توكفيل : نمط الانتاج الرأسمالي ومسؤولية المجتمع نحو الفرد ..

طاهر عمر
من الملاحظات المهمة فيما يتعلق بتاريخ الفكر السياسي أن توكفيل قام بنفس العمل الجبار الذي قام به جون ماينرد كينز بعد مئة عام من بعده وها هي تمر ما يقارب المئة عام منذ ظهور الكساد الاقتصادي العظيم وما زالت النخب السودانية تهمل تاريخ الفكر السياسي حيث تتقاطع كل من الفلسفة وعلم الاجتماع والقانون بحجة أن ما حدث في تاريخ الفكر السياسي في أوروبا يخص مجتمع غربي ونسوا أن ظاهرة المجتمع البشري واحدة وتضبطها معادلة الحرية والعدالة.
لهذا نجد أن قليل من المفكرين في العالم العربي والاسلامي قد نبهوا المثقفين الى مسألة التفريق ما بين خيانة أوروبا للتنوير و ما بين ما قدمته أوروبا من أفكار فكت بها طلاسم ما يتعلق بتجربة الانسان وما يتعلق بضمير الوجود ولهذا نجد مثلا هناك من علماء الاجتماع النابهين قد نبهوا الى الاهتمام بتاريخ أوروبا وكيف قدمت أفكار عقل الأنوار وكيف تعاملت مع الحداثة بعكس نخبنا السودانية منذ أيام مؤتمر الخريجين وأتباعه فنجدهم ليس لديهم القدرة على التفريق ما بين خيانة أوروبا للتنوير وكيفية الاستفادة مما قدمته أوروبا من أفكار ساعدت في تطور المجتمع.
مثلا من خيانة أوروبا للتنوير مسألة الاستعمار وحقبته ولكن نجد أن هناك فلاسفة أوروبين كثر قد انتقدوا حقبة الاستعمار منهم على سبيل المثال توماس بين وكان ممن انتقد الاستعمار وسيطرة الكنيسة وسيطرة البيوت الملكية على السلطة وكذلك نجد أرنولد توينبي الكبير وهو عم المؤرخ البريطاني الآخر كمؤرخ مهم في القرن العشرين وكان توينبي الكبير أول من انتبه الى أن حقبة الليبرالية التقليدية قد وصلت لمنتهاها وأن ليبرالية حديثة قد أطلت وكان ينتقد حقبة الاستعمار حيث أهملت الطبقات الفقيرة في أوروبا وكذلك استقلت الامم الأخري عندما أقدمت على استعمار الشعوب.
ومن الملاحظات المهمة أن ما بين انتباه توكفيل في فكره عن الديمقراطية ويقظة أرنولد توينبي الكبير نصف قرن من الزمن وما بين أرنولد توينبي الكبير والى لحظة ظهور الكساد الاقتصادي العظيم نصف قرن من الزمن وهنا نريد أن ننبه النخب السودانية أن كل من توكفيل وأرنولد الكبير كان نابه لأنه قد لاحظ مفصل مهم من مفاصل التاريخ حيث أن القيم القديمة للمجتمع قد بدأت شمس أفولها وأن أشعة قيم جديدة قد أطلت من وراء القرون وتحتاج لفلسفة جديدة وأفكار جديدة من فلاسفة ومؤرخين وعلماء اجتماع وهذا ما يحصل في السودان الآن حيث ظهرت علامات موت القيم القديمة والكل منتظر قدوم الفكر الجديد.
ما أود أن أقوله وأنبه له النخب السودانية وهي تسير كالسائر في نومه على خط سنار المهدية الانقاذ الثمرة المرة للحركة الاسلامية لا يعقل أن يكون عقل النخب السودانية جامد ومتكلس لهذا الحد الذي يجعل خط سنار المهدية الانقاذ هو السائد وكله بسبب غياب المؤرخ النابه الذي يفارق خطوات المؤرخ التقليدي والمثقف التقليدي ودارس علم الاجتماع التقليدي جاء الوقت بأن تفرّق النخب السودانية ما بين خيانة أوروبا للتنوير وما قدمت أوروبا من أفكار عقلانية قد أسست للانسان التاريخي والانسانية التاريخية.
لا شك أن مسيرة الانسانية قد أصبحت تراجيدية ومأساوية بلا قصد ولا معنى ولا يمكن ضبطها بغير معادلة الحرية والعدالة لهذا السبب أن في فكرة العقلانية وإفتراض عقلانية الفرد وأخلاقيته هي التي تضمن مسايرة التغيير الهائل للظواهر المجتمع وكيفية صياغة أفكاره من جديد. مثلا عندما لاحظ توكفيل في ديمقراطيته موت القيم القديمة بسبب مرور نصف قرن على الثورة الصناعية حيث بدأت عام 1776 نجده قد لاحظ بأن هناك ظاهرة جديدة وهي فكرة المسؤولية الاجتماعية وكيف تكون مجابهتها كظاهرة جديدة نتاج الثورة الصناعية حيث ظهر أرباب العمل وطبقة الصناعيين في مواجهة طبقات فقيرة جدا تجابه حوادث في مواقع العمل وكيفية التفكير في معالجة الصعوبات التي التي تجابهم نتاج للثورة الصناعية.
عندما قدم توكفيل أفكاره وملاحظاته فيما يتعلق بموت القيم القديمة وظهور قيم جديدة وأهمها مسألة المسؤولية الاجتماعية حينها كان ماركس لم يبلغ السابعة عشر من من عمره فمسألة المسؤولية الاجتماعية تجاه الفرد الذي يعاني من الفقر وحوادث العمل مثلا أن يفقد عامل يده في إحدى المصانع قد إلتفت لها مفكرين كثر من أرباب العمل والمستثمرين في الصناعة قبل ماركس ويمكنك أن ترى تطورها الى لحظة تبلور فكرة الضمان الاجتماعي وكيفية معالجة التشظي الاجتماعي ونجدها قد طبقها روزفلت في حقبة الكساد الاقتصادي العظيم عام 1929 وهي الفكرة التي نجدها قد تبناها فرانسوا ميتران في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم وما يتعلق بفكرة الحد الأدنى للدخول.
على النخب السودانية أن تنتبه الى أن المسؤولية الاجتماعية و فكرة الضمان الاجتماعي فكّر فيها فلاسفة نتيجة لظواهر قد نتجت من الثورة الصناعية وقد قدموا لها معادلة الحرية والعدالة وكيفية مجابهة واقع تراجيدي ومأساوي لمسيرة الانسانية منفتح على اللا نهاية بعكس ماركسية ماركس وهي تحاول تقديم حلول نهائية حيث نجدها لم تستطع مفارقة سير الفكر الديني الذي يحاول تقديم حلول نهائية وهيهات.
لهذا نجد أن أفكار توكفيل قد ساعدت على مجابهة ماركسية ماركس وكشف مواقع ضعفها حيث تحاول تقديم حلول نهائية وقد روجت لفكرة نهاية التاريخ وانتهاء الصراع الطبقي في وقت نجد أن توكفيل قبل ماركس بكثير قد تحدث عن فكرة المسؤولية الاجتماعية واليوم نجدها متجسدة في فكرة الضمان الاجتماعي وفكرة الحد الأدنى للدخول في نفس الوقت يعتبر من اهم العوامل التي تجعل الكل يدافع عن الديمقراطية ويبتعد عن فكر الشموليات من كل شاكلة ولون وهذا ما نحتاجه اليوم أي فكر يكافح كل فكر يحاول تقديم حلول نهائية أو أي فكر يحاول تأبيد فكرة الدولة الارادة الالهية كما نجدها في أحزابنا الغائصة في وحل الفكر الديني.
نجد اليوم شعار ثورة ديسمبر حرية سلام وعدالة وهو شعار ومؤشر على أن القيم القديمة في السودان قد شارفت على النهاية وأن قيم جديدة قادمة وتحتاج لفكر يؤسس لها كما أسس توكفيل لفكرة المسؤولية الاجتماعية وبالتالي قد ساعدت على تطور الفكر السياسي. ملاحظة توكفيل وفكرة المسؤولية الاجتماعية هي انتصار للفرد والعقل والحرية ونجدها قد إحتاجت لما يقارب القرن لكي تتحقق كفكر نجده قد طبقه روزفلت في كيفية معالجة التشظي الاجتماعي الذي نتج عن الكساد العظيم ونجده اليوم في فكرة الضمان الاجتماعي المنتشرة في دول اوروبا وهي تجسد المسؤولية الاجتماعية تجاه الفرد مع وضع الاعتبار لحريته والعدالة بعكس ماركسية ماركس التي تستخدم قوة الدولة كلها لتحطيم المجتمع وقد أوصلها الى تفكهها ونهايتها لأنها كانت تعتقد وتعتمد على فكرة تقديم حلول نهائية.
ويبقى في الختام أن مسألة المسؤولية الاجتماعية أي أن يقدم المجتمع للفرد الحد الأدنى للدخول هو تجسيد لفكرة الحق في الاستمرارية كما نجدها في العقد الاجتماعي لجان جاك روسو وهي نفسها قد اعجبت توماس بين وهي الا يترك الفرد بل أن يكون هو غاية لأنه له غاية وهي قيمة القيم وهي الحرية وعليه ننبه النخب السودانية أن مسألة القبول بنمط الانتاج الرأسمالي تحتاج لفكر جديد ومرونة من نخب ليس من السهولة أن تتراجع عما كانت تعتقده وهي مسألة تقديم حلول نهائية سواء كان ذلك من احزاب وحل الفكر الديني او من اليسار الذي يحتاج أن ينفض الغبار عن مراجع تطور الفكر السياسي ولا يكون ذلك من السهولة بمكان.
هذه المرونة المفقودة تساعدنا أن نجسر الهوة ما بيننا وقيم المجتمعات الحية اليوم وخاصة أن العالم اليوم يتخلق ليولد من جديد ومصاب بنفس أعراض الظواهر الاجتماعية التي عالجها توكفيل في فكره وانتبه لها أرنولد الكبير وقد قدم لها جون ماينرد كينز حلوله في فكرة تدخل الدولة من أجل تحقيق فكرة الضمان الاجتماعي وهي مسؤولية المجتمع تجاه الفرد وإدخالها في مشهد الفكر في السودان تحتاج لإدخال فكر جديد يربط الفرد بعلاقة جديدة مع فكرة الدولة كمفهوم حديث. على النخب السودانية ترتيب أوراقها بسرعة حتى تواكب تخلق العالم وهو ينتظر ميلاده من جديد.
خاصة وقد رأينا كيف وقف أحرار العالم مع ثورة ديسمبر وكيف رجع السودان لأحضان المجتمع الدولي بسرعة في زمن حكومة حمدوك الانتقالية ويجب أن نلفت النخب الى ان فكرة ثمرات التي كانت سوف تفتح الباب لتأسيس فكرة الضمان الاجتماعي اي فكرة تأسيس لفكرة المسؤولية الاجتماعية تجاه الفرد وتحتاج من النخب السودانية لتقديم فكر جديد يرسخها كقيم جديدة في معادلاتنا السلوكية للفرد وفقا لعلاقته بالدولة متمتع بالحريات وليس مشغول البتة لاهويات القاتلة التي تروج لها النخب الفاشلة في فكرها.