جَمَالِياتُ التَّشْكِيلِ وَ بَرَاعَةُ التَّصْويرِ فِي شِعْرِ وَد الرَّضِي
قَصِيدة (النَّاحِر فُؤَادِي) نموذجًا

عماد الدين قرشي محمد حسن
الجمالُ طاقةٌ تستنفر كل قوى الإبداع والعطاء , وتتجلى في الذات الإنسانية بصور وأشكال متنوعة , ويبقى الأثر الجميل دائمًا دالًا على الذات التي صنعته , والشعر كما هو معروف عبارة عن شكلٌ ومضمونٌ , ويأتي مبلغ جماله من استيفائه لعناصر متعددة تساعد على إبراز القيم الجمالية ضمن التَّشكيل الشعري , ومن هنا جاءت تسمية هذا المقال : ( جمالُ التَّشكيل وبراعة التَّصوير في شعر ود الرَّضي) , وهي دراسة سعى البحث فيها إلى استجلاء مواطن الجمال في تشكيلات ود الرضي الشعرية بمستوياتها المختلفة , واتَّخذ البحث أغنية ( النَّاحر فؤادي ) نموذجًا لاستقراء مواطن الجمال وبراعة التَّصوير في تلك اللَّوحة البديعة التي رسمها شاعرنا ود الرَّضي .
أمَّا قبلُ ..
في البدء نقرأ سيرة مختصرة للشاعر ود الرَّضي في حدود ما يخدم البحث والاستقراء؛ فلذا لن يسهب البحث في سرد تفاصيلها , بل يكتفي بإشارات تضئ عتمة النَّص .
من هو ود الرَّضي ؟؟؟
محمد ود الرضي شاعر غنائي سوداني , يعتبر من أبرز شعراء الأغنية السودانية , من مواليد العيلفون عام1884م , حفظ القرآن بخلوة الشَّيخ ود بدر بأم ضوًا بان وتوفي عام 1982م .
كما كان للبيئة أثر كبير في شعر ود الرضي , ؛ فقد كان صوفيًا مثقفًا مزج في شعره بين هداوة الريف , ودفء العاطفة , وحكمة البادية , وقوة الكلمة وجزالتها , وتأثر بالقرآن الكريم في معانيه وأوصافه البديعة .
ماذا قالوا عنه ؟؟؟
قال عنه عمر الحاج موسى : ” جاء من أم درمان إلى العيلفون بعد أن رضع من ثدي البادية حليب العفة والالفة والسَّماحة والتَّسامح. ”
وقال عنه السَّفير عبدالرازق صالح : ” محمد ود الرضي ليس بشاعر وإنَّما حالة شعورية ممتدة انبجست من منابع ثرة دفَّاقة السلسبيل .”
وقال عنه البروفسور عبد الله الطيب – رحمه الله – في حديثه عن أم ضوًا بان :
” إنَّ ( أم ضبان) ويعني – أم ضوًا بان- أتت بمستحيلين : أولهما : الشَّاعر محمد ود الرَّضي , والذي جاء بستة عشر مفعولًا والتفعيلات ومفاعيلها في قصيدة ليالي الخير) وتخطى بذلك ( الخليل بن أحمد الفراهيدي ) صانع العروض , ولعل الخليل لو أدركه لـ شهق إعجابًا بـه ” , يقول فيها :
شفت الحسن الحافل رافل….
في ثياب العز والعز كافل…
رانــــــع واحـــــــل تايه غافل….
لادن هــــــادل ضامر كافل…
هـــــادئ ساكـــن آمن قادل…
بهجة هيبة حـــــاكم عــادل…
لافــــــح فره وطارح ســــادل…
ليل عسعس كاسى الهادل…!!
والثاني ( الشيخ صالح بن تاج الدين ) الذي سبَّع البردة . فتخطى بذلك كل الذين سبقوه من قبل .
النَّص :
النَّــــــــــــاحِرْ فُؤَادِي مُوْلِعْ جُــــوفِي حَرْ
أَضْرَم نَارَ وَجْـــدِي نَسَّــــــــــــــامْ السَّحَرْ
اشتمل هذا المطلع على ثلاثة مستويات لتشكيل المعنى :
أولًا : على المستوى الصَّرفي : بدأ الشَّاعر مطلع هذا النَّص بالجملة الاسمية وما تمثله من ثبات واستقرار , وقد يلجأ الشَّاعر إلى التَّعبير بالجملة الاسمية عن الحاجات التي تحتاج إلى توصيف وتثبيت , فأراد الشَّاعر أن يؤكد ثبات الصفة فاستعمل صيغة اسم الفاعل ( النَّاحر) , وهو صفةٌ دالةٌ على الحدث والذات , والتَّعبير باسم الفاعل أدوم وأثبت من الفعل , وقد جاء اسم الفاعل من الفعل الثلاثي المجرد ( نحر) , و قد خلق إيراد اسم الفاعل هنا تجانسًا موسيقيًا ألقى بظلاله على عجز البيت , فيخاطب الشَّاعر موصوفه ( النَّاحر) بأنَّ نيران الحبِّ وويلاته قد عصفت به , وقطَّعت أوردته وشرايينه وأشعلت في جوفه النَّار , ولعلَّ الشَّاعر يشير إلى سطوة الحبِّ ونفاذ حكمه فيمن يقع فيه . ثم أتى باسم الفاعل ( مولع ) من الفعل الثلاثي المزيد ( أولع ) , وقد ناسب هذا البناء المبالغة والقوة في المعنى فضلًا عن الثَّبات والاستقرار .
ثانيًا : على المستوى الموسيقي : فقد تميَّز هذا النَّص بالغنائية العالية بفعل اهتمام الشَّاعر بالموسيقى الداخلية التي توفرها الأنساق الصَّوتية والإيقاعية بدءًا بالبحر العروضي وانتهاء بـتتابع صيغ اسم الفاعل , وتكرار بعض الكلمات , وتكرار حرف الراء وهو صوت لثوي مكرر مجهور , ومن معانيه الحركة والتَّرجيع والتَّموضع والرِّقة , وهذا ما يتناسب مع وَلَهِ الشَّاعر وفيضه ؛ وقد ترك ذلك أثرًا فعَّالًا إذ هيأ له صفة التِّكرارية من خلال ترديد الصِّيغ لا الألفاظ ؛ ممَّا خلق إيقاعًا يتصف بالإيحاء والإثارة : ( الناحر) , ( مولع ) , ( دامع ) , ( شاغل) , ( المايق ) , ( ساه ) , ( لاحم ) , ( ماح ) , ( غالي ) , ( كاين ) , ( مافق ) وغيرها .
ثالثًا : على مستوى الصُّورة : فقد استعان الشَّاعر بالصورة الخيالية , فاستخدم الاستعارة المكنية في قوله : ” أضرم نار وجدي نسَّام السَّحر” لتشكيل هذه الصُّورة ؛ حيث شبَّه الشَّاعر (الوجد) بالوقود الذي يشتعل , فحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو (أضرم) على سبيل الاستعارة المكنية , والقرينة هي اثبات الاشتعال للوجد , والمعنى أنَّ نار الحُبِّ منتشرة في الوجد , والوجد هو حرقة الشَّوق , والذي زاد من اشتعالها هو نسيم السَّحر الذي يضرب به المثل في طيبه , ولعل الغرض من الاستعارة هنا الشمول .
و في المقطع الثاني يبدأ ود الرَّضي بذات الجملة الاسمية ليؤكد ثبات الصِّفة , فيقول:
” دَامِــــعْ لَـــجَّ طَـــرْفِي يَـا أَبْ طَــــرْفَاً سَحَـــرْ
والبَسَــــــمْ المُفـَلَّـــــــجْ للأكْبــــــَـــادْ نَــــحَــــــــــرْ ”
وفي هذين البيتين استخدم الشَّاعر مستويين لتشكيل المعنى , المستوى اللُّغوي , ومستوى الصُّورة , وفي هذين البيتين يصف الشَّاعر حاله وما أصابه من ولهٍ بالمحبوب , فاستهلَّه باسم الفاعل ( دامع ) ليثبِّت تلك الصِّفة التي لازمته ما دام يرى ذلك الطَّرف السَّاحر. وبعد أن فرغ الشَّاعر من وصف مشاعره انعطف إلى الحديث عن وصف محبوبه , فصورها وفق رؤيته الشعرية , فبدأ بالوصف الحسي , فاستخدم الأسلوب الطلبي , الذي استهله بمخاطبة المحبوبة بحرف النداء , فيقول : يا ساحر العينين قد أدمع الشَّوق والتَّبريح عيني , وأذابت البسمة والفلجة كبدي , و(البسم المفلج ) البسم : هو الثَّغر أو الفم الصَّغير , و(الفلج) هي مساحــة صغيرة بين الأسنان الأربع في الفك العلوي وكانت العرب تعتبرها سمة جمال للمرأة وما زالت , وقد نالت الأسنان حظًا وافرًا في الشعر العربي , فهذا عنترة بن شداد يصف سحر الابتسامة وموضعها فيقول :
فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُـوفِ لأَنَّهَا لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّـمِ
ففي قوله: “ لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّـمِ” تشبيه تمثيلي يوضح مدى جمال أسنان تلك المحبوبة . فهو عندما رأى لمعان السيوف تذكر لمعة أسنان محبوبته عندما تبسمت .
وكذلك تغنى شعراء الأغنية السُّودانية بجمال الثَّغر المتبسم , فهذا أبو صلاح في قصيدته ( يا من فاح طيب رياه) يقول :
” يا من بدى نور محياه
يفوق بدر السماء في ضياه
إذا لاح برق ثناياه
السحاب يبكي يذوب في مياه “
وهذا الشَّاعر الكبير عبد الرحمن الريح يقول في قصيدته ( قلبي همالو) :
شعرو حاكي الغيم حاجبو هلالو فر بسمو نغيم والبروق لالو
ومن الأدب الشعبي نسمع عكير الدامر يتغنى بجمال الثَّغر حينما يفترُّ , ويكشف عن بياض الأسنان التي تعكس شعاعًا كالبرق , ويبدو ذلك الفلج الطبيعي الذي يصرعنا , فيقول :
أَخَدَرْ لَيهُو ضُلْ فَوقُو المَحَاسِنْ شَرَّنْ
أَفْلج فَاطرو زَي برق السَــــواري الكرَّنْ
يِتقَسَــــمْ مَقَـــــاطِع في المَشِي ويتْحـــرَّنْ
زي فــــرخ القطا الأمــــــاتو رَكَّـــنْ وفـرَّنْ
ثم يستمر الشَّاعر في وصف حاله في البيت الثاني من نفس المقطع , فيقول :
” لاَ يَبْــــــرُدْ حَـمِيــــمِي لَــــــوْ أَحْسَى البَحَــــــرْ
دَارِى ومَاكْ مِـــدَارِى يــا سَـــمْــحَ النَّـــحَـــــــــرْ”
وتتجلى لنا شعرية التَّشكيل الفني لدى ود الرّضي في هذين البيتين , فنجد على المستوى النَّحوي قدَّم جواب الشَّرط على الشَّرط لأهميته في المعنى , إذ لا يتعلق الجواب بالفعل الشَّرطي ؛ لأنَّ الأسلوب في هذا النَّمط يحمل معنى التَّعميم , فـ( لو ) حرف شرط غير جازم يُستعمل في الامتناع أو في غير الإمكان، أي: امتناع الجواب لامتناع الشَّرط ؛ فيمتنع برود نار الحُبِّ وويلاته لامتناع حدوث الشَّرط وهو شرب كل ماء البحر! فكأنَّ لسان حاله يقول : لن تبرد نار الشَّوق التي تتقد في جوفي حتَّى ولو شربتُ كل ماء البحر . والذي زاد المقطع جمالًا تكرار النداء في البيت الأول والرابع , والنداء من الأساليب التي تثير الحيوية والحركة في النَّص الشعري , وعلى المستوى الموسيقي استعان الشَّاعر بالجناس بين كلمتي : (دَارِى) و (مِـــدَارِى) .
وعلى المستوى اللغوي يستهلُّ ود الرَّضي المقطع الثالث بأسلوب خبري , يستخدم فيه أسلوب القصر , فيقول :
” مَا أطْــــــرَاكْ حِبَيْـــبِى إِلاَّ وقَلْبِى فَــــرْ
أتْــــلَــــظَّى وأكْــــظُمْ الغَيـــــظْ الــــــوَفَــرْ “
فاستخدم الشَّاعر طريقة النفي والاستثناء ؛ ليؤكد المعنى ويوجزه , وليمكِّنه من الذهن ” مَا أطْـرَاكْ حِبَيْــبِي إِلاَّ وقَلْبِي فَــــرْ” فقصر الشَّاعر ذكر الحبيب على خفقان القلب , فالذكر صفة والقلب الخافق موصوف , والغرض تخصيص ذكر المحبوب بخفقان القلب , وفحوى كلامه في هذا البيت أنَّه كلَّما يأتي ذكرك يخفق قلبي وأتحرق بنيران الغرام وأحسُّ بحميمها ولكني أكتم غيظي الكثير وأحبسه وأمسكه . وليجعل الشَّاعر صيرورة وديمومة هذا الفعل صدَّر كلامه بالفعل المضارع : ( أتلظى , أكظم ) , ويستمر الشَّاعر في وصف المحبوب وتصوير حاله فيقول :
” يَنْعِشْ رُوحِى طِيبَكْ لَوْ مَحْيَكْ سَفَـرْ
زَىْ مَـــــــا بَىَّ تَفْعَــــــلْ ذَنْبَــــكْ مُغْتَفَــــرْ “
وفحوى كلامه : حينما ينكشف وجهك الوضَّاح وتبدو أمام ناظري ينفحني شذى عطرك الفوَّاح , فأفيق وأنهض من الهلكة التي سقطتُ فيها , فافعل ما بدا لك فمهما يكن من أمرٍ فذنبك مغتفر .
وفي المقطع الرابع يستعطف الشَّاعر المحبوب , فاستحثه بالطلب , فقال :
” أَرِى البَىَّ يَــــا مَــــــنْ سَاقِينِي الجُرَرْ
إِنِّى المِنْ غَرَامَكْ عُرْضَه لِكُـلْ ضَرَرْ “
فالشَّاعر في هذا المقطع كثَّف في الطلب ؛ فجمع بين الأمر والنداء بغرض الاستعطاف , فيقول في فحوى كلامه : انظر ما آل إليه حالي يا من سقيتني الألم جُرَر ؛ فبسبب غرامك صِرتُ عُرضةً لكلِّ ضرر . و( التَّجَرْجُرُ) و (الجُرَرْ) هو صَبُّ الماء فِي الْحلق , وقيل : هو أن يجرعه جرعًا متداركًا حتَّى يسمع صوت جرعه ، وَجَرْجَرَهُ الْمَاءَ: أي سَقَاهُ إِيَّاهُ على تلك الصُّورَة ؛ قَال جرِير :
وَقَدْ جَرْجَرَتْهُ الْمَاءَ حَتَّى كَأَنَّهَا تُعَالِجُ فِي أَقْصَى وِجَارَيْنِ أَضْبُعَا
ويستمر الشَّاعر في وصف حالة الهيام بالمحبوب وشدة الوله فيه , فيقول في المقطع الخامس :
” أَبْصَرِ طَرْفِي طَرْفَكْ حَكَى طَرْفِي المَطَرْ
وقَلْبِي كـأنَّه طَــيـرُه خَــافـــِقْ وانْفَــــطَـــــرْ
احْـــــــذَرُوا يَــــا أحِــــــبَّه حُبَّ الرِّيمْ خَطَرْ
يَكْفِى البَىَّ حَاصِلْ مِـــــنْ حَالِـــي الفَطَرْ “
وتتجلى براعة التَّشكيل الفني لدى الشَّاعر في المستوى البلاغي والفني حينما استعان في إبراز المعاني التي تضمنها هذا المقطع عدد من الأدوات البلاغية منها : المجاز المرسل في قوله ” حَكَى طَرْفِي المَطَرْ” حيث المراد بالطرف هنا الدمع فالعلاقة بين (الطرف) و( الدمع ) علاقة محل وحال , فاطلق المحل وهو (الطرف) وأراد الحال وهو (الدمع) , فصار مجاز مرسل علاقته المحلية , حيث أراد أن يشبه الدمع بالمطر . وكذلك استخدم التَّشبيه التَّمثيلي في البيت الثاني من ذات المقطع , حيث يقول : ” وقَلْبِي كـأنَّه طَــيـرُه خَــافـــِقْ وانْفَــــطَـــــرْ ” فشبه خفقان قلبه بالطائر الذي ينفض جناحيه عندما يطير فيتحرك جناحاه ويضرب بهما جنبات جسده محدثًا صوت الطيران , وليس هذا فحسب وإنَّما قلبه انفطر, فاحذروا يا رفاقي حبَّ الرِّيم خطر.
وفي المقطع التالي يصف الشَّاعر ذلك الحفل البهيج وتلك الفتاة التي أسرت القلوب , فقال :
” شَادِي الحَفْلَة طَنَّ والإكليل سَفَرْ
والنَّشَّابْ تَـــوَاتَرْ للفَـــــاطِــرْ غَــفَـــرْ “
بدأ الشَّاعر هذا المقطع بقوله :( شادي الحفلة ) , ويقصد به المُغني , و( طنَّ ) من الطنين وهو صوت الرنين , و( الإكليل ) هوما يكلل به الرأس من ذهب ونحوه , أو هو حلية نسائية للشعر تزين بالجوهر , وهو كناية عن المرأة هنا , و( سفر ) بمعنى بدا وظهر , وفحوى الكلام أنَّ مغني الحفل بدأ في الطرب والفتيات الحسناوات بدأن في الظهور . و( النَّشاب ) هو سهم القوس , و( تواتر) أي استعدَّ للانطلاق , وفي قوله : ( للفاطر غفر ) يظهر هنا الأثر القرآني للشاعر فقد تناص هذا القول مع الآية القرآنية : ( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ ) الآية 10 من سورة إبراهيم , وهو تناص لفظي ودلالي , وقد كان الشَّاعر موفقًا فيه ؛ حيث تناسب مع المعنى الذي يقصده , وفحوى كلامه في هذا المطلع : وأعدَّ كل واحدٍ منا كنانته وقوسه و سهام عينيه ليرمي ظبيه ويظفر بالإكليل ( فتاته ) , والله غافر الذنب . ثم يستمر الشَّاعر في وصف فتاته التي تمركز معنى الحفل فيها , فيقول :
” ظَبْىَ الــرِّيمْ تَبَخْتَرْ للآسَادْ ظَـــفَـرْ
مَعَنَى الحَفْلَة كائن فِي واحِدْ نَفَرْ “
فانظر إلى براعة التَّشكيل على مستوى الصُّورة في قوله : ” ظَبْىَ الــــرِّيمْ تَبَخْتَرْ ” , فقد استعار الشَّاعر( الظبي ) لفتاته ؛ لما يمتاز به من خفة الحركة والرشاقة وقوة البدن وصعوبة صيده , فجعله يمشي متبخترًا مختالًا , فاستعمل الاستعارة التَّصريحية , فشبَّه فتاته بظبي الريم وحذف المشبه وصرَّح بلفظ المشبه به على سبيل الاستعارة التَّصريحية , والمشبه هو في الأصل مبتدأ محذوف , فأصل الكلام ( هو ظبي ) فالشَّاعر هنا مهتم بإبراز الصَّفات الجمالية للمحبوب , فحذف المبتدأ بغرض التركيز على الخبر, وتقوية الوصف فيه , فاشتمل التَّعبير على حذفٍ واستعارة , وفحوى كلامه : قامت فتاة من أجمل الحسان تتمايل بجسمها اللَّدن وتتبختر في مشيتها نحو ساحة الرَّقص , فاطلق الفرسان نشابهم فأصابت قلوبهم كلَّهم , ونالت إعجاب الحاضرين كلهم رجالًا ونساء وتمركز الحفل حولها .
وفي المقطع التالي يخاطب الشَّاعر ظبيه الذي صاده فيقول :
” وَرِّينَا النَّشَاهِـــدْ لَي دَارْةْ القَــــمَــــرْ
وأتَّكِي فِي المُبَنَّى ولُولِيبُو الثَّـــمَــرْ “
فقد استهل هذا المقطع بتكرار الفعل ( وَرِّينَا ) بما يشبه معناه ( النَّشَاهِـــدْ ) رغم اتفاقهما في المعنى العام و اختلافهما في الدلالة , فالرؤية هي إدراك المرئيات , والمشاهدة هي المعاينة عن قرب , والتكرار يعرِّفه ابن الأثير في ( المثل السَّائر) بأنَّه : ” دلالة اللَّفظ على المعنى مردَّدًا ” , والتِّكرار أحد علامات الجمال البارزة , ويُراد به التَّكثير في الفعل , وفائدته التَّرسيخ في الذهن , وهو أبلغ من التَّأكيد ؛ فالتوكيد إعادة اللَّفظ بعينه , والتكرار إعادة اللَّفظ بنطقه وما يشبه معناه , ولعل الغرض منه هنا في مطلع هذا البيت التَّلذذ بذكر المكرر. وربما يكون الشَّاعر قد وقع في مخالفة نحوية حينما أدخل (ال) التَّعريف على الفعل المضارع ( نشاهد ) , لكن الشَّاعر حسبه الكوفيون فقد أجازوا له ذلك للضرورة الشعرية مستشهدين ببيت الفرزدق :
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ولا البليغ ولا ذي الرأى والجدل
ويستمر شاعرنا في حشد الصور البيانية فاستخدم الاستعارة التَّصريحية في قوله :
” دارة القمر” ودارة القمر هي هالته , ويقصد بها فتاته , حيث شبه فتاته بدارة القمر , فحذف المشبه وصرَّح بلفظ المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية , وفحوى كلامه يقول : دعينا نرى ونشاهد هالة القمر عند اكتماله في ليلته , وما أبدع من بنى هذا الجسد ,وذلك الصدر الطامح الذي يراقص ويهز ثماره برفق حينما يتحرك .
ويكمل الشَّاعر الوصف الحسي لمحبوبه فيقول :
” والجِّيــــــدْ المُحَزَّزْ نَسِّــــفْبُه العَمَــرْ
مَرَّه ومَرَّه أجْدَعُه فِي طَيْ الضَّمَرْ “
وفي قوله : ( الجيد المحزَّز ) كناية عن طول الشعر إذ يستلزم من طول العنق , طول صاحبه , وحينما يقوم الجِيد برمي الشَّعَر على الخصر يمنة ويسرة ؛ فهذا دليل على طوله , وفحوى كلامه أنَّ محبوبه ذو عنق طويل محدد الأطراف , ذو لحم غير بائن يرمي بالشعر مرة , ومرة أخرى يرمي به فوق الخصر الضامر النَّحيل .
وفي المقطع التالي يصف الشَّاعر رقصة المحبوب وصفًا دقيقًا جمع فيه كل صفات محاسن المرأة , فقال :
” الكَتْفَ المُهَدَّلْ والجِّسْمَ إنْتَبَــــرْ
والصَّادْ والمُزَمْزَمْ والغَيمْ والتَّبَرْ “
بدأ الوصف بالكتف لأنَّ حركة الرَّقص التَّقليدية القديمة للمرأة كانت تعتمد على الكتف بشكل كبير , فالكتف أكثر الأعضاء حركة , ثم وصف هذا الكتف بأنَّه مهدَّل , وهَدَل الشيء هدلًا : أرسله إلى أسفل وأرخاه , ونقول هدل السِّحاب إذا تدلى ودنا من الأرض , والجسم ( انتبر) أي : ( ارتفع ) , فالكتف يرتخي إلى أسفل ثم يرتفع الجسم إلى أعلى , وهذه كناية على أنَّه جسم لدن أملس لا ترهل فيه , ثم يأتي الشَّاعر في الأبيات التالية بعدد من الكنايات يصف بها المحبوب , فـ( الصاد) كناية عن العين ؛ لأنَّها تشبه حرف الصاد في رسمه , و ( المزمزم ) كناية عن الفم الصَّغير, ولعلها مأخوذة من زمزم الشيء إذا لَمَّ أطرافه , و( الغيم ) كناية عن الأسنان و( التِّبر) هو نبات ذو ثمرة ناصعة البياض يشير بها إلى بياض الأسنان , وكل هذه الكنايات لم تستخدم من قبل بهذه المعاني وربما يكون مبدعنا ود الرَّضي هو الذي أتى بها . ثم يستمر الشَّاعر في الوصف الحسي لفتاته , فيقول :
” والضَّهَــــرْ المَــتَــــنَّى والتَّيـــــــهْ يَا الأبَـــرْ
دَا الخَــــلاَّنِي سَاهِــرْ مَـــــاءَ عِيــنَيْ تَبَـــرْ “
و( الضهر المتنَّى ) كناية عن العز والنَّعيم الذي نشأت فيه محبوبته , ولعل هذا الذي جعل الشَّاعر ساهرًا محرومًا من النَّوم وعيونه قد امتلأت بالدموع وفاضت . وتتوالي بعد ذلك الصُّور الجميلة في القصيدة , وهي تكشف عن براعة غير مسبوقة في توظيف اللغة وتطويعها. يقول ود الرضي:
لاَحِــمْ كَتْفُه كَفَــــلُه مَـــاجْ جِيــدُه الوَفَرْ
عَمْعَمْ دِيسُه دِرْعُه فِى بَعْضُه إنْضَفَرْ
حَاكِى الغَيــــمْ تَنَقَّلْ يَـــا غَـــالِي النَّفَــــرْ
قُولْ للوِزَّة غُــورِى فِى عَينِــــكْ ضَغَـــرْ
فالمعنى العام لتلك الأبيات أنَّ تلك الفتاة تثنت في رقصها حتَّى لاحم الكتف الكفل , ومال جيدها وعنقها , وعمَّ وانتشر شعرها والتفَّ حول جسمها وانضفر .
وعلى المستوى اللغوي استخدم الشَّاعر الأسلوب الإنشائي الطلبي وقرن فيه بين الأمر المشفوع بالرجاء , والنداء الموسوم بالتدليل , فيطلب منها أن تتنقل وتحاكي الغيم في مشيتها التي لا ريث فيها ولا عجل , ويظهر هنا تأثره بالشعر العربي القديم ؛ فقد استخدم الشعراء العرب تشبيه مشية المحبوبة في بطئها بالغيم , فهذا قول الشاعر المراد بن منقذ العدوي :
قُطُفَ المَشيِ قَرِيبَاتِ الخُطَى بُدَّناً مِثلَ الغَمَامِ المُزمَخِرّْ
القطوف : البطيء أو البطيئة في السَّير , أي تمشي على مهلها دلاًلاً وتغنجًا خطواتها قريبة من الأخرى .
ومحبوبة شاعرنا لا مثيل لها في الرَّقص حتَّى (الوزة) التي عُرفت ببراعتها في الرقص سَرَتْ فيها حُمَّى الغيرة , فهي لا تضارع فتاته في الرَّقص , ثم يستخدم الشَّاعر لفظة ( غوري ) للوزة بمعنى انصرفي وهي لفظة تحمل دلالة الانصراف النهائي الذي لا عودة فيه .
والنَّص بشكل عام يعدُّ من النَّمط الوصفي ؛ فقد تنوعت أساليبه ما بين الخبر والإنشاء , وكثر فيه توظيف المشتقات , واستعمال النعوت , واستخدام الصور البيانية , والجمل الاسمية . هذا فضلًا عن اللَّغة التي تميز بها النَّص , واهتم بها ود الرَّضي بشكل خاص , وقد أولاها عنايته واهتمامه , فألفاظ الشاعر تكتنز دلالات فنية ومعنوية عالية , وتمتاز بالدِّقة والايحاء في مقاطع عديدة في شعره أشرنا لها سابقًا , ويظهر أثر البادية في كثير من صوره وأساليبه ولغته .
وفي الختام أرجو أن يكون البحث قد استوفى عناصره المقترحة , وأحاط بها خُبرا , وما هي إلا محاولة لتذوق الجمال في نصٍ جميلٍ .
أي قارئ يبحث عن مواطن الجمال في شعر الحقيبة، فليقرأ للأستاذ عماد قرشي؛ فهو يمتلك من الأدوات التي تؤهله لذلك ؛ فهو ابن الشاعر الكبير المرحوم قرشي محمد حسن، وهو متخصص في الأدب العربي، وهو ملم باللغة العربية وآدابها ، وهو عاشق للحقيبة عارف ببواطنها غارق في تفاصيلها.
رحم الله ودالرضي، فقد أضأت -أخي عماد- جوانب مهمة في سيرته الشعرية ، تقديري لك أيها الباذخ.
شكراً لهذه السياحة الباذخة
شكرا أسامة الكاشف على مرورك البهي
شكرا أ.طارق الأديب الأريب على هذا الثناء العطر و أرجو أن أكون حمله