مقالات وآراء

بكائية فى رحيل محى الدين عووضه

صديق محيسى

 

فى زحمة احداث ثورة ديسمبر بدخانها المسموم وعسكريوها ذوى القسمات المغطبة غيبّت فى دخانها وهتافاتها ذكرى ابطال غابوا فى صمت مثل انحسار الظل فى صفحة المساء العجول ابطال وضعوا بذرة التغيير فى تربة السودان منذ فجرالاستقلال , وظلوا دفاعا عنها حتى اخر انفاسهم وهى تصعد الى السماء , عبد المجيد امام , عابدين اسماعيل , امين الشبلى , فاروق ابو عيسى, سيد احمد الحسين,

واخيرا ,محى الدين عووضه, مضى محى الدين فى صمت بعيدا عن ضجيج الخرطوم ووسط دخانها المسموم , وخراطيم مياه الموت الملونة المجلوبة من اسرائيل.

ثلاثة ايام قضيتها مع “القوقيل” ابحث فيها عن نعى لنقابة المحامين لرائد من رواد القانون والدفاع عن الحريات فلم اجد الإ لسانا ممدودا ,فلا ذكر لرحيل بطل من صناع ثور اكتوبر التى اطاحت نظام الفريق ابراهيم عبود , ولا شارده حتى فى ميدان العدالة , وهو احد حداتها الممسكين باعنة قوانينها والدارسين لمتونها ومرجعياتها, لم تتملكنى الدهشة عندما اكتشفت ان الثلاثون عاما التى قطعت تسلسل زمن السودان كانت وراء الإنزلاق الأرضى الكبير الذى اخفى الحقائق غير الحقائق ,واعتبر بداية ونهاية التاريخ لحظة إستيلاء المتأسلمين على السلطة فى السودان ذلك المورفين الذى حقن العقول وغيب بل عطل خلاياها .
فى خمسينات القرن الماضى انهى محى ادين عووضه دراسته القانون فى جامعة الخرطوم وجاء الى وادمدنى مدينته وفتح مكتبا فى عمارة خلف عمارة الديمياطى, غير ان البوليس السرى التابع لنظام الجنرال ابراهيم عبود تخصص فى ملاحقاته واعتقاله اكثر من مرة ,فكان زبونا دائما لحراساته مع قادة اخرين مثل حسان محمد الأمين , ومحمد سيد احمد صاحب مكتبة الفجر, وفاروق محمد ابراهيم , وخليفة خوجلى ,ومحمود جاد كريم ,ودفع الله البلاص , واليوسفان عبد المجيد وميرغنى صاحب الصيدلية الجديدة فى شارع الجمهورية.

كان محى الدين عووضه احد اركان جبهة الهيئات فرع مدنى والتى تكونت عشية سقوط نظام عبود فى ثورة اكتوبر عام 1964, انخرط فى تنظيم الثوار حتى تكلل بقطار مدنى الشهير الى الخرطوم لنجدة الثورة فى ملحمة المتاريس التى قادها فاروق ابوعيسى, ساهم محى الدين فى بناء نقابة المحامين وكان عضوا نشطا بجانب الرباعى عابدين اسماعيل, وامين الشبلى , وبابكر كرار, وميرغنى النصرى, وفى الوجه الاخر الذى يعرفه الكثيرون ان محى عووضه كان كاتب قصة قصيرة نشر العديد منها فى صحيفة الراى العام , والصراحة , والميدان, وفى التراث الفكرى قرأ متون كتب الفلسفة ,رأسمال لكارل ماركس, والوجود والعدم , ونقد العقل الجدلي للفيسوف الفرنسى جان بول سارتر , و”الثورة فى الثورة ” لريجس دوبريه منّظر ثور الشباب فى فرنسا , وفى التراث الأسلامى وبتأثير من صديقه بابكر كرار قرأ محى الدين حجّة الإسلام أبو حامد الغزّالي (الذى كان فقيهاً وأصولياً وفيلسوفاً، وكان صوفيّ الطريقةِ، شافعيّ الفقهِ , وتبحر محى الدين فى علوم التراث الأسلامى .

كان معجبا بالفيسوف الفرنسى المسلم روجيه جارودى والذى قابله عندما زار الدوحة فى تسعينات القرن الماضى كان الراحل ذى عقل جدلى يهضم ويعيد ما يقرأه فحصا وتقويما حتى اطلقنا عليه اسم الفيلسوف ولقد استعنت به مصدرا حيا مهما عندما كتبت كتابى حروب الترابى .

جرب محى الدين الأغتراب عن السودان دون رغبة فى البقاء طويلا جاء به فى التسعينات الى قطر رحمة الله عليه شقيقه الأكبر الفاتح عووضه المستشار القانونى لأمير قطر الأسبق الشيخ خليفه بن حمد الثانى ولكن لم يطب له المقام فعاد سريعا الى السودان وكانت حجته ان هذه البيئة التى لاتحترم حقوق الأنسان يصعب التعايش معها وكان يشير بذلك الى الوضعية الطبقية للأسيويين عموما فى دول الخليج ,لم يكن محى الدين كغيره من المهاجرين يسعى لجمع المال لبناء بيت, او مزرعة فى السودان فتلك كانت اخر اهتماماته وان سعى لها لاحقا فكانت تلك من حر ماله فى وطنه بين اهله واسرته ولم تكن ابدا فى بلد الهجرة.

فى ليالى الدوحة وفى منزل الصديق جعفر فضل وندوته الليليه كان محى الدين اول الحاضرين مشاركا فى نقاش الوضع فى السودان مع ثلة من رموزها المثقفين صالح عريفى, وصالح دفع الله , وحسن ساتى المحامى , وعبد الرحمن مدنى , ومحمد سليمان وارباب على ارباب,وسعد عابدون, والراحل احمد حاج حسين, واذكر ان هذه الجلسة صادفت زيارة الفيلسوف الفرنسى روجيه غارودى الى قطر حيث اعلن اسلامه فى الدوحة, فكان ان رأى غالبية الحاضرين ان اسلام الرجل لم يكن ايمانا منه فى الدين الجديد وانما كان موقفا انتهازيا طاف بعده دول الخليج ليحصل على ملايين الدولارات ,غيران موقف محى الدين كان مخالفا للجميع ,فهو يرى ان هذه الدولارات اولى بها غارودى بدلا من ان تذهب الى دول الغرب, ودافع دفاعا حارا عن غارودى وقال ان للرجل من المؤلفات ماتجلب له الملايين ,وحتى لو قبل العطيات الخليجية فهو يستحقها لأنه كان مدافعا قويا عن حركة التقدم الأنسانى وضد الإمبريالية وذلك يكفى .

فى سيرة الراحل محى الدين عووضه جوانب لايعرفها الكثيرون من هذا لجيل خصوصا السياسيون ولا اظن احدا كان يعرف العلاقة الثلاثية الفكرية القوية بين عووضه, وعبدالخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعى , وبابكر كرار رئيس الحزب الأشترا كى, وبالرغم من ان محى الدين قد غادرالحزب الشيوعى منذ سنوات الا ان علاقته الفكرية كانت مستمرة مع عدد من قادة الحزب وفى مقدمتهم عبدالخالق محجوب ,وكان عبد الخالق يرى فى محى الدين مثقفا عضويا مستنيرا بالرغم من تركه الحزب منذ سنوات وكان يستمع الى لرأيه فى كثير من قضايا الساحة السياسية وكنت اشاهد هذا الثلاثى دائما فى مكتب عبد الخالق فى صحيفة الميدان , وفى مقابل كل هذا كان محى الدين صديقا شخصيا ايضا ليوسف عبد المجيد الذى انقسم عن الحزب الشيوعى وشّكل الحزب الشيوعى القيادة الثورية هو والمرحومان احمد شامى وعلى عمر .

كنا عندما نلتقى فى الأعياد فى وادمدنى نزور يوسف عبد المجيد فى بيته المتواضع فى حى الصقور حيث يسكن هو وعمال مطعمه الراكوبة الذى اقامه فى مدخل مدينة مدنى فى منطقة النشيشيبه بالقرب من كبرى العسكرى, رحم الله صديقى محى الدين عووضه فقد كان عالما من المعرفة والنبل والإستنارة , وقد علمت انه كان قد اوصى ان يدفن فى مقابر مدنى بجانب شقيقيه الراحلين صلاح ,والفاتح ولكن لظروف غير معروفه دفن فى مقابر بحرى, مرة اخرى رحم الله محى الدين عووضه وادخله فسيح جناته مع الشهداء والصديقين وحسن اولئك رفيقا وتعازى الحزينة لزوجته ليلى وبناته واولاده .

 

[email protected]

تعليق واحد

  1. رحمه الله رحمة واسعة ، من سيرته انه كان مثقفا ومحاميا للحقوق ، على الرغم من اننا لم نسمع به في فترة هوجة الاسلامانيين الذين جرفوا الفكر والحقوق والحريات واشاعوا التفاهة ، الا ان لمثله ان يكون قد بذر بذور عقله في ناشئة الأجيال من بعده

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..