شارع مدني ( 6 )

د. طارق الشيخ
قصص أيام السودان السوداء في ظل بني كوز ، مغامرة محمد في اسرائيل حتى ذلك الصباح المشمس لم يدر بخلد أحد من محمد وأصحابه من السودانيين أنهم قد امضوا كل تلك الفترة التي قاربت الثلاثة أشهر في داخل اسرائيل . توقفت عربة لاند روفر ثم تلتها عربة أخرى ونزل منها جنود وضابط اسرائيلي بينما هم في عملية التحضير اليومي لبدء العمل في المزرعة . تقدم الجنود نحوهم ثم طلبوا منهم الأوراق الثبوتية . فاخبروهم بأنها مع الرجل صاحب المزرعة. تقدم الضابط نحو باب المنزل وضغط على الجرس . خرج صاحب المزرعة وبدأ الكلام هادئا ثم سرعان ماتعالت الأصوات . ومعها اختفت اللغة العربية تماما وصار أربعتهم يستمعون الى لغة أخرى مختلفة وتلاسن بين صاحب المزرعة والعسكريين الاسرائليين . ثم التفت نحوهم الضابط مشيرا بأن يحضروا أمتعتهم الخاصة وأدخلوهم جميعا بالسيارة الثانية فيما أدخل صاحب المزرعة مع العربة الأولى . وانطلقت العربتان على الطريق الأسفلتي الى وجهة غير معلومة بعيدا عن مزرعة الرجل . وصلوا بعد فترة من الوقت الى مدينة صغيرة مرتبة طرقاتها ومزينة بجزر خضراء ومنازل أنيقة شيد أغلبها من الحجر . أدخلوهم الى مركز للشرطة وبدات عملية استجواب طويلة بعد ان أحضرت الشرطة لهم اسرائيلي يجيد اللغة العربية . ولم يستغرق الأمر كثيرا معهم حتى امروهم بالبقاء بالمركز وأودعوا حراسات بدت نظيفة مرتبة . أمضوا بضعة أيام بالحراسات وكانت بالنسبة لهم أشبه بفندق صغير الحجم إذ لم يشعروا بأنهم في حراسة لولا الأبواب الحديدية المحكمة وبأسياخها كما هو معتاد في السجون . في الحراسات كانت وجباتهم الثلاثة مؤمنة والمعاملة حسنة . وفي ذات صباح أحضروهم جميعا ولأول مرة يشاهدون صاحب المزرعة الذي بدا أشعث وشعر ذقنه قد طال . أجلسوهم قبالته فبادلوه التحية ، ثم بدات عملية استجواب لهم حول معاملة صاحب المزرعة لهم وعلاقتهم به . فأخبروا الشرطة بأنهم لم يعرفه الا من السوري المهرب الذي دلهم عليه واختفى . وأكدوا بأنهم لا مآخذ لهم عليه في معاملته لهم ، بل أشادوا بحسن تعامله معهم طوال الفترة التي امضوها معه .ثم حضر أحد العساكر يحمل أربعة مظاريف ورقية وطلبوا من كل واحد فيهم أن يتسلم مظروفه وأن يتأكد بنفسه من محتوى المظروف والتأكيد على صحة المبلغ المكتوب خارج كل ظرف. ثم اوضح لهم الضابط المسئول بأن هذا المبلغ هو قيمة عملهم بالمزرعة طوال الفترة التي امضوها بالعمل بالمزرعة .
قال محمد انها المرة الأولى في حياته التي يمسك فيها بتلك الكمية من الدولارات . فقد كان نصيب كل واحد منهم مبلغ أربعة ألف دولار لقاء عملهم في فترة تقل قليلا عن الثلاثة أشهر . بعدها أصطحبتهم مجموعة من العساكر برئاسة ضابط وأقلتهم سيارة عسكرية توجهت بهم الى خارج المدينة. وبعد فترة من الوقت توقفت السيارة وطلبوا منهم النزول وتسلموا امتعتهم الشخصية . ثم أنزلوهم بتلة مرتفعة وأشار اليهم الضابط بان يسيروا في اتجاه قرية بدت هناك على الأفق البعيد منبها عليهم بأن الطريق آمنة ولا خوف عليهم . قال محمد ودعناهم ثم شكرناهم وبدانا المسير في اتجاه القرية اللبنانية . ساروا بخطا متسارعة وحذرة في طريق القرية ومرة بعد الأخرى يلقون نظرة الى الوراء فيجدون الضابط وعسكره وكأنهم يتأكدون من أنهم في طريقهم الى القرية ولن يعودوا مجددا . واستمر الحال هكذا حتى لحظة دخولهم القرية . واول شئ فعلوه أن قصدوا مقهى صغير بوسط القرية . دخلوا اليه وطلبوا من صاحب المطعم شيئا من الأكل والمشرب . ثم استفسروا صاحب المقهى الذي وجدوا فيه بعض اهتمام لحالهم عن القرية وعن الطريق الى بيروت. وعدهم الرجل بالمساعدة إن كانوا ينوون العودة الى دمشق أو التوجه الى بيروت الا محمد فإنه فقد استقر رأيه على العودة الى دمشق مفضلا لها على الدخول في مغامرة جديدة وانتظار قدوم شقيقه . وهكذا افترق ثلاثتهم عن محمد فتوجهوا الى بيروت فيما اصطحب أحد مهربي البشر محمدا في طريق العودة الى دمشق . وانتهى بمحمد الحال في نفس الفندق السوداني ، يقضي معظم وقته ساهما حائرا منعزلا يفكر في شئ واحد وهو موعد وصول شقيقه من بيروت .
أكثر ما أثر في محمد الطريقة في تجربته الاسرائيلية كما حكى لي الطريقة التي تعامل بها معهم الإسرائيليون . قال كانوا في البداية مضطربين مشتتي الذهن لحظة معرفتهم بأنهم وقعوا في يد الشرطة الاسرائيلية وأنهم أمضوا كل ذلك الوقت داخل اسرائيل وبصورة غير شرعية . وحينما اصطحبوهم الى مخفر الشرطة مرت بذهنه هواجس ومخاوف كونهم من السودانيين وقد سقطوا بيد الاسرائيليين وما ينتظرهم حتما من صنوف تعذيب وضرب وإهانات كما يسمعون عن مايتعرض له الفلسطينيين من قوات الاحتلال . قال لم يحدث أبدا أي شئ من تلك المخاوف التي تبددت شيئا فشيئا بسبب المعاملة التي اتسمت بالاحترام والتعامل الإنساني . قال محمد لقد كانوا رحماء بنا كثيرا ولايشبهون الشرطة وجماعة الدفارات في السودان . يحاول محمد من حين لآخر المقارنة بين حاله ووضعه والجرم الذي ارتكبه بدخول بلد بصورة غير قانونية ولو أنه بفعلته هذه وقع بيد الشرطة أو الأمن السوداني لايتخيل كيف كان حاله ومصيره وكم الضرب والركل والشتم الذي كانوا سيتعرضون له . قال لقد كانت الشرطة الاسرائيلية متفهمة تماما لماجرى لهم والإحتيال الذي تعرضوا له من المهرب السوري . ورمت الشرطة كل اللوم على صاحب المزرعة لتجاوزه القانون وتهريبه الأيدي العاملة . أبدى محمد ومن معه دهشة من الطريقة التي تعاملت بها الشرطة الاسرائيلية معهم وحمدوا الله بأنهم خرجوا سالمين من هذه التجربة الخطرة والمسلك الوعر . ومن يومها ومحمد جالس في مكانه المعلوم قبالة الاستقبال بالفندق أو منزويا في المقهى يستمع لما يدور حوله من أحاديث صامتا قليل الكلام . فيما محمد يعقد مقارناته كنت أمضي بعيدا الى صباح يوم غائم نتوقف عند نقطة التفتيش الأولى خارج مدينة مدني . تقدم عسكري من النقطة نحو سيارة التويوتا هايلوكس التي كان يقودها صديقي دكتور الفاتح عباس مدير مصانع فتح الرحمن البشير للنسيج في ود مدني . كنا متوجهين في صباح السبت الى الخرطوم أسابيع قليلة بعد انقلاب الجبهة الاسلامية . طلب العسكري بطاقة الفاتح ثم طلب بطاقتي . تفحص فيها وابتسم قائلا صحفي بأي صحيفة ؟ قلت : الايام !! رفع رأسه من نافذة السيارة ثم أطلق ضحكة ( ههههه ها ) قائلا : خلاص راحت عليكم يا الصحفيين . تحركنا وبعدها بقليل ضحك الفاتح قائلا : ده حالتو قلت ليه الأيام لو قلت ليه الميدان كان على طول نزلك على الدروة . ضحكنا . (نواصل ) .