مقالات وآراء

محنة اقتصادنا المنحور واشياء أخرى (١)

خطرفات ذاتية

سايمون دينق

مدخل:-
قبل ان يسطر قلمي حرفا واحدا بخصوص خيبة اقتصادنا المنحور من الوريد الي الوريد، قفزت الي ذهني عدة اسئلة جانبية، تصلح الاجابة على اي واحدة منها لنسج رواية مثيرة ومكتملة الفصول، وفي خضم محاولتي فرز بعضها حتى اقرر ما يمكن كتابته وجدت نفسي تائهاً وسط بديهيات بسيطة، واصبح حالي اشبه بالعريس الذي كان يسأل شيخا في حيهم ليفتيه عما اذا كان ضروريا اخذ عروسته معه الي الشهر العسل ام يذهب لوحده دونها… والجيد في الامر ان واقعنا المرير (شيخ حاله) يفتي للجميع من غير سؤال.

تجار الدولار
يختزل الكثيرون هذه الايام (عن جهل) سبب ازمتنا الاقتصادية المستفحلة في (تجار الدولار) الذين يضاربون بالعملات الاجنبية في السوق السوداء اذ تعتقد الاغلبية الساحقة المضللة ان هؤلاء عبر مضاربتهم بالدولار افقدوا العملة الوطنية (الجنيه) قيمتها وقوتها الشرائية. وللأمانه هذا الاعتقاد الخائب بضاعة حكومية بامتياز اوجدها انصار الحكومة من العدم وسوقوها وروجوها وسط الناس ثم استخدموها شماعة يعلقون عليها فشل الحكومة وخيباتها في ادارة اقتصاد البلاد..
الحقيقة التي لا ينتطح حولها عنزان هي..! انه حتى الدولار نفسه في الوقت الحالي هو الاخر فقد الكثير من قيمته امام الدولار ايضا.. كيف حدث ذلك…؟ دعني احدثك بالاتي: قبل ثلاث او اربع سنوات مضت كانت قيمة ايجار (دكان تجاري) لمدة شهر واحد داخل (سوق كاستوم) تساوي (١٠٠) دولار او ما تعادله بالعملة الوطنية، حاليا ذات الدكان بلغت قيمة ايجاره لشهر واحد اكثر من (١٠٠٠) دولار وقابل للزياة ولا يقبل الدفع بالعملة الوطنية.. وهذا يعني شيئا واحدا فقط وهو ان دولار أمس ما عاد هو دولار اليوم.
صحيح لا يمكننا ان ننكر الدور السلبي الذي لعبه مضاربي العملة (تجار الدولار) في تدهور الاقتصاد وموت الجنيه سريريا من غير اعلان رسمي، غير ان اكبر المتواطئين في موت الجنيه هو الحكومة نفسها واجهزتها الاقتصادية والتنفيذية التي تساهلت تساهلا غير مبررة في اشياء تمس السيادة الوطنية الاقتصادية في الاسواق وسنعود بالتفاصيل لاحقا.

الاحتلال الاجنبي
من المعلوم ان دولتنا محتلة اقتصاديا احتلالا اجنبيا كليا.. فجميع اسواق البلاد تقريبا بما فيها الولايات البعيدة من العاصمة يسيطر عليها (التجار الاجانب) بنسبة تفوق ال٩٠% واغلب هؤلاء التجار غير مستوفين لمعيار المستثمر الاجنبي الذي يقول به القانون… لا اود الدخول في معمعة القوانين التي لا افهم كننها، ولكن الاجانب في اسواق مدينة جوبا تحديدا هم التجار الحقيقيين للدولار، وليس الغلابة اصحاب (الامبريلات) الذين يفترشون اطراف الشوارع.
التجار الاجانب كل ناتج تجارتهم خلال النهار من العملة الوطنية (الجنيه) يستبدلونه الي الدولار في اليوم نفسه بدون تاخير وهذا يشكل ضغط الكبير على العملة الاجنبية فحينما يكثر عليها الطلب يرتفع سعرها، وبعض المحلات التجارية من الاساس لا تقبل بيع بضائعها الي زبائنها بالجنيه.. وعليك انت تتأكد من ذلك بنفسك عزيزي القارئ، فان كنت في مدينة جوبا.. ادخل الي احدى المحلات التجارية الاجنبية الكبيرة التي تتاجر بالاجهزة الالكترونية علي سبيل المثال…. ادخل الي متجر الهواتف النقالة واجهزة اللابتوب والكمبيوتر.. لا تسأل فقط، اقرأ ايضا، سترى ديباجات مطبوعة على ظهر المنتج وقيمته مكتوبة عليه بالدولار وليس بالعملة الوطنية.. وان كنت زبونهم وانتقدتهم على ذلك محتجا على غياب العملة المحلية في تعاملاتهم، حينها سيطالبونك السداد بالجنيه ولكنه بسعر مرتفع يفوق قيمته الدولار .. وتفاديا للخسارة غير الضرورية، اعتقد انك ستضطر ان تبحث عن الدولار في الخارج عند اصحاب السوق السوداء لتعود اليهم من جديد لشراء المنتج نفسه الذي تعذر لك شرائه بالجنيه… في كل الاحوال سيجبرونك بطرق شتى على الدفع بالدولار لا محالة.
تخيل عزيزي القارئ كميات الدولار التي يحصل عليها هؤلاء بهذه الطريقة في اليوم الواحد ونسبتها في تدمير الإقتصاد في بلادنا!!.
السؤال هو: هل تتحكم الحكومة فعليا في طرق خروج الدولار الذي هو في حوزة الاجانب من البلاد الي الاسواق الخارجية؟… انا لا اعتقد ذلك لانه في الواقع لكل مجموعة تجارية اجنبية تحويلات سرية لا تخضع لرقابة الدولة، بل ازعم ان الدولة لا تعلم بوجود وكالات لتحويل العملات الاجنبية في جيوب اشخاص متجولين.. يحولون ما يحصلون عليها من العملات بكميات ماهولة بلا حسيب ولا رقيب.
لم يختصر الاحتلال الاجنبي على التجارة في الاسواق وحدها، بل هم يحتلون ايضا كل شيء لا يخطر على البال.. مثلا تجدهم في ورش الحدادة والمكنكة، في البناء، في الخلاء عند كمائن الفحم والطوب، يقودون مراكب النقل ومواتر البودا بودا والركشات، .. هم اساتذة المدارس، وهم حفارو القبور التي يدفن فيها امواتنا.. هم سماسرة في الجنس (قود) … الخ.
ومع ذلك تجدهم شديدو الحذر في أن تذهب مصلحة تخصهم الي انسان جنوبي، وفي سبيل تدوير المصلحة فيما بينهم .. صنعوا لانفسهم مطاعم تخصهم، يشمل قهاوي الشاي والشيشة واشياء اخرى.. بمعنى آخر هم يطبقون حرفيا مثل (الاقرباء اولى بالمعروف) باستثناء (سوق الجنس) الذي لم يشمله التخصيص حتى هذه اللحظة.
بربكم…! هل بوسع الحكومة ان تخبرنا ولو عن ميزة واحدة فقط تتمتع بها الجالية الجنوبسودانية في جوبا دون الاجانب الذين اصبحوا اهل البلد واسياده؟
اذكر في مطلع عام ٢٠١٨م ضبطت بالصدفة اجنبيا اعرفه حق المعرفة وهو يحمل جنسية جنوب السودان وقد قام بتغيير اسمه المعروف للجميع الي اسم مواطن جنوبي في الجنسية، فما كان مني الا وأن اتصلت بوكيل نيابة اعرفه ايضا وحكيت له القصة، فنصحني بفتح بلاغ ضده.. وقبل ان افعل عاد واتصل بي وقال انه ارسل من طرفه جنديين من الشرطة وهما في طريقهما اليَّ، وزاد بالقول.. دورك سيختصر في ارشاد هذين الشرطيين الي الاجنبي المقصود ..وهذا ما حدث بالفعل.. تم اقتياده الي قسم الشرطة وتحديدا قسم شرطة مونكي وتم تدوين بلاغ ضده وكل شيء ذكرته كان صحيحا حسب ما افادني احد الشرطيين فيما بعد.
خرج من الحبس بعد ثلاث ايام منتصرا لتبدأ ويلاتي انا مع بعض الجهات.. فلقد نسيت بانه تاجر اجنبي … عموما لم يحدث لي مكروها ولا اود الخوض في تفاصيل عفى عنها الزمن غير انني أؤكد لكم بملء فمي ان ذلك الشخص لايزال يتمتع بالجواز والجنسية الجنوبسودانية بنفس الاسم المزور الذي لا يعود له حتى هذه اللحظة..
..نواصل

‫5 تعليقات

  1. يا سايمون. ما ذكرته اعتبرها فاسد مرحلة الروضة. يعني المشوار طويل ستبلغ من العمر ثمانين أو تسعين عاما وحينها ستجد نفسك تكتب في نفس المشاكل والأخطاء والفساد ودولة اللا قانون. انظر لحالنا نحن في السودان ما يقارب السبعون عاما من الاستقلال والحال الان اسوء سبعين مرة من حالنا في 1956

  2. ما شاء الله .. بالرغم أنك جنوب سوداني واللغة العربية ليست لغتك الأم ولكن لغة المقال جميلة وفصيحة ومعبرة جدا

  3. الاخ سايمون
    الدولار لم ينخفض وسعره ث4ابتا عالميا وانخفاضه في السودان او جنوبه ليس دليل انخفاض في قيمته عالميا ولكن هنالك ان الاقتصاد يعمل لصالح اما اجانب طفيليين او وطنيين طفيليين او ان الوزراء والحكام وتوابعهم حولوا الاقتصاد لمصالحهم الذاتية مع توفر العملات الاجنبية بسبب الركود في السوق

  4. مقال رائع يسلط الضوء على الفوضى الاقتصادية التي يدفع ثمنها المواطن العادي لصالح الاقتصاد الطفيلي الذي يمتص كل موارد البلاد من العملة الصعبة، ثم يقوم بتهريبها للخارج، وهذه المشاكل الناتجة عن فساد الأجهزة الحكومية والأمنية لا تقتصر على دولة الجنوب فقط وإنما لها وجود قديييييييم في دولة شمال السودان حيث مضاربات الدولار والريال ونقل الذهب الخام عبر مطار الخرطوم وتحت حماية السلطات لخارج البلاد. الله يعين الجميع، وعلى الأخ سايمون قيادة حملة إعلامية متواصلة ضد منح الجنسية الوطنية لجنوب السودان لهؤلاء الدخلاء ومصاصي الدماء القادمين من الخارج. أعتقد أن أكبر المشاكل التي تواجه دولة جنوب السودان تأتي عبر الحدود. على المستنيرين تحذير القيادة السياسية من الخطر القادم من دول الجوار وخصوصاً كينيا واثيوبيا ويوغندا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..