الروائي أمير تاج السرّ أكتب دائماً ما يمكن أن يقرأه أيُّ شخص حتى لو كان أجنبياً
التنقيب في التاريخ والبحث عن شخصيات مثلت بعض ذاكرة السودان

في الغربة يصبح الخيال أكثر عنفاً برغم بعده عن الواقع
أمير تاج السر طبيب وروائي سوداني يمت بصلة قرابة وثيقة للأديب الطيب صالح، نالت أعماله اهتماماً كبيراً في الأوساط الأدبية والنقدية
ولد أمير تاج السر في قرية كرمكول، ومن هنا بدأ رحلة الكتابة وخصوصاً بعد أن انتقل منتصف الثمانينيات لدراسة الطب في القاهرة، هناك بدأ مخالطة الأوساط الأدبية، ونشر أول نصوصه الشعرية في الصحف المصرية، أصدر العديد من الروايات حيث صدر له كرمكول.. والسماء بلون الياقوت.. نار الزغاريد.. ثمّ مرايا ساحلية.. كما كتب سيرة الوجع.. وصيد الحضرمية.. وعيون المهاجر.
أما البداية الحقيقية فكانت مع رواية مهر الصياح. وتلتها رواية زحف النمل. وصائد اليرقات. وصولاً إلى أرض السودان الحلو والمر، يكتب بسهولة وانسيابية في مجال الرواية التاريخية، حيث تحركه في ذلك عوامل وحوافز المتعة، وفي جل أعماله تتزاحم الأحاديث السودانية، والتي نقلها بخيالات خلابة، فهو صانع شخصيات لها مذاقها الخاص .
كان لنا معه هذا الحوار حول مسيرته السردية ..
اليوم التالي: محمد إسماعيل
* كيف تشكل وعيك بالكتابة؟
– أنا عشقت الكتابة منذ الصغر، ومعروف أنني بدأت بالشعر، وكنت أكتب الأغنيات في فترة مبكرة، ثُمّ انتقلت لكتابة الرواية في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وبالنسبة لكتابة الرواية أستطيع أن أستوحيها من كل شيء، حتى لو كان عادياً، وربما لا يلفت، ومنذ البداية انهمكت في القراءة أولاً؛ قرأت آلاف الكتب في شتى مناحي الحياة، قرأت في الشعر والقصة والدين والتاريخ والجغرافيا، وتكونت لدي حصيلة ضخمة من المعارف، كنت أستمد منها الكثير، إضافة إلى مهنتي مهنة الطب التي صادفت فيها شخوصاً دخلوا نصوصي فيما بعد، أيضاً تجربة الاغتراب التي توقد الحنين، وتجسد الوطن قائماً بتفاصيله في كل لحظة، كل ذلك ساعدني، ولا يزال يساعدني على الكتابة، كما أهتم كثيراً بالتفاصيل وتلاحظ ذلك حين تقرأ لي نصاً.
* بعض النقاد يرون أن رواياتك تقترب من السيرة الذاتية، فأين تبدأ الرواية كفن.. وأين تبتعد عن السيرة؟
– رواياتي ليست روايات سيرة، أنا أكتب بخيالي، أكتب عن الأسطورة والفنتازيا، ولا أتدخل بسيرتي في العمل الكتابي، ربما وردت شخصيات عرفتها، ولكن في سياق بعيد تماماً، عن الواقع، ربما وردت أحداث عاصرتها، ولكن أيضاً بعيدة عن الظروف التي حدثت فيها. ومن ناحية أخرى ما كان سيرة بالفعل كتبتُ عليه سيرة، ولديّ ثلاثة أعمال سيرية هي (سيرة الوجع)، و(مرايا ساحلية) و(قلم زينب)
* قلت إن روايتك (صائد اليرقات) ليست من أهم أعمالك الروائية، برغم أنك وصلت بها إلى جائزة البوكر العالمية، وأن روايتك (توترات القبطي) الأسوأ حظًا؟
– توترات القبطي من الأعمال المهمة لدي شخصياً، لقد كتبتها بعد بحوث ودراسات استغرقت زمناً، وبذلت فيها مجهوداً كبيراً، وكانت كتابتها صعبة ومعقدة، واستهلكت وقتاً طويلاً في الكتابة وإعادة الكتابة، وهكذا، فكرتها قائمة على مبدأ التسامح، وأيضاً على الحبّ، وكتب عنها نقاد مهمون في الوطن العربي، وبرغم ذلك لم تنتشر مثل بقية الكتب، وقدمتها لجوائز لم تحصل عليها، وجرت محاولات ترجمتها للإنجليزية، وتوقفتْ، وقام مترجم تونسي بترجمتها للفرنسية، وتوقفت في منتصفها، كما أن الناشر الفرنسي الذي وقع معي عقد نشرها انقطع عن اتصالاته، هكذا أعتبرها رواية سيئة الحظ، بالنسبة لـ(صائد اليرقات) ليست أهم أعمالي بالتأكيد، وكتبت قبلها وبعدها ما هو أهم منها (مهر الصياح) و(توترات القبطي) و(رعشات الجنوب)، و(أرض السودان).. كلها كانت كتابتها شاقة بعكس (صائد اليرقات) التي كتبتها بسرعة في أقل من شهر، لكنها أصبحت الآن أكثر أعمالي شهرة وتوزيعاً، وأعيدت طباعتها عدة مرات، وترجمت إلى عدة لغات مثل الإنجليزية والإيطالية، وهذا من حسن حظ الرواية بالتأكيد، وأيضاً يوضح تذوق القارئ ما أعتبره سهلاً، ربما يعتبره القارئ عملاً خارقاً، وفي رأيي الشخصي إن رواية (بندر شاه) للطيب صالح أكثر جمالاً من (موسم الهجرة إلى الشمال)، لكن موسم الهجرة انتشرت، على الكاتب أن يكتب فقط ولا يهتم بانتشار أعماله أو عدم انتشارها، كل رواية في النهاية تجد قارئها
* في نصوصك هناك نزوع نحو التاريخ؟
– هذا حقيقي وقد ذكرتُ ذلك، هذه طبيعة كتاباتي التي لم أحِد عنها منذ بدأت أكتب الشخصيات الرئيسية أو المساندة، كلها تؤدي دورها وتلمع في نصي، والتاريخ أحب كتابته ولكن بطريقتي وهي عدم كتابته وثائقياً، ولكن متخيلاً، بمعنى أنني أتخيل التاريخ حقبة ما وأصنع أحداثي الخاصة.
* هل المحلية يمكن أن تخلق حاجزاً بين العمل والمتلقي؟
– أبدًا، المحلية بالعكس تشدّ فضول القارئ الآخر لمعرفة ما لا يعرفه، لكن الإيغال فيها باستخدام لهجات عصبية ومصطلحات تحتاج لتفسير، هو ما يمنع انتشار الأعمال، ولمدى بعيد في كتابتي أنجز دائماً ما يمكن أن يقرأه أيُّ شخص حتى لو كان أجنبياً.
* أنت كطبيب إلى أيّ حدٍّ ساعدتك مهنة الطب على الكتابة السردية؟
– بكل تغيير الوجوه المستمر، الاحتكاك المستمر بالناس، الاستماع إلى الحكايات الكثيرة، مصادقة شخصية غريبة لا يمكن مصادقتها دائماً، التنقل في المدن والريف، كل ذلك زاد من حصيلة معرفتي وساعدني كثيراً في الكتابة.
فحين كنتُ أعمل في السودان، عملت في منطقة طوكر في أقصى الشرق، وامتد عملي حتى الحدود الإريترية، هناك وجدت عوالم وأساطير، واستفدت منها في روايات مثل: اشتهاء، وكتب سيرية مثل: سيرة الوجع، أيضاً كتبت كثيراً عن بورتسودان التي عملت فيها سنوات، وروايات مثل صائد اليرقات والعطر الفرنسي، وقلم زينب مستوحاة من شخصيات التقيتها في عملي الطبي، مهنة الطبّ، كما هو معروف تتيح الاحتكاك بالناس والاستماع إلى حكاياتهم، وهذا ما يحتاجه الكاتب من أجل صياغة عوالمه. أنا في العادة آخذ رؤوس الحكايات وأعمل عليها من خيالي في صناعة عالم موازٍ، لكن لا بُدَّ من الانطلاق من الواقع.
* حين بدأت تكتب رواية (العطر الفرنسي)، هل خططت أن تجعلها تبدو في نسيج علاقة الشرق بالغرب؟
– أبدًا، لا أخطط لشيء في الكتابة عادة، أجعل الفكرة تأتي، ثُمّ أشرع في الكتابة وأترك النصّ يقودني بطريقته، وربما أقوم بالتعديل في الكتابة الثانية، وقد جاءت (العطر الفرنسي) هكذا واعتبرت إحدى الروايات التي تتعرض لعلاقاتنا بالآخر، واستقبلت بالترحاب حين نشرت بالفرنسية.
* كيف تختار أبطال رواياتك، وكيف تكتمل ملامحهم في ذاكرتك، ومن ثُمّ تكتبهم؟
– أنا لا أبحث عن فكرة أو شخوص لأكتبهم، في العادة أنتظر حتى تخطر على بالي فكرة ما، وهذه الفكرة يمكن أن تخطر من رؤيتي لشخص معين أو حادث في الطريق، زيّ عنوان في صحيفة، ثُمّ إن أرادتني الفكرة أن أكتبها، تظلّ تدور في رأسي لفترة، ويأتي دور البداية، فلا يمكن أن أكتب نصّاً ما لم أقتنع بالبداية، أما الشخوص فمعظمهم أستلفهم من الواقع المحيط وأغير قليلاً أو كثيراً في ملامحهم وسلوكهم وأدخلهم للنصوص، ربما آخذ شخصية معاصرة وأدخلها نصّاً تاريخياً، كما حدث في روايات مثل مهر الصباح ورعشات الجنوب، وهكذا، قد تبدأ الشخصية غامضة وتتضح ملامحها مع التقدم في الكتابة، وقد تظهر مكتملة من البداية.
* الرزينة نظر في (مهر الصياح)، وحورية أزرق في (اشتهاء)، وكاتيا الفرنسية في (العطر الفرنسي)، إضافة إلى بائعة الشاي رضيانة الخضر، في (رعشات الجنوب).. هل هذه الشخصيات بعضها من الواقع، وبعضها من الخيال؟
– نعم بعضها من الواقع مثل كاتيا كادويلي الفرنسية التي عملت معي في مجال الإغاثة في شرق السودان، وشكلت عنصر جذب كبير للكتابة، لقد ظلّت هذه الشخصية باقية في ذاكرتي زمناً طويلاً، قبل أن تظهر في العطر الفرنسي عام 2009، لقد كانت شخصية غنية وكاملة المواصفات لتُكْتَب في رواية. حورية مصلح الحضرمية، مستوحاة من شخصية حقيقية فيها الكثير من ملامحها داخل النصّ، لقد كتبتها أولاً في (صيد الحضرمية)، ثُمّ أعدت كتابة صيد الحضرمية وصدرت تحت عنوان (اشتهاء) عن دار الساقي، هي أيضاً كانت شخصية غنية، ومصدر إيحاء قوي للكتابة، الرزينة نظر، ورضيانة الخضر، شخصيتان مخترعتان، لكن بالقطع لهما صفات مشتركة مع شخصيات ربما التقيتها في حياتي، حين أكتب لا أعرف مصادري جيداً، هي مصادر راكدة في الذاكرة، وتنفتح حين أستدعيها.
تمت ترجمة رواياتك إلى لغات عالمية، كيف ترى اختيارات المترجمين وأمزجتهم؟
– الترجمة عندنا في الوطن العربي لا تزال عملاً بدائياً، فليس هناك مؤسسات ترعى ترجمة الأدب العربي للغات الأخرى، بقدر ترجمة الآداب الأخرى من لغاتها إلى العربية، وقد تجد أعمالاً كثيرة لكتاب غربيين، صدرت في عدة ترجمات، لذلك معظم ما يترجم من العربية للغات الأخرى مجهود فردي من مترجمين قرأوا نصاً معيناً وأرادوا نقله، أو علاقات ما، وحقيقة لا أعرف أذواق المترجمين جيداً، وأعتقد أن كل شيء يمكن ترجمته، هناك من يحتفون بالأعمال التي خرقت أعرافاً معينة حتى لو كانت مكتوبة بطريقة سيئة، ومن يحتفون بالكتابة الراقية في شتى المواضيع، وهكذا لا يمكن تحديد ما يريده الغرب بالذات، شيء آخر وهو أن المسألة ليست بيد المترجم ولكن بيد دور النشر الغربية، فالمترجم قد ينبهر بنصّ ويسعى لترجمته، لكنه في النهاية لا يستطيع أن يقنع به ناشراً، المسألة في غاية التعقيد وكتبت عن ذلك مراراً، وهي أننا بحاجة لتنظيم كبير من أجل أن نفرض آدابنا على الآخر، بدلاً من استهلاك آدابه التي لم تعد جديدة على تذوقنا، وأقول صراحة: إن الأدب العربي لا يقل أهمية عن أي أدب آخر موجود في العالم، فقط مشكلته أنه مكتوب باللغة العربية.
* الرواية في السنوات الأخيرة شهدت طفرة كبيرة، هل نحن في عصر الرواية؟
– طبعاً في عصر الرواية، ما من شكّ في ذلك قديماً كان المبدعون يبدأون بكتابة القصة أو الشعر، الآن تغير الوضع وأصبحت الرواية هي بداية الكتابة، وحتى الشعراء الراسخين في الشعر، والنقاد والرسامين، أصبحوا يكتبون الرواية. هذا مشجع ومحبط في آنٍ، ففي مثل هذه الفوضى قد لا تلتفت إلى أصوات موهوبة كثيرة، تضيع فيها وقد نوهت كثيراً لذلك، وذكرت أنني لا أعرف كيف أنتقي ما أقرأه من روايات، أيضاً مع هذه الكثرة، لم يعد النقد يستطيع أن يلاحق كل ما يكتب ويضيئه كما كان يحدث في الماضي ولولا بعض الإضاءات القليلة التي نصادفها هنا وهناك، ما انتبهنا لصوت جيد، يطل علينا.
* قلت إن الكتابة بالنسبة لك تعذيب، فأكثر الأيام كآبة عندك هي الأيام التي تكتب فيها، هل تتجدد في كل كتاب تكتبه؟
– نعم، تعذيب بلا حدود، هنا تقلّ ساعات النوم، وتتلاعب الأفكار في الذهن، ويصبح العمل مرهقاً أكثر منه ممتعًا، لذلك أتمنى دائماً ألا تأتي فكرة، لأنها إن أتت وتبلورت في الذهن أصبحت ملزماً بكتابتها، وأنا من الذين يكتبون النصّ يومياً حتى ينتهي، ولا أعرف الكتابة المتقطعة، وإن حدث وانقطعت عن كتابة نصّ لأي سبب، يضيع مني ويصبح من الكتابات التي أسميها مهملة، وغالباً لا أعود إليه مرة أخرى.
– تأثير الغربة في كل كتاباتك الروائية؟
الغربة وقود الحنين كما قال ماركيز، في الغربة يصبح الخيال أكثر عنفاً برغم بعده عن الواقع، ولذلك تجدني أستعيد حياتي السابقة في السودان وذكرياتي وأستعيد الشخوص الذين صادفتهم، وفي كل عام آتِي السودان، أتزود بخاماتي وأمضي لأكتب بعضها تحت عصف الحنين.
* بعض من أعمالك تتحدث عن الموروث الشعبى وأخرى تعود فيها الأسطورة والتاريخ، كيف تعمل على هذه الثيمات؟
– كل شيء يمكن كتابته عندي، ما دام يأتي أو يمكن استعادته، وحقيقة كل رواية عندي لها فكرتها وشخصياتها وفكرها وما تعالجه من قضايا، تأتي أحياناً تاريخية وأحياناً معاصرة، وأحياناً في شكل سيرة، وما يهمني ساعة الكتابة هو الغوص في العمل الذي تحت يدي، ليأتي كيفما أشاء، وهكذا كتبت كل تلك الثيمات.
* كيف تعامل النقد مع رواياتك؟
– النقد العربي كان منصفاً كثيراً، وقد كتبت عن أعمالي مقالات بلا حصر، سواء بالعربية أو باللغات التي ترجمت إليها، وكان معظمها مسانداً للتجربة، الآن في اعتقادي أصبح النقد جزءاً من العملية التي ترسخ التجربة، وليس البطل الأساسي لها، فمع ظهور الإنترنت وانتشاره حتى في القرى، أصبح القراء يكتبون ويراجعون الكتب، وبعضهم يكتب بطريقة واضحة، تشد للقراء..
اليوم التالي