مقالات وآراء

السيد شيخ الدين العجيمي : المعاني الأخرى للحب والرحيل

د. عبدالرحيم عبدالحليم محمد

 

1. يومها في منتصف شعبان ، أتت الأخبار من كل فج والنعاة ينعون الى أمتنا وحواضرنا وقرانا ، سيدي شيخ الطريقة العجيمية البديرية الدهمشية في داره بحى المجاهدين وشهر شعبان المبارك يعلن الانتصاف ممهدا لقدوم الشهر الكريم. ولأن خمر الصالحين هي خمر المعاني التي عتقت من عهد آدم ، تأملت في لجة حزني مسميات مثل نور الدائم، قريب الله شيخ الدين، وزين العابدين ، عبد الباقي ، رقية ، نور الشام ونور البقيع ودار الجمال حالما بأرض تتسع لتمدد أفكاري لتتمرغ في أنوار المعاني وتحاول الاستضاءة من قبسها بما يعين الروح على التنعم ببركتها وسحر مضمونها. تلك معان أراد سيدي العارف بالله تعالى محمد على العجيمي جعلها بردة نبوية كاسحة الأنوار. أراد أن يشمل تحت دوحة أسرته بتلك الاسماء بمعان تنساب فيها بركة وسلوكا وتتمدد في وجدان الناس قدوة وتقوى . وسلوكا. نعم .. كانت تلك المعاني تتمدد في الدواخل ،فلم يمنع الحزن تمددها ولكنه منع انكماشها إثر ارتحال أمنا زينب ابراهيم .. رفيقة درب العارف الراحل. مشيعة بمئات المحبين من بيتها في حى المجاهدين ، رافقت الجثمان الطاهر لتتم الصلاة عليه في مسجد العجيمية في الخرطوم قبل أن ترافقه ليقبر مع أشقائه في خاصرة الجبل بالبرصة. هنا حملت مع رفيق دربها مهمة الرحيل الى رب العالمين ، مشرقة بأنوار شعبان الى رحاب الرحمن. في الدواخل نشأت دلالات وجدانية قي تفحص متعدد الطبقات في عمق تلك الأسماء ، كون أن المعاني لا تأتي إلا بقدر ، فقد تأملت أيضا في كلمة “المجاهدين” التي حوت  بيت سيدي شيخ الدين ورفيقة دربه أمنا السيدة زينب ليتجها معا الى رب العالمين ، فوجدت أن المعاني عادة تكون منصفة في حضرة الصالحين ، وتحتاج فقط الى تأمل يجلي مقاصدها ويبيِّن مغزاها، فهي مأمورة في عالم صنعه من سمى نفسه البديع وأزاح عن الصالحين أى ستر يمنع فهم المعاني الباطنة والظاهرة فيها..

2 . تلاحقني .. سرى أمامي وتأويبا على أثري كما قال حكيم المعرًّة ، أشتات في القلب مركزها سيدي شيخ الدين ودائرة العجمية والفقرا . القادمين من قرى بعيدة .. ربما من العفاض أو رومي او البكري، الدبة ، الجابرية ، جرا ، أرقي .. الكرد .. الخ ، تستحث مسيرها في حر غائظ أو تحت ليلة مقمرة نحو دائرة السيد العجيمي في البرصة . إنني أبصر عبر “باب السر” في بيتي في قرية الأركي غبار سيرهم . إن الفقرا يدركون طول المشوار ومشقة الطريق وهم في هذا المسير ، يعلمون أن بالطريق محطات “ترانزيت” هي بيوت الفقرا الممتدة على طول الطريق فأما أنهم يبيتون في أحدها أو يستريحون على أن يطلق مسير المواصلة صافرته نحو دائرة الفقرا. في الفجر مع هبوب نسماته الأولى . عندما تتسرب صورة دائرة الفقرا العجيمية الى مسامات وجدانك وأنت تتأمل انطلاقتهم اليك ليلخص عبر حزم من معاني النور والصفاء ، صدق الآباء الذين مضوا على تنشئتك في اتجاه أن تحب أخاك كمعبر لحب خالقك ، وأن تحيا في الدنيا بفرح مصدره توازن التوكل على رب العالمين وأن يكون معنى الزهد الناشئ عن ذلك التوازن ، هو أن تنعم بحياتك غير مهموم ولا جزع ما دام التوكل هو الأساس والحب هو السلوك فيكون سعيك عبر التشرب من مدرسة العارف بالله تعالى السيد محمد على العجيمي ، هو سعى من خلق ليحب، ومن أنجب لتستمر المسيرة ويسمو مقصدها نحو رب العالمين. عبر الأبناء الذين كان شيخ

الدين آخرهم ارتحالا الى رحاب الله ، اكتسبت صورة الدائرة محياها ومقصدها وغرضها الذي يخرجها دائما من ربقة الطين الى رحاب الروح ، أدواتها في ذلك جداول من الصفاء تجري بالداخل ، ونخل له أكمام يطرز المكان وصدى مديح يأتي من جنبات الخلاوي وأركان الزوايا. في الركن الجنوبي الغربي يجد الداخل عبر تلك البوابة ، خلوة شيخ عبدالحليم القرآنية .. مبناها الحجري ونوافذها الخضراء .. هناك خلفها حيث كان السيد شيخ الدين ، يداوم مهمة استقبال الفقرا القادمين على متن لوري او لاندروفر ليكون قدر تلك الخلوة تجويد الوصال في تلك الساحة من درب اللواري كما نقول والسيد شيخ الدين ربان ذاك الملتقى ، يحدثك حديث العارفين عن أسرار تلك الخلوة واسهامها في رفد بلادنا بالعديد من الرجال الذين اسهموا في رقى الوطن وتنميته صحة وتعليما وخدمة عامة وقبل كل شيء تربية الروح وإعلاء مداركها ومكنوناتها في صنع الخير أو الإسهام فيه.

3 . يعرف الفقرا القادمين من بعيد ، أنهم وبعد إناخة مطاياهم تحت أشجار الدوم التي تحيط بالمكان ، فإن أول مستقبليهم إلى الداخل سيكون سيدي شيخ الدين. إنه متمرس منذ صغره على هذه المهمة التي ألفها وألفته وهو هنا لا يرحب بأغراب وانما بإخوة أحباب فبل أن يأخذهم الى حيث ينتظرهم شيخنا نور الدائم. هناك تكتمل مشاهد الانصهار في بهجة اللقاء حيث يزول عنت الطريق وتنهض سلالات لا حصر لها من معاني الحب وتتجدد خلايا الحناجر :
.. أبريق لاح من قرب
أم بدت ليلى لذي حب
أم تجليها القديم بدا
لمعاني حضرة القرب
يا خليلي كن على عهدك
تك مأمونا من العطب
من أراد لحينا يأتي فليبارح دولة الحجب
لا يكون السيد شيح الدين مشرفا على دخول الفقرا الى بيت الصفاء . والحب .. الدائرة فقط ، ولا على حسن الإيلام لهم بصُفر تأتي من بيت أم الفقرا رفيقة درب السيد الأكبر عليه وعليها رضوان الله ، بحيث تزيد بركتها أيادي تكثر حولها ولا تنقص من بركتها .
.. إن السيد شيخ الدين هنا يمارس مهام متعددة الأغراض بحيث يؤاكل الفقرا ضيوفهم وفقا لمنهج النبوة وتعاليم الطريقة ، ويشبعهم طعاما ومسامرة تجلب الى ساحة الدائرة أخبار من لم يأت والترحم على من مضى . غير أن أهم الادوار لسيدي شيخ الدين هنا مع إخوته  السادة ، هي الإشراف على موائد التبرك بتلاوة المولد المسمى “كامل الأنوار” وديوان العارف وتائية السلوك الكبرى وحزب أسماء الله الحسني الجامع للفيض الأسنى . هناك تحس بأن الفقرا القادمين من بعيد ، قادمين الى محطة ترانزيت كبرى بين الدنيا والآخرة هي الدائرة بمجملها. ذاك عروج الى رحاب الهية أسمى تنطلق من الدائرة ومن قبة العارف بالله مؤسس  طريقتها ومؤثثها بجسمها الفضي المخروطي كصاروخ يتأهب نحو الاندفاع منطلقا رأسيا لمقامات أرفع ومتخيرا منها أعلاها وأسماها.

3 . عندما يتحدث الفقرا العجيمية عن مركز طريقتهم في البرصة في خاصرة جبل الصلاح “كلنكانكول” ، يصفونها ب”المحل” فهي المعرَّفة باللام وذاك لام يلازم كلمات مثل البديرية ، الدهمشية ، الضريح .. المحل … في شأن أكبر يميز هذه الطريقة التي نادت بوحدة الطرق الى الله تعالى كمعلم يأتي في قمة تجليات من سلكوا هذا الطريق الطريق . لقد عرف الجميع السيد شيخ الدين كبدر يطلع من بين تقاطعات هذه اللوحة من الكلمات. لا بد لك من رؤية تلك الكلمات وهي تتوالى في داخلك تواليا لا هو بالصاخب ولا هو بالهاديء. إنك لترى تلك الأمواج الماضية قدما متضامنة هادئة لكنها تخلق في داخلك عباب كبير عندما تتحد تلاطماتها في في وجدانك وتأخذ بيدك نحو مصب كبير . وقد كان سيدي شيخ الدين أحد هذه التلاطمات الهادئة !!! التي صبت في دواخلنا منذ الصغر لطيفا ، ملاطفا ، عطوفا ، مهذبا وسيما جميل الوجه متزن العبارة مشرقا كبدر منتصف شعبان الذي رحل فيه حيث  رحل في ليلة المنتصف في تداع أكبر لمجمل المعاني والدلالات التي لازمت هذا الراحل منذ نشأته. ، ثم سرت خلفه كنسمة مرافقة ، رحيلا الى دار البقاء ، أمنا السيدة زينب ابراهيم . وهذه السيدة ما شأنها وكيف أزمعت الرحيل وكأنها بذلك تنشئ معان لا حصر لها عن رفقة الدرب فهو ليس درب اقامة طينبة في عالم الطين ولكنه ابراز لبطاقة تجليات اخرى متجهة نحو رب العالمين في منتصف شعبان والكون يتلهف للقاء شهر أنزل فيه القرآن.
نالت أمنا السيدة  زينب منذ صباها تربية سلوكية من أم الفقرا السيدة حرم السيد العجيمي . تلك هي جامعة الضفتين فهي من السادة العونية الشاطراب على الضفة الأخرى للنهر . هناك حيث كانت البواخر تتخذ مرساها في “رأس الصفا” هكذا هو اسمها وأنت هناك ترى الرمل النهري يلتمع بأنجم متناهية الصغر لكنها عالية الالتماع والنصاعة !!! وقد ذكرت من قبل أن المعاني عند هؤلاء السادة والفقرا ، مأمورة في اتجاه أن تصيب هدفها في حضرة من يعنيهم الأمر من صناع السلوك والقدوة وهداية الناس في عالم تجتاحه الخطوب والنوازل من كل فج . كانت أمنا زينب كمرسى رأس الصفا بقرية الحلة البيضاء ، منها واليها تقلع جوار منشآت كالأعلام أساسها الجود والكلم الطيب والسعى نحو مرضاة رب العالمين. رأس الصفا في الحلة البيضاء ، يملأ مسامات ذاكرتك وياله من رمل يغتسل في كل لحظة بدفقة من مياه النهر في تعاقد بديع فكأن مهمة دفقات النهر زيادة اشراق تلك الذرات الفضية وتتكفل هي بأن تظل طهورة وساقية ومشرقة تسعد النظر وتحتضن أسراب الطير وأنظار الناظرين فلا يبقى من درنهم شيء!!.

4 . رحل سيدي شيخ الدين الى الدار التي لا ترقى اليها الأباطيل ، ليدفن الى جانب اخوانه في خاصرة الجبل .. قريب الله وزين العابدين ونور الدائم وعبد الباقي . بعده تزايدت محفزات الحديث عن سيرته لكن تقاصرت لغة الكلام عن من كان يزيد المكان سطوعا كضوء تتكسر طبقاته في كل الزوايا هناك في قرانا النائية وفي حواضرنا وبيوتنا وطقوس افراحنا وأتراحنا.
رحمك الله سيدي شيخ الدين وأمنا السيدة زينب وبارك في ذريتكما ووفق آل السيد العجيمي كعروة وثقى على دروب الإخاء في الله تعالى والحب هديا بسلوك المصطفي واهتداء به وإن الى ربك الرجعى واليه المسير والمصير .

 

[email protected]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..