سحر المكان وعبقرية الزمان

د. السموءل محمد عثمان
مشهد أول
لو أردت الإبحار في شعر الحلنقي وكجراي وهلاوي ، كان لزاماً عليك إدراك سحر المكان ، و معرفة الجغرافيا التي شكلت الوجدان ونظمت القوافي وتلك المفردات التي صاغته وهي جبال التاكا ونهر القاش وسواقي كسلا ، وأن تسعى جاهداً لفهم ذاك العشق الأبدي بين نهر القاش وسيدة الحسان .
لعلها شكلت وجدان هذا الشعر الجميل ووجدان كل من نشأ هناك ، وستدرك إصرار أهل كسلا إذا خيروا مرة أٌخرى لاختاروا كسلا موطن للنشأة ومرتعاً للصبا وذكريات الأيام .
كانت كسلا حكاية من حكايات الف ليلة وليلة وحكايات شهرزاد .
من هنا تشرق الشمس ثم تقصد بقية الدنيا ..
وهنا كان القمر في أبهى الليالي ، تزدان به الأمسيات الجميلة ، ويرسم الف لوحة على رمال القاش صيفاً، وشعاع النجوم يلمع كاللألي ، كانت ليالي السمار وكان حديث القوافي .
كانت أميرة الشرق بستان مكتظ بالجمال ودوحة وارفة الظلال ، ولك أن ترافق الشاعر توفيق صالح جبريل في رحلته تلك “حديقة العشاق” لتطوف على معالم عروس الشرق .
تجد أهل كسلا يحكوا عن الشيخ أبراهيم أشقر في جامع كسلا الكبير ، وقراءة الكتب في مكتبة الثقافة والإعلام ، وطافت ذكرياتهم عن السينما المتجولة وجلسات المغربية ، ومسرح تاجوج الذي جاء اسمه ليحكى عن تلك الأسطورة تاجوج والمحلق الذي كان مسرحها هناك والسينما الشرقية ومايكروفون السينما الذي يصدح بعشرة الأيام والسنين ويامرية في الاستراحة وغيرها من درر الغناء السوداني .
وحدثوك عن جمال الرحلات لمنطقة ودشريفي ودندنت معهم :
يلاك ود شريفي يلاك ودشريفي في حمى الطبيعة
يسقينا لطف الريف أطباع وديعة
وأكون أسير مغلول في خيوط رفيعة
وحكوا لك عن أفراح كسلا وكيف ازدانت بغناء الفنان محمد مطر من كلمات الشاعر الجميل أبو امنة حامد
الحب ليس قضيتي لكن عيون الناس في موطني
أخشى على قلبي من الإحساس
بدسك من عيون الناس وفضاح الهوى الهماس
وأعيش لقياى معاك ذكرى بتمتد من أمس حالم شفيف تمتد لي بكرة ياصحو النور وميلادو
ومطر وما أدراك مامطر لوجدت كل شباب كسلا يحفظون كل أغانيه عن ظهر قلب وكل فنان جديد يبتدئ بغناء الراحل محمد مطر ، وهي التي تبين ميلاد فنان جديد من عدمه ، فلو أردت في كسلا أن تختبر فنان فلك أن تختبره بأغاني الفنان محمد مطر .
وحدثوك عن أن بإستاد كسلا لست مباراة فقط وإنما تواصل اجتماعي وطرف من ظرفاء المدينة وروح جميلة في الحديث والإصغاء وسط ضحكات الجميع .
كان مسرح تاجوج يزدان بطلات الممثل القدير الفاضل سعيد المتعاقبة في الأعياد والمناسبات وكأن مسرحياته تشتاق كل حين لكسلا وضحكات جمهور كسلا ، كان مسرح
تاجوج في غير ذلك مزدان بأغاني الفرق المحلية من فرق الرشايدة ومطربي البجا والهوسا وفنونها في الغناء والرقص وفرق التمثيل المحلية.
من خلال سردهم حتى لو لم توفق لزيارة كسلا لغنيت معهم (كاسلا كاسلا أنا قلبي سافرا) ، ولحرصت على صلاة العيد في الختمية ورددت (عجل بالنصر وبالفرج) هنا أهل الطريقة الختمية وهناك مسجد البرهانية، ثم التيجانية، وهناك مسجد أنصار السنة المحمدية وبقية الطرق ، مسجد لهذه الطريقة في هذا الحي ومسجد لتلك الطريقة في منطقة أُخرى واحترام متبادل ، ونور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
ولذهبت عصراً وراء الجبل لقضاء أحلى الأوقات لتضع على شريط الذكريات ذاك الجمال وروعة تلك اللحظات الباقية معك على طول الأيام التي تعمل على تنقية وتحفيز ذاكرتك من بعد . ولقضيت يوماً في سواقي كسلا الهاماً وسحرا أو ذهبت لسبيلها تتحرى روعة خضرتها وجمال الطبيعة .
ودخلت دار الرياضة وتابعت فنون الميرغني والتاكا في دوري السودان ورددت مع الجماهير (التاكا حديد) (والميرغني الأنيق) وعرفت كيف عمدت التاكا إلى مواجع هلال السودان بهدف إدريس التاريخي ، ولعرفت بقية فرقها الرياضية مريخها وقاشها وشبابها وفلاحها .
ولو كنت من أبناء كسلا وساقتك الأيام بعيداً عنها لظل لسانك يردد مع فنان العرب محمد عبده (الأماكن كلها مشتاقة لك).
ولعرفت سر رمال القاش مع الفنان زيدان أبراهيم من كلمات هلاوي
والدمعة في الرملة
مابتحكي شوقك كيف
ولو عاودك الحنين لزيارة كسلا مرة أُخرى لأدركت لماذا غنى التاج مكي من شعر الحلنقي وأسيقك مياه توتيل عشان تعود لي ، وكيف تكسبك ماء توتيل ذاك الحنين للعودة .
سحر المكان وعبقرية الزمان لعل من العنوان تجد ارتباط سحر المكان وعبقرية الزمان ، لعل ذاك الزمن الجميل كان له إضافة جميلة على المكان ، جمال المكان كان مرتبطاً كثيراً بالزمن الجميل ، جرت مياه كثيرة من تحت الجسر بعضها مرتبط بحياة الناس ، وانشغالهم بتفاصيل الحياة بصورة أكبر ، وبعضها مرتبط بعوامل المُناخ ، فلك أن تعلم أن عبقرية المكان فقدت كثير من ألقها بغياب بلبها وسمارها غياب الرموز، ورحول كثير من ظرفاء المدينة عن هذه الدنيا لهم الرحمة أفقد تلك الأمكنة كثير من الأشياء ، وصعوبة الحياة على الناس غيرت كثير من الملامح ، وبقولوا “المكان ناس” لكن يبقى الهوى ونسارع بعد كل فترة للوصال .
كانت كسلا مدينة دائمة الوصال ، يتمدد فيها الشوق لكل من زارها ليعود لها مرة أُخرى ، ومن بعد منها تجده يسترق في ذكرياتها الجميلة ، مقام جميل ومطاب حسن لكل من قدم اليها ، تسقيك ودها والحنين لها ، وبكل وسهولة تذوب في مجتمعها من أين مكان قدمت ومن أي اقليم اتيت، مدينة لاتعرف الجفاء ولا البعاد .
ونواصل ….
والله انته مرطب وكان الشارع الدموى لا يهمك فى شئ يا اخى فوق لروحك نحنا فى شنو وانته الله لا يجزيك خير فى شنو