شارع مدني ( 7 )

د. طارق الشيخ
قصص أيام السودان السوداء في ظل بني كوز
عائلة في مهب الريح
كان ذلك الاجتماع الأخير لأسرة تحرير صحيفة الميدان . كان المفترض فيه أن نجتمع ونحدد المسئوليات في ظرف متغير . تقرر أن يكون الإجتماع في منزل في حي الموردة نسبة للظرف الصحي المتعلق بزميلنا فرانسوا . فقد أصيب بكسر في الرجل ألزمه سرير المرض . كعادتي توجهت للمنزل المحدد وعرفت طريقي اليه حسب الوصف ولأن الموردة بالنسبة لي كتاب مفتوح منذ ان كنا نتردد على النيل عبر الموردة بمختلف الطرق المؤدية الى النيل وتجنبنا مقابلة أحدا من أخوالي الذين يتواصلون مع الأهل وأصدقائهم في الموردة . من آل الماظ الى قهوة حسن شمت . المهم حضرت مبكرا الى أقرب نقطة من البيت المقصود . كانت الساعة تقترب من الخامسة عصرا . لاحظت شيئين أن هناك قبالة البيت صيوان للعزاء . وفي نفس الوقت شاهدت سيارة بوكس تقف امام البيت وقد خرج من البيت مجموعة من الرجال وشباب وحالة من الهرج . أعتقدت لوهلة بأن الأمر متعلق بالعزاء لقرب الباب من صيوان العزاء المنصوب . ثمة حركة غير عادية ونساء بعضهن يجرجر في ثيابه وآخريات يلملمن في الطرح لتغطية الرأس . أيقنت ثمة شئ يحدث أمام الباب . أستمريت في التقدم نحو البيت مع حالة من النظرات المتوزعة على طول الطريق ومن خلفي . اقتربت أكثر وأدركت من الصراخ والشتيمة ياكلاب الأمن الخ بان في الأمر مداهمة واعتقال ورجال أمن . وفي هذه اللحظة صرت قريبا للغاية من البيت لم يكن أمامي شئ غير الجلوس في أقرب كرسي في صيوان العزاء . تحركت سيارة الأمن لتوها ورأيت وجوه لشباب بعضهم معروف والبعض الآخر لم اعرفه . انتظرت وصرت أتفحص الطريق جيدا تحسبا ما إذا كان هناك لايزال بعضا من رجال الأمن في مكان ما . انتظرت بضعة دقائق والمؤكد ان تصرفي قد لفت نظر بعضا من أهل العزاء وهم يتابعون المشهد الدرامي أمامهم . وقفت بعد مرور بضعة دقائق ، توجهت نحو باب المنزل . وطرقت على الباب . فتحت الباب أحداهن وعرفت فيما بعد انها شقيقة اثنين من المعتقلين وهبت في وجهي : عايزين أيه تاني مش أخذتوهم تاني في شنو ؟ قلت لها أنا طارق وجاي لزيارة فرانسوا صاحبي . هدأت ثم اعتذرت قائلة : أتفضل ؟ دخلت وجدت فرانسوا ممدا على السرير ورجله والجبص حتى الورك . وقال ضاحكا وواضح أنه كان يستمع للحوار السريع الذي دار بيني والفتاة التي فتحت الباب. وقال : عربية الأمن تحركت من شوية ، وقد أعتقلوا مجموعة شباب خمسة معتقلين منهم أثنين أشقاء من أهل البيت والبقية من أصحابهم . قلت له شاهدت كل شئ وتابعته جيدا . قال معقولة ؟ قلت نعم وحكيت له كيف تصادف حضوري عملية الاعتقال وشاهدت من بعيد المنظر كل شئ ، حتى وصلت بيت العزاء فجلست في اول كرسي وجدته . قال طيب ماكان تمشي جاي ليه ؟ قلت ماخلاص مشيوا وتأكدت من أن المكان قد خلا من الأمن الا إذا كان لهم علاقة بالعزاء . ضحكنا . وقلت له سيبك مني أنت كيف تعاملت مع الموقف وكل ورق وبلاوي الاجتماع عندك . أشار الى الجبص وقال كله هنا . وأضاف وهم عارفين هدفهم ولهذا لم يهوبوا تجاهي. كان علي أن أخرج سريعا والوصول الى مكان آخر في بانت لتنبيه بقية الزملاء بتجنب الحضور وإبلاغهم بما حصل . قطعت خور أبوعنجة جريا وصولا لبيت صديقي الكامل وأبلغته بما جرى وجدت بمعيته المرحوم مكي عبدالقادر وأعدت عليه بضحكة كلام يردده التجاني الطيب دائما ممتعضا من رائحة كدوس مكي : يا خي ريحة الكدوس بتاعك دي صعبة . وقلت له تعرف لو الجماعة ديل جو في بيت الكامل ده بعد خروجك بساعات ريحة كدوسك دي تؤكد وجودك . تم الغاء الإجتماع الذي عقد في وقت آخر وفي زمن آخر لم أحضره إذ غادرت البلاد لمواصلة الدراسة العليا في بلغاريا .
كانت عمليات الاعتقال تتواصل وفي كل صباح نسمع بموجة جديدة من الاعتقالات واسماء . كان التجاني الطيب من اول المعتقلين على الإطلاق . وكان اسمي يتردد كثيرا في إذاعة الحركة الشعبية . طارق الشيخ صحفي من الميدان اعتقل وعذب . وكنت أدرك وبأسف أنهم قد اعتقلوا طارقا آخر يحمل أسمي . كان والدي يصر على أن الأمن حينما أعتقلوا شقيقي حذيفة كانوا يقصدوني أنا . كانت هذه قناعة والدي التي تمسك بها كثيرا . كان يقول لي أني أحس بألم وخوفي عليكم شديد . كان يقول أنا عارف أن الأمن كان قاصدك أنت وليس حذيفة . حكى لي كيف صحا من نومه فزعا . فتح عينيه فإذا بجنديين يقفان عند رأسه ويصوبان بندقية كلاشنيكوف في وجهه . لم يكن يتخيل في اسوأ كوابيسه أن يعيش ليري هذا المنظر . سألوه أين حذيفة؟ صمت لحظة سألهم في أيه؟ أعادوا السؤال فاشار اليهم به وفي نفس الوقت تقدم نحوهم حذيفة مجيبا نعم أنا حذيفة . أخذوه معهم وكى لي أنه قد وجد مجموعة من الشباب الذين عملوا مع الأمير نقدالله في الدائرة لمحاربة جشع التجار أو بالأحرى تاجر من بني كوز فقري . ساءه منافستهم له بالشروع في عمل تعاوني في ام بدة الجميعاب . وقد نجحوا في كسب قلوب وعقول أهل الحي وبعون الأمير نقدالله ممثل الدائرة كانوا قد نفذوا مجموعة من الأعمال الخيرية في الدائرة وخاصة في مجال جلب السلع التموينية وبيعها بأسعار منافسة للتاجر الكوز . في ليلة واحدة بعد الانقلاب كانوا كل المجموعة بالحي من الشباب يقتادون في حملة اعتقال ومداهمة واحدة في ليلة واحدة فقد الحي خيرة شبابه . توزعوا فيما بعد من بيوت الأشباح الى سجن دبك الخ .. والدي يصف بصوت فزع الطريقة التي داهموا بها البيت وصوت الباب الحديدي يطرقع في جوف الليل . يقفزون من فوق الحائط على الرغم من الباب ثلاثة ضلف مفتوح . يبعثرون كتبا بالمكتبة بالمنزل وجلها كانت خاصة والدي بمكتبته . يتوقف احدهم ليرى مجموعة من الكتب كان شقيقي المغيرة جمعها من مكتبة المنزل كان حسب قوله يعمل في بحث حول التسامح الديني فاجتمعت بمصادره من المصحف الى سيرة محمد الى ماركس ولينين الى محمود محمد طه . قال نظر الجندي مليا الى الكتب المكومة على التربيزة على اختلافها وردد عبارة واحدة لم يزدها : أيه اللخبطة دي .
ظل والدي يردد عبارته الأثيرة: أعلم أنهم كانوا قاصدينك مش حذيفة . وكنت اقول له الأمن يعرف من يقصد ومن يريد . يومها حينما أخبرته بأن جامعة صوفيا أرسلت لي منحة للدكتوراة من فرحه قال على الفور : توكل على الله فأنا لا أحتمل ان أعيش لأرى أثنين من أولادي في سجون هؤلاء الكلاب يتعذبون . كان يصر ويلح علي بالسفر حتى تم ذلك.
نواصل
يا ابو الدكاترة ليك اسبوعين و انت تكتب في كلام شخصي جدا و مجرد مذكرات عادية ممكن اي واحد يكون عنده ما هو اكثر اثارة و منفعة منها…. ما الذي استفدناه منذ ان بدات تحكي لنا عن تحضيرك للدكتوراة و حتى ذهابك لبيت العزاء؟
انا اقول لك ……لاشيء رغم اني قرات كل مقالاتك لاني فاضي شغل و اتعودت اقرا الراكوبة من الغلاف للغلاف…
يا عمك كفاية،،، ارحمنا الله يرحم والديك…
كندو ؟
كندو فى لغة الدناقله تعنى ما عارف الشىء مع الاستغراب من السؤال
امرك عحيب يا مواطن .. ما في زول جبرك على انك تقرا .. طتقة شر ولؤم عجيبة والله ..
انا غايتو استمتعت جدا بكتابة دكتور طارق الشيخ، الله لا خرمنا من ابداعاتو وتخليلاتو العميقة ..
رحم الله الزعيم الوطني قبل الشيوعي المرحوم نقد كان بيكره نوع الكادر الشيوعي البتفاخر بنضالاته في المجالس وهو ما عارف انو بيضرب في اهم تقنيات الحزب في الاتصال والتخفي ..هسه النكرة د.طارق لو شيوعي صاح ما كشف اسماء زملاء ورفاق واماكن سكنهم فلا تزال الدكتاتورية الغاشمة تطارد الشرفاء …شكرا للمواطن المقهور المعلق اعلاهو
ياخي فكنا انت كمان .. استمتع بالحكي والا فاصمت