أخبار السودان

مليونية 30 يونيو .. جرد حساب

 

 

 

تقرير – القسم السياسي

حققت مليونيات 30 يونيو تغييراً نوعياً في موازين القوة لصالح الحركة الجماهيرية وغاياتها في انتزاع السلطة المدنية الكاملة وهزيمة الانقلاب، وأثبتت أن الثورة حية لا تموت، وأنها تشهد ميلاداً جديداً كل يوم. وقد سدد خروج الملايين في أرياف السودان ومدنه ضربة موجعة للمتلاعبين بإثارة الانقسامات، فالشارع الذي خرج يحمل كل سحنات السودان وألوانه وقبائله واحداً موحداً حول قضاياه الوطنية العابرة للقبلية والإثنية والجهوية.

غير مسبوقة

اعتصام الجودة

الناشط في الحركة الاحتجاجية، مهادن الزعيم، يقول إن مليونية 30 يونيو تضمنت أرقاماً قياسية لم تتكرر من قبل، أبرزها أنه أول موكب بعد الانقلاب حاز على أضخم دعاية وإعلان (بالقصاصات وشعارات الحائط ومواكب إعلانية فاقت الـ 100 موكب إعلاني ومخاطبات في الأسواق)، ليخرج في 30 يونيو حوالي (40) موكباً في مدن وقرى ولايات السودان بانضباط زمني محكم، وشهد أكبر عدد من الإصابات في يوم واحد وصلت لأكثر من (600) إصابة، ونحو (500) معتقل.

الزعيم يواصل في رصد الأرقام ويلفت إلى أن 30 يونيو تمثل أول موكب ينتهي من أسطورة الحاويات، حيث استطاع موكبان تجاوز الحاويات جزئياً (أمدرمان وبحري)، ونجح موكب شرق النيل في إزاحة الحاويات تماماً.

وليس بعيداً عما سبق يمضي الصحفي والمحلل، ماهر أبوالجوخ، ويقول في حديثه لـ(الديمقراطي): “بكل تأكيد تختلف 30 يونيو عن كل التحركات الشعبية السابقة المقاومة للانقلاب، فعلى مستوى الكم نلاحظ مشاركة أكثر من ثلاثين مدينة ومنطقة في السودان. وهذا بمثابة رد لمن كانوا يعتقدون أن المقاومة مرتبطة بالعاصمة أو الشوارع الثلاثة، وأيضاً فإن أعداد الحشود المشاركة في فعاليات الثلاثين من يونيو ضخمة وكبيرة للغاية”.

يمضي أبوالجوخ ويشير إلى أن الاختلاف النوعي في 30 يونيو أن فعاليتها لم تنته بمغيب شمس ذلك اليوم، بل استمرت بأشكال مختلفة، كالاعتصامات التي بدأت تنتظم عدة أماكن ومواقع. وهو تكتيك تستخدمه الحركة الجماهيرية، تؤكد به مقدرتها على الإبداع، وعدم استدراجها إلى مربع التخلي عن السلمية، كذلك عدم استدراجها إلى مستنقع العنف كرد فعل للعنف الممارس ضد الثوار من قبل الانقلابيين.

30 يونيو الثورة مستمرة

يضيف: “من التحولات النوعية في مواكب 30 يونيو، فك شفرة الإغلاق بالحاويات لعزل المدن الثلاث عن بعضها البعض، هذا الأمر نجح في أمدرمان ولكن تكلفته في بحري وأيضاً في أمدرمان عالية للغاية، فمعظم شهداء هذا اليوم سقطوا في هاتين المنطقتين”.

المحلل السياسي د. بكري الجاك يقول في حديثه لـ (الديمقراطي): “بالرغم من تشابه الظروف السياسية والحديث عن تراجع الحراك وعمليات التفاوض والصراع الإثني والهجوم الخارجي وقطع الانترنت، إلا أن موكب 30 يونيو أكبر من نظيره في العام 2019، بل يمكن أن نقول إنه الأكبر في تاريخ الحركة الاحتجاجية في السودان”.

موازين القوة

تحالف قوى التغيير قال إنّ مليونية 30 يونيو “تشكّل تحولاً نوعياً في توازن القوة لمصلحة قوى الثورة، وتعتبر هزيمة موجعة للسلطة الانقلابية التي لم تستطع الخروج من عزلتها منذ فجر انقلابها المشؤوم”، معتبرة أنّ “المليونية تفرض بناء الجبهة الموحدة لهزيمة الانقلاب، بمواصلة التصعيد الثوري السلمي بكافة الوسائل السلمية المستحدثة والمجربة، بالتنسيق مع كل قوى الثورة، ودعم كافة أشكال المقاومة المطروحة من اعتصامات ومواكب وغيرها من الوسائل السلمية”.

يرى أبوالجوخ أن 30 يونيو بحجم المشاركة وتنوع المناطق وأعداد المشاركين عمقت العزلة الشعبية والسياسية للانقلاب، وكشفت حجمه الحقيقي، يشمل ذلك حتى المجموعات السياسية المتحالفة معه، مع ملاحظة أن مناطق إنهاء الحرب في دارفور والمنطقتين والشرق والوسط والشمال كانوا مشاركين بفعالية، وهذا عمق قواعد تلك المجموعات، ووضح تماماً أن مجموعات الحركات المتحالفة مع الانقلاب بلا ثقل شعبي حقيقي، وأن بعضها كان يستمد وجوده من خطاب جهوي مناطقي ثوري تهاوى بمجرد شراكتهم مع الانقلاب، باعتبار أن تلك الحركات كانت تقدم نفسها كمناضلة من أجل السلام والحريات والديمقراطية، والآن هي حليفة الديكتاتورية والشمولية. وقال إن هذا توصيفاً لحال المجموعات التي كانت لديها جماهير، أما الجزء غير الجماهيري منها فعبارة عن واجهات لتبرير مشاركتهم في السلطة وهي بلا قواعد أو تأثير. مضيفا: “30 يونيو كشفت حقيقة وضع هذه المجموعات، وحتى النظام المدحور وحزبه المحلول وجميعهم بلا سند شعبي أو جماهيري”.

ثورة حتى النصر

ويمضي أبوالجوخ في تحليله ويقول: “هذا الأثر ستكون لديه ردة فعل على معسكر الانقلاب بكل تأكيد، فالغرض من الوجود هو إضفاء مشروعية سياسية لاستخدامها عند الحاجة، وبالتالي يتوقع أن يضعف دور تلك المجموعات ويبدأ المكون العسكري في الهيمنة على كل المشهد وإدارته وفقاً لتقديراته في كافة المناحي، صحيح لن يتجاوز تلك المجموعة بشكل كامل ولكن أثرها السياسي سيضعف جداً”.

بالنسبة للمجموعة المقاومة للانقلاب، فإن 30 يونيو هي قوة دفع كبيرة على الصعيد الجماهيري والسياسي، ومطالبها لإنهاء وهزيمة الانقلاب باتت مسنودة بقاعدة جماهيرية كبيرة، والأهم بالنسبة لها أن افتراض تراجع وانحسار الحركة الجماهيرية المقاومة للانقلاب بات حديثاً بلا معنى ولا يسنده أي واقع، وهو فعلياً يشهد صعوداً وهبوطاً لكنه مستمر لا ينتهي.

النقطة المهمة بحسابات العديد من المحللين أن نجاح 30 يونيو أفضى إلى نتيجة غير متوقعة، وهي زيادة حدة الصراع بين الأطراف المقاومة للانقلاب، خاصة أن بعضها اعتبر أن التوقيت قد حان لإسقاط الانقلاب وقطف الثمرة وأكلها منفرداً، وهذا ما نلاحظه في مواقف الحزب الشيوعي. وبالتالي يجب تسريع وحدة القوى المقاومة للانقلاب والاتفاق على إطار عام للانتقال.

المحلل السياسي د. بكري الجاك يرى أن مليونية 30 يونيو لعبت دوراً كبيراً في تجديد جذوة المقاومة، وأرسلت رسائل في عدة جهات، أبرزها لقوى الحرية والتغيير بألا تتعجل في العملية السياسية والتفاوض مع العسكر، وألا تقبل بأنصاف الحلول لإنجاح التحول الديمقراطي، يضيف: “لك أن تتخيل حجم المكاسب والسقف التفاوضي إن بدأ التفاوض بعد 30 يونيو”.

الجاك يرى أن 30 يونيو تمثل نقلة نوعية في المشهد غيرت موازين القوة بالنسبة للفاعلين خاصة في المعسكر الانقلابي، كما بينت عدم جديتهم في التوصل لتسوية عبر العملية السياسية بعد مواصلتهم في القتل والقمع، أو عدم قدرتهم على السيطرة على التناقضات في ظل مجموعة تتضرر من أي تسوية –إسلاميي كرتي-.

كما  يشير إلى أن المليونية صعبت التوصل لتسوية سهلة بالنسبة لقادة الانقلاب، ومن زاوية أخرى يؤكد العديد من التحليلات حول أن البرهان وبقية أعضاء مجلس السيادة الذين يفاوضون قوى الحرية التغيير ليس بيدهم سلطة مطلقة.

وفي هذه الوضعية لايبدو أمام الإسلاميين سوى المواصلة في الانقلاب الصامت، والدفع بالبرهان وبقية الكومبارس العسكري لهندسة اتفاق سياسي يخرجهم من المأزق السياسي ويعيدهم إلى الحياة السياسية دون أي تكلفة. ويشاع أن هذا الاتفاق يهندس الآن وسيعلن بعد عيد الأضحى، أو إعلان الانقلاب والاستيلاء على السلطة كاملة وإبعاد الكومبارس العسكري، وفي كلا الحالين هم أمام معضلة حقيقية تتمثل في: أن على أي تسوية سياسية أو انقلاب صامت أو معلن أن يجد صيغة للتعامل مع الجنرال دقلو ومليشياته التي هي عملياً تحكم الآن أكثر من نصف البلاد، ماذا سيفعلون إزاء التحولات الكبيرة في الجيوبلتيكس التي لن تسمح بعودة تيار إسلامي صريح؟!

يزيد الجاك: “ماذا سيفعلون بالسلطة وهم في حالة إفلاس سياسي وفكري، إذ لا مشروع لهم ولا رؤية ولا بصيرة ولا حتى دافع سوى التمسك بالسلطة في ذاتها، وقد نضب معين المال فيها”.

من السيناريوهات المطروحة في تحليل الجاك، إعلان الإسلاميين الانقلاب وإطلاق حملة إعلامية كبيرة عن استعادة هيبة الدولة، وأن القوات المسلحة لن تسمح بوجود مليشيات. ومثل هذا الخطاب قد يجد قبولاً ورواجاً إلى حد ما، خصوصاً إذا تماهى مع بعض شعارات التغيير، وربما يفتعلون مواجهة أو تحدياً للمليشيات بهدف نقل الصراع إلى مربع سياسي جديد وفتح فرص للحلول الدولية لوقف احتمالات الحرب، والهدف هنا هو إغراق المشهد السياسي بأحداث جديدة سريعة ومصطنعة.

في المقابل، وفي معسكر قوى الثورة، ارتفعت نظرياً أسهم القوى الراديكالية بعد مليونية 30 يونيو، إلا أن قصور تصوراتها وعدم طرح أدواتها يجعلها عملياً غير قادرة على تحقيق مكاسب، مما يستدعي ضرورة خلق مركز موحد للمقاومة يضم التيارات المختلفة في إطار رؤية واحدة لإسقاط الانقلاب وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، عبر تكتيكات مختلفة تتكامل ولا تتنافر.

وماذا بعد؟!

تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير قال بعد المليونية إنّه سيتواصل مع لجان المقاومة والقوى السياسية والمهنية، لتجديد مقترح بناء “الجبهة المدنية الموحدة” بهدف إسقاط الانقلاب العسكري. ودعا التحالف، في بيان له، إلى “تكوين مركز تنسيقي ميداني وإعلامي موحّد يتولى مهمة التحضير لمواصلة تصعيد العمل الجماهيري، والإعداد للعصيان المدني الشامل عقب عيد الأضحى المبارك”.

وشدد التحالف على أنّ “انتصار الشعب الباهر في 30 يونيو، يجب ألا يحجب عنا نواقص الحراك الثوري المستمر منذ فجر انقلاب 25 أكتوبر، إذ ولد الانقلاب ضعيفاً منذ ساعته الأولى، ولم يكن بإمكانه الاستمرار لولا تأخر القوى الثورية التي قاومته في تشكيل جبهة مدنية ديمقراطية موحدة، تشكّل مركزاً للتنسيق والقيادة السياسية والميدانية، وفق البيان.

القيادي في قوى الحرية والتغيير، خالد عمر، يقول: “أثبتت 30 يونيو بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الانقلاب معزول ومهزوم، وأن الخلاص منه معقود بنواصي إكمال واجبنا بتوحيد صفنا في جبهة مدنية موحدة تخوض معركة تحرير بلادنا من الظلم والاستبداد”. يضيف عمر: “سنعمل بجد لإكمال مهمة بناء هذه الجبهة الموحدة رفقة كل قوى الثورة، ولن يثنينا عن بلوغها شيء، فهذا هو ما يستحقه شعبنا الصابر المثابر ولن نخذله أو تتقاصر هاماتنا عن بلوغ غاياته”.

القيادي في تجمع القوى المدنية، مدني عباس مدني، يقول إن وحدة قوى مقاومة الانقلاب المطلوبة وحدة ليست شكلية أو إجرائية، وإنما وحدة هدف ومضمون، ما تضمنته المواثيق التي خرجت يصلح كأساس للاتفاق العام، الوحدة شرط لفعالية أكبر للمقاومة، وهي من ضمن شروط أخرى تسقط الانقلاب”. ويضيف مدني: “هنالك هواجس وشكوك لدى الشارع ولجان المقاومة تجاه النخبة العاملة في المجال العام سياسية ومهنية ومدنية، من المهم توفر الضمانات الكافية لإنجاح هذا الإطار الوحدوي التنسيقي، وطمأنة الجميع من عدم تكرار أخطاء الماضي”.

مدني يشير أيضاً إلى أن مسألة هيكلة وإصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية والشرطة باتت مترسخة، بعد أن تحولت هذه الأجهزة لحماية قادة مغامرين وأصحاب طموحات اقتصادية وسياسية، يرتبطون بمحاور إقليمية ودولية. يجب هيكلة هذه الأجهزة وإصلاحها من أجل جيش مهني موحد محترف بعيد عن السياسة والاقتصاد ويخضع لقيادة مدنية ديمقراطية، وإصلاح الأجهزة الأمنية والشرطة، بحيث تتحول خادمة للمواطن والوطن لا سيدة عليهم، مضيفاً: “نريد أجهزة تلتزم بحقوق الإنسان وتحمي المواطن بدلاً من أن تتحول كما هي الآن مهدداً رئيسياً لأمانه وسلامته.

يعود أبوالجوخ ويلفت إلى أن الانقلاب لا يزال يحكم حتى اللحظة، لكنه بكل المعايير انتهى وتحديداً المجموعة العسكرية التي تقوده تواجه رفضاً غير مسبوق في تاريخ أي نظام حكم البلاد. وبالتالي مسألة خروجهم من المشهد ترتبط بتفاعلات داخلية وسط المكون العسكري وأخرى خارجية ستضغط لتحقيق هذا الأمر، وحتى إذا قدر لهم الاستمرار فإن الطريق لمغادرتهم للمشهد باتت مرصوفة.

بالنسبة للقوى المقاومة للانقلاب فهي تقترب من هزيمة وإنهاء الانقلاب، ومن الأرجح أن يتم هذا الأمر عبر عملية سياسية ترتب المشهد وتوزع الأدوار، لكن معضلتها الحقيقية مرتبطة باستعدادها للخطوات القادمة. من الواضح أن حالة التشرذم ستستمر حتى الانتخابات بعد إنهاء وهزيمة الانقلاب، لكن غياب التصورات وفقدان الرؤى هو مشكلة إضافية سيترتب عليه منح المؤسسة العسكرية وضعية لا تماثل وضعية الشراكة الدستورية السابقة، لكنها منزلة بين المنزلتين لضمان انسياب واستكمال الانتقال حتى بلوغه غياته وتنظيم الانتخابات العامة.

النقطة المفصلية مفادها أن هزيمة وإنهاء هذا الانقلاب ستكون له آثار سياسية في الجوار الأفريقي، وسيكون نقطة مهمة لتعزيز الانتقال الديمقراطي في القارة ككل وشعوبها، وسيعلي من العمل السلمي غير المسلح لتحقيق التطلعات والأحلام وتمكين الشعوب من حكم نفسها بنفسها، وهذا تحول كبير لصالح الشعوب ودول القارة الأفريقية سيعيد الدور المتقدم للسودان في القارة الأفريقية.

بالنسبة للمنطقة العربية، فإن طبيعتها كأنظمة وشعوب المختلفة عن السودان، ستجعل هذا الأثر أقل محدودية لاختلاف التجربة السودانية عن التجارب العربية، فالسودان عرف بالثورات الشعبية قبل ما يقارب النصف قرن من الزمان في 1964م و1985م، قبل أن تهب نسائم الشتاء والربيع العربي. كما أن التجربة السودانية عصمت نفسها حتى اللحظة من الانزلاق في الحرب الأهلية رغم العنف المفرط، أو استسلمت لمحاولات تقويض الانتقال الديمقراطي، وبالتالي فالتجرية السودانية تختلف عن التجارب العربية في جوانب شتى، لذلك يتوقع أن يكون تأثير التجربة السودانية أقل في المحيط العربي والشرق الأوسط.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..