز وسكك الحديد أنشئت أصلا لنقل الجنود ولقد أنشاوا المدارس ليعلمونا كيف تقول نعم بلغتهم أنهم جلبوا ألينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر).وألي جانب التحصيل الأكاديمي تعرف مصطفي سعيد علي أدوات ووسائل للثقافة لم تعرفها بلاده فارتاد السينما والمسرح واختلف ألي منابر الخطابة الحرة وتعرف علي الشعر والموسيقي والمحاضرات العلمية. (أقرأ الشعر،أتحدث عن الدين والفلسفة أقول كلاما عن روحانيات الشرق) لا ليتشارك معارفه مع المجتمع بل ليتصيد النساء بطعم العلم . يفعل كل شيء حتي يدخل السيدة ألي فراشه ثم ينطلق ألي صيد أخر،يوظف ما تعلمه في أوروبا لخدمة تلك الغاية (أنت يا مستر سعيد خير مثال علي أن مهمتنا الحضارية في افريقيا عديمة الجدوي فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك فكأنك تخرج من الغابة لأول مرة) أستجابت لأساليب أغراءه سيدات من كل أوجه المجتمع الأنجليزي، لكنه سعي وراء الفتاة الوحيدة التي رفضته (لن أرقص معك) لبث يطاردها ثلاثة أعوام حتي تزوجها.
(وتزوجتها، غرفة نومي صارت ساحة حرب، أمسكها فكانني أمسك شهابا)، لم يستطع السيطرة عليها بالزواج كما يحدث في بلاده!.