أخبار السودان

خال الشهيد محجوب يكتب ماهذا القهر؟ وكيف يوصف!؟

د. النذير الننقة

وانت لأكثر من اسبوعين تكتب وتمسح ، وتسأل نفسك ماجدوي الكتابة؟ وتكتفي بالشير وتحويل الرسائل الجاهزة، وتبحث في القواميس وعن الحروف ولا تجدها وكأنها قد رفعت او تلاشت!!

فمن أين يأتون بهذه الحروف؟ وكيف يركبونها لوصف قهر كهذا؟ وهل تستطيع ان ترسل احساسك بالظلم والقهر والعجز للاخرين عبر الكلمات؟

لا اظن ولكنها فقط محاولة الكتابة التي لا تجيدها اصلا يا سيدي، فاجعة ان تفقد شابا بكل هذه الابتسامة في لمحة عين وان لا تعلم بموته الا بعد ساعات وهو علي بعد خطوات منك، وان لا تقيم له الجنازة التي يستحقها ولا تعزه بعزاء كمان ينبغي، قهر نحسه كل يوم من بداية الثورة مع استشهاد شهيد او اصابة جريح، نتألم كأي سوداني رأيناه وقد تألم لمصابنا، ونبكي كما بكت الامهات شهيدنا (ووالدته يوم الفاجعة وحينما بدأت في التفاعل وإستيعاب الأمر كانت تردد «بلا وعي» في بعض الجمل منها «انا كنت بشوف في النت وببكي ولاد الناس») ولم يختلف احساسنا حينها عن احساس امرأة جاءت من المطار مباشرة لتعزي أختنا وهي لا تعرفها ولا تعرف الا وصف البيت، ولن يختلف كثيرا عن (انا جيت امس مع البمبان والضلام لكن لما عرفت انو ود اختكم جيتكم راجع تاني)؟

قهر طعمه في حلقك وانت ذاهب الي المشرحة ولا تستوعب اي طريق سلكت؟ واي وقت انفقت؟ وفي قلبك تتمني ان تصحي من هذا الكابوس اللعين، ان يخبرك احدهم ان محجوب موجود في المعتقل الفلاني سليم ومعافي وما هي الا تشابه اسماء ، وفي المشرحه تجد ابن اختك ممدا امامك وكأنك تعرف الموت لأول مرة او تتذوق له طعما جديدا وجرحا عميقا كلما عصرته وجدته أعمق من ان تطاله يدك، وانت تسمع في خلفية التلفون صوت الرصاص المطاطي وصوت البمبان فوق رؤوس العمات والخالات، الأطفال والكبار، قهر ان تسأل محدثك عن هذا الصوت وهذه الهرجلة وتصدق اجابته وقد حاول تطمينك لأنك تبحث عن أي شي الا الحقيقة في هذه اللحظات؛ قهر ان نضطر وبوعينا للتخلي عن عادة سودانية بخروج الميت من باب بيته الي قبره ونأتي بالأم والخالات لإلقاء نظرة الوداع في جبرة و كبارنا يقولون ما عاوزين نستفز هذه الكلاب (وهم لم ينتظروا استفزازنا بل دهسونا بتاتشراتهم و روعوا نساءنا واطفالنا) وفي المقابر تنظر للأعمام والأخوال تتثاقل خطواتهم كأنهم لايريدون العودةوقد انتهي كل شئ؟ امه ماذا ستقول لها (خليتو جمب الدكان مع ولاد الحلة) لن تفيد هذه المرة، وحتي أولاد الحلة وزملاءه في الدراسة ماذا يقولون .. وهل تجدي !؟

قهرنا ونحن نستضيف ضيوفنا بالبمبان تارة عبر بنادق العساكر المرتكزين قبالتنا وتارة عبر اي هبة هواء تحركه من الاثاثات والحيط وصفق الشجر، قهر تراه في عيون اطفالنا وفي دموع الرجال وهم يستقبلون والده كابتن التاج محجوب وكلهم يتوراي خلف دمعه وشاله (لقد اضعنا الأمانة يا تاج ؟)، قهر يتجدد كلما مر أمامك هذا الصغير (محمد) أتراه يعي ما يحدث؟

او تراه يعلم انه لن يري صديقه (حجوبي) مرة تانية؟ عجز تحسه وانت تقالد (انسام) وهي محدقة في السماء تعيش في عالم اخر غير عالمنا، عجز وظلم تبلعه كلما تنظر في وش هذه المسكينة (وداد) وهي تعاني الضغط والسكر كيف ستتحمل كل هذه الفاجعة؟

قهر ضرب هذه الاسرة الصغيرة وقد امتد للاسرة الكبيرة (اهل الزومة والصحافة) وكلنا نبذل طاقة جبارة للتماسك لنعبر معا هذه المحنة ، عزاؤنا ان ابننا قد مات ميتة شرف (واحدة من زميلاته تقول كان بيحمينا وهم زعلوا منو واتلموا عليهو كلهم) عزاؤنا ان ابننا قد سلك طريق الشرفاء علوا في الدنيا والاخرة، عزاءنا بأسر الشهداء التي جاءتنا وهي تحمل فخرها بابناءها (انا وعبدالعزيز نستقبل ابن عم الشهيد سنهوري قد وعينا الرسالة وان نكون اول المعزين لاسر الشهداء (القادمون) لان تعزيتهم لهاء وقع خاص جدا عند اسرة الفقيد) عزاؤنا مع أهل وأبناء أهل وأصدقاء شهداء سابقون جاؤوا من كل فج صادق وعميق الجرح، وعزاؤنا مع اب الشهيد الصادق سمل ولا ادري قد جاء لتعزيتنا ام جاء وامه لنعزيهم في ابنهم ! عزاؤنا ان الله يختار الشهداء وقد اختار ابننا من ضمنهم.

قضيتنا مع هذه العصابة لم تبدأ بإستشهاد محجوب ولن تنتهي الا بكنسهم ، ولم نبدأ فيها فصلا جديدا بل هو فصل واحد كتبت صفحاته إبادة القري في دارفور، غرق مركب صغار المناصير، شهداء السدود في امري وكجبار، ألووف الشهداء في جنوب كردفان والنيل الازرق، عديد الاطفال والمرضي وقد فارقوا الحياة لسوء النظام الصحي، وبعد وعينا قرأنا عن شهداء رمضان، وعن معسكر العيلفون وعن الظلم والقهر الذي مورس بعقلية التمكين التي شردت الشرفاء وعن الدولة الدينية التي اول من اضرت أضرت بالدين نفسه، وعن الدولة العميقة وعن تاريخ السكة حديد ومشروع الجزيرة وبقية المشاريع التي أحالوها الي رماد وجعلونا في ذيل الامم وقد كنا في راس الامم وعن وضعنا التعليمي ونظامنا الصحي والتدهور الذي ضرب كل شئ و لم تسلم منه حتي الأخلاق.

الشهيد الدكتور علي فضل
الشهيد الدكتور علي فضل

وقد سمعنا وقرأنا الكثير عن بيوت الاشباح وعن الشهيد د. علي فضل وقد اقترن اسم محجوب به للتشابه بينهما في طريقة الوفاة من اثر التعذيب وتقارب تقرير التشريح وإنتماء الاثنين للمجال الطبي حتي ولو ان محجوب لم يكمل دراسته ولكن أحلامه التي يحكيها لي عن مستقبله الطبي شاهدة، فكثيرا ما كنا نتحدث حديث دكاترة (زي مابيقولوا لينا رفقاء مجلسنا) ، فقضيتنا ليست جديدة ولن تنتهي الا بزوال هذه المافيا اليوم قبل الغد وكأي سوداني طلع الشارع وردد هتاف (تسقط بس) أري ان القصاص الحقيقي يكون بإسراعنا بإسقاط هذا الكابوس الجاثم على ظهورنا قتلاً وتعذيباً، وان لا انتظار لعدالة من أيادي تلطخت بدماء الأبرياء بل العدالة بقطع هذه الايادي وكفها عن أذى الاخرين رغم تأكيدي علي ان المقاضاة الان خيار منطقي يثبت أوتاد الحقيقة ويعطينا إحساس بأننا لم نهزم وأننا كأسرة لن نستسلم لأي معوقات او احباطات فالشهداء قد ذهبوا لرب ارحم بهم منا ولكن لا نريد ان نفقد بعدهم احدا بهذا القهر كله، لا نقول الا ما يرضي الله وانا لله وانا اليه راجعون.

وأعود وأسأل نفسي ما جدوى الكتابة؟

د. النذير الننقة
الجمعة 15 فبراير 2019م

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..