مقالات وآراء سياسية

ملاحظات أولية حول مشروع الدستور الإنتقالي المنسوب للجنة تسيير نقابة المحامين

د. أحمد عثمان عمر

 

يحاول البعض فصل مشروع الدستور الإنتقالي المنسوب للجنة تسيير نقابة المحامين والمثار حوله الكثير من اللغط، عن سياقه السياسي، والزعم بأنه مشروع صادر عن جهة مهنية محايدة. وأنه قد تضمن كل المبادئ والأحكام التي تخدم أهداف ثورة ديسمبر المجيدة وتسعى إلى تحقيقها. وهذا الأمر غير صحيح ومناف للحقيقة، لأن هذا المشروع أتى في سياق مشروع للتسوية السياسية له أنصاره ودعمه الدولي والإقليمي، وهو يترجم موقفاً سياسياً معلناً لقوى الحرية والتغيير (قحت) في نفس الوقت، كما أنه يتلاقى ومسار نشاطات اللجنة الثلاثية للمجتمع الدولي ، ويلاقي قبولاً من زعيم الجنجويد كما نشر في الأسافير. وحتى لا نتهم بإطلاق القول على عواهنه، ننوه إلى ما توصلنا إليه حوله من ملاحظات فيما يلي:

  • من المعلوم أن ديباجة الدستور التوجيهية تكرس المبادئ العامة الأساسية للدستور ولصنع السياسات، وأنها أصبحت تلعب دوراً رئيسياً في تفسير الدستور ، ودوراً كاشفاً لطبيعة الموقف السياسي لمن يتصدى لمهمة صناعة الدستور. وبالنظر لديباجة المشروع ، نجد أنها نصت على أنها إستفادت من تجربة الفترة الإنتقالية التي أعقبت سقوط نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م! وهذا يفضح فهم من صاغ الوثيقة لماهية الفترة الإنتقالية التي لم يعرفها المشروع، وأيضاً لماهية السقوط. فإعتبار ما تم فترة إنتقالية، يعني أن سيطرة اللجنة الأمنية في وجود واجهة مدنية يعني سقوطاً ، كما يعني إنتقالاً في نفس الوقت. والواقع هو أن سلطة اللجنة الأمنية كانت إمتداداً لسلطة إنقلاب القصر، وإستمراراً لنظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م، كرست لإحتواء الثورة بهدف تصفيتها. وتسمية هذه الفترة بالإنتقالية، هو إخفاء لشروط الإنتقال ، الذي يجب أن يكون مدنياً خالصاً، ولا يمكن أن يتم بالتحالف مع الذراع الأمني والعسكري الضارب للدولة الإستبدادية التي يزعم إسقاطها. ولهذا الإشارة إلي الفترة السابقة على أنها فترة إنتقالية، يعني تهديم مفهوم الإنتقال وهزيمته منذ مرحلة الديباجة، وإنتصار لقوى الحرية والتغيير (قحت) التي شاركت في هذه الفترة، وساهمت في إحتواء الثورة، والتمهيد لتصفيتها، مما يكذب إدعاء مهنية هذا المشروع وحياديته، ويؤكد صدوره من قوى سياسية بعينها.
  • نصت الديباجة على أنها قد إستلهمت مواثيق لجان المقاومة التي بنيت على مشاورات قاعدية واسعة في كافة بقاع السودان، واستصحبت كافة المبادرات التي تقدمت بها قوى الثورة بمختلف فصائلها. وبما أنها لم تعرف قوى الثورة، وبما أن القوى التي تعتبرها (قحت) وفقاً لتصريحات قياداتها التي أسست لشراكة الدم تشمل عسكريي وأمنيي نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م، وبما أن تصورات هذه القوى متعارضة، وحتى مواثيق لجان المقاومة بها إختلافات كبيرة، يصبح هذا الادعاء في أحسن أحواله غير صحيح. فالديباجة – برغم أنها طويلة ولم تأخذ بنهج الديباجات القصيرة كالدستور الفرنسي مثلاً – نأت عن تعريف المصطلح السياسي وتحديد ملامح الموقف السياسي والحديث عن شرعية ثورية وشرعية ديمقراطية متلازمتان هما عماد الفترة الإنتقالية، هرباً من إتخاذ موقف ثوري جذري يتناقض مع الموقف السياسي لقوى الحرية والتغيير (قحت).
  • الديباجة نصت على أنها تسعى لإرساء دعائم حكم مدني ديمقراطي يرسخ دولة المؤسسات والقانون، دون أن تميز مرحلة الإنتقال التي تشتمل على مرحلة هدم بالشرعية الثورية، تمهد للبناء بشرعية ديمقراطية، ودون أن تؤكد بأن دولة المؤسسات لا يمكن بناءها قبل تصفية مؤسسات نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م الأمنية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية. ولا تكفي الإشارة إلى تفكيك دولة التمكين عن هذا الوضوح والمباشرة، لأن الوثيقة الدستورية المعيبة السابقة التي باعتها لنا نفس هذه القوى، كانت تشتمل على مبدأ التفكيك، وبقى النظام عبر قواه الأمنية والعسكرية المتمكنة والحامية للتمكين. فعدم الوضوح منذ الديباجة، يعنى إمكانية للعودة إلى المربع السابق بكل تأكيد.
  • تنص الديباجة على إنفاذ القرارات المضمنة في سلام جوبا للسلام، والعمل على مراجعته بمشاركة حركات الكفاح المسلح !! ولا ندري كيف ستراجعه وهي قدمت إنفاذ قراراته. وما فائدة المراجعة بعد إنفاذ القرارات؟ ولماذا إعترف المشروع أصلاً بسلام جوبا المزعوم الذي اتضحت نتائجه وتبين أنه مجرد محاصصة سلطة إنتهت بتأييد الحركات المسلحة لإنقلاب اللجنة الأمنية للإنقاذ ضد الشعب السوداني؟ .

الإعتراف بهذا الاتفاق الجريمة، هو مواصلة لنهج قوى الحرية والتغيير التي كانت واجهة لسلطة اللجنة الأمنية حين إبرام الاتفاق الذي تم باسم حكومتها، ووقعه حميدتي بإسمها وهو ليس عضواً في تلك الحكومة !! وهو إستمرار للسير في نهج تمكين الحركات المسلحة وتقاسم السلطة معها، وإعفائها من المحاسبة عن جريمة مشاركتها في الإنقلاب الأخير والإنخراط في مؤسساته.

  • تتحدث الديباجة عن عملية شاملة للعدالة الإنتقالية تحقق المساءلة والمحاسبة وتنهي ثقافة الإفلات من العقوبة. وهذا النص قد يتراءى للناظر من الوهلة الأولى بأنه جيد، ولكن في الحقيقة لا يحدد من إرتكب الإنتهاكات، ولا يحملها لنظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م والإنقلاب الحالي للجنة الأمنية. ودون القيام بذلك، يصبح مجرد لغو لا طائل من ورائه، يقود للجان تخضع للتوازنات السياسية مثل لجنة التحقيق في فض الإعتصام.
  • بالرغم من أن الديباجة تنص في البداية على أنها صادرة عن الشعب السوداني، وتنتهي بالعزم أن يكون هذا الدستور ملزماً للشعب في الفترة الإنتقالية، إلا أنها لا تعرف هذا الشعب ، مما يشي بأنه يشمل حتى اللجنة الأمنية للإنقاذ والجنجويد والحركات المسلحة المتحالفة مع اللجنة الأمنية، ويؤسس لشراكة دم جديدة. كذلك لا تنص الديباجة على سريان هذا الدستور بأمر الشعب بمجرد سقوط الإنقلاب الحالي، مما يجعل الخوف من أن نجد في الجريدة الرسمية هذا الدستور موقعاً من (برهان) بصفته قائد الإنقلاب الحالي، مثلما وقع الوثيقة الدستورية المعيبة بصفته قائد الإنقلاب السابق. وبذلك تستمد الفترة الإنتقالية الجديدة مشروعيتها الدستورية من الإنقلاب الحالي، كما إستمدت الفترة الإنتقالية المزعومة السابقة مشروعيتها من إنقلاب القصر.
  • ألغى المشروع الوثيقة الدستورية لسنة ٢٠١٩م، كما ألغى القرارات التي صدرت في أو بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، ولكنه لم يلغ التشريعات والمراسيم التي صدرت بعد إنقلاب القصر في أبريل ٢٠١٩م، مما يعني أنها سارية المفعول خصوصاً بعد إلغاء الوثيقة الدستورية التي ألغت ما يتعارض من هذه التشريعات والمراسيم مع نصوصها . وهذا يعني أن المشروع قد شرعن كامل الفترة الإنقلابية الأولى وكل ما صدر عنها من تشريعات، بالمخالفة للوثيقة الدستورية المعيبة التي شرعنتها جزئياً.
  • إعتبر المشروع إتفاقية جوبا للسلام جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وهو بذلك صحح الوضع المعيب لها في الوثيقة الدستورية الملغاة، ولكنه لم يعالج وضعية التعارض في حال تعارض نصوصها مع نصوص المشروع. وفي كل الأحوال هو شرعن هذه الإتفاقية المرفوضة شعبياً، والتي لم تجلب سلاماً، وأسست لوضع محاصصة بين الإنقلابيين والحركات المسلحة، مما يستلزم إلغائها جملة وتفصيلاً، والإنخراط في مفاوضات سلام جدية مع القوى الفعلية الحاملة للسلاح، لا مع الحركات المسلحة الداعمة للإنقلاب والمعادية للثورة، لإنجاز إتفاق سلام حقيقي يخاطب جذور الأزمة ويقدم معالجات لها.
  • أعطى المشروع الدولة (٦) شهور كاملة للقيام بمراجعة كافة القوانين السارية وإلغاء أو تعديل كل ما يتعارض مع الحقوق والحريات الواردة فيه. والواضح أن هذه الفترة طويلة جداً، خصوصاً وأن القوانين المقيدة للحريات والمخالفة لها واضحة ومعلومة للكافة، وكان يجب أن تقصر الفترة لشهر على الأكثر، وأن تعتبر كل القوانين المعروفة غير دستورية بنص هذه المادة في حال عدم القيام بإلغائها خلال الشهر المحدد. كذلك كان يجب أن تحدد السلطة المخول لها الإلغاء، بدلاً من الحديث عن الدولة بصفة عامة بحيث لا يتم تحديد الجهة المسئولة والخاضعة للمحاسبة بموجب تلك المسئولية.
  • أبقى المشروع على عقوبة الإعدام على من بلغ عمره السبعين في جرائم القصاص والحدود والجرائم ضد الإنسانية وتقويض النظام الدستوري و جرائم الحرب، وكرس وجود هذه العقوبة بالمطلق في حق من هم بين الثامنة عشر والسبعين من العمر، في مخالفة بينة للإتجاه العام الرامي للتخلص من هذه العقوبة، وتكريس لنهج القوانين الدينية التي سنها نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م، وبالمحافظة على نهجه التمييزي القائم على الفقه والتقسيم التاريخي للجريمة.
  • نص المشروع على حرية العقيدة والعبادة ، ولكنه قيدها بما ينظمه القانون في مجتمع ديمقراطي . ولا ندري لماذا تم التقييد وما المقصود بالمجتمع الديمقراطي هنا. فوق ذلك ، لم يشتمل النص على الحق في ترك المعتقد والخروج منه كجزء أصيل من هذه الحرية، يجب النص عليه في الدستور لإغلاق الطريق بشكل واضح في وجه التشريع لجريمة الردة المزعوم أنها حد في الشريعة الإسلامية، وفقاً للإجتهاد التاريخي للمذاهب الفقهية المعلومة. ذكر هذا الأمر نصاً ضروري، حتى لا يتكرر تشريع مادة مثل المادة (١٢٦) من القانون الجنائي سيئة الذكر.
  • النص على تقييد حرية وإستقلالية الصحافة والحق في التعبير والوصول للمعلومات بضمان حقوق الآخرين وحرياتهم وفقاً لما ينظمه القانون في مجتمع ديمقراطي، يؤسس للتقييد المرفوض من حيث المبدأ، ويفتح المجال أمام تأويلات متعددة للمفاهيم. الأفضل كان ترك هذه الحقوق بدون قيود، حتى لا يتمكن المشرع العادي من تقييدها وفقاً لفهمه لطبيعة التقييد.
  • تقييد وسائل الإعلام بعدم نشر خطاب التمييز والإزدراء على أساس النوع أو الدين أو الإثنية، يعني فتح الباب أمام تجريم هذه الوسائل بتهمة الإزدراء التي لا تعريف منضبط لها، والتي تسمح بحشر أي تصرف نقدي تحتها طالما لم يرق إلى الجهة التي تدعى الضرر. وهذا يكرس لإستمرار الحال كما هو عليه، ومنع أي مساهمات جديدة أو ناقدة. والأصح بالطبع ، هو عدم الإعتماد على هذا المصطلح الفضفاض، والبحث عن مصطلح منضبط يجمع بين الإساءة مع وجود القصد الجنائي للتحقير، مع التفريق بين النقد – بما فيه النقد الساخر – والهجوم غير المؤسس بقصد جنائي. بغير ذلك سيظل النص تفويضاً للمشرع العادي للإعتداء على حرية التعبير.
  • ترك المجال للقانون لتنظيم تسجيل الجمعيات المنظمات والنقابات والإتحادات المهنية وفقاً لما يتطلبه المجتمع الديمقراطي، أمر خطير وسلبي على الحق في التجمع والتنظيم. وذلك لأن القيد الوارد على حق التسجيل مبهم، لأنه يفترض وجود مجتمع ديمقراطي معرف ومثالي يرتكن إليه عند تطبيق القيد. والصحيح كان هو أن يتم النص على أن هذا التسجيل “كاشف” وليس “مؤسس” لوجود التنظيم، وأنه لا يؤثر بأية حال على مشروعيته وحقه في ممارسة نشاطه.
  • حظر المشاركة السياسية على قيادات وأعضاء حزب المؤتمر الوطني المحلول وجمعياته ومنظماته وواجهاته فقط، أمر غير جدي وغير موفق. والصحيح هو حظر ممارسة النشاط السياسي على العسكريين في الخدمة، ومنسوبي الأجهزة الأمنية، والجنجويد إبتداءاً، بإعتبارهم أسباب الأزمة و الإنسداد السياسي الراهن، ومن ثم التأكيد على حظر المؤتمر الوطني لأنهم بقاياه الفاعلة والمؤثرة في المناخ السياسي. أو على أقل تقدير، إلحاقهم بحظر هذا الحزب كشرط مكمل للحظر.
  • إجازة إكتساب السوداني جنسية بلد آخر، تم تقييدها بالتنظيم القانوني لها. وهذا يعطي المشرع العادي سلطة واسعة في التقييد إستناداً لدعاوى التنظيم، ويمكنه من إقصاء وإستبعاد الكثير من المواطنين الحاصلين على جنسيات أخرى ألجأتهم لها دولة الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م، وإسقاط جنسياتهم. كان الأفضل هو أن يتم التقييد بنص صريح على اكتساب جنسيات الدول التي في حالة حرب مع السودان، أو التي تم الإعلان بأنها عدو للبلاد.
  • لم تعرف المادة (٣٤) الفترة الإنتقالية، ونظمت فقط مهامها، ونسبتها لأجهزة ومؤسسات الفترة الإنتقالية، دون تحديد واجبات كل جهاز وطبيعة دوره. وفي هذا تعميم مخل، وتغييب لطبيعة المرحلة الإنتقالية وإخفاء لطابعها الثوري وشرعيتها الثورية. كذلك ترك النص تفكيك بنية نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م للقانون لتنظيمها، وفي هذا قصور كبير. والمفروض هو أن يحدد النص آلية التفكيك (لجنة أو هيئة تفكيك مثلاً)، ويحمي سلطاتها في متابعة الأموال ومصادرتها، مع منح الحق في إستئنافات قراراتها، وإستثنائها من النظام العام للقرارات الإدارية، وقصر التظلم من قراراتها على النظام الذي ينص عليه قانونها، ويمنع السلطة التنفيذية من حلها، ويخضعها للرقابة التشريعية فقط، بالإضافة للمراجعة القضائية لقراراتها. كذلك كان يجب النص على أن عبء إثبات نظافة الأموال يقع على الشخص المعني، طالما ثبت إنتمائه للجهات المتمكنة. أيضاً لا بد من تمكين الآلية من النظر للتمكين في جميع الأجهزة بما فيها القضائية التابعة للإنقاذ صراحةً لا إشارةً، حتى لا نسمع مزاعم الفلول المبنية على إستقلال القضاء في الدفاع عن القضاء غير المستقل. كل ذلك يجب أن يكون دستورياً، وألا يترك للقانون، حتى تتم حمايته و تحصينه. وبالطبع لم تقم المادة (63) بتغطية كل ما هو مطلوب و إن تصدت لبعضه.
  • لم يحدد المشروع من سيقوم بإصلاح أجهزة القوات المسلحة والشرطة والمخابرات العامة، ولم ينص على حل جهاز المخابرات التابع لإنقلاب الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م، كما لم يعط السلطة التنفيذية التي يجب أن تتبع لها هذه الأجهزة هذه السلطة صراحةً، ويمكنها من القيام بعملية إصلاح ثورية، ولم ينص على إعادة المفصولين من الخدمة في هذه المؤسسات الهامة، الذين بدون عودتهم وقيادتهم لعملية الإصلاح هذه، يستحيل أن يكون هناك إصلاح.
  • لم ينص المشروع في التنمية الاقتصادية على الإعتماد على الذات والموارد الاقتصادية ، بل نص فقط على وضعها ضمن إطار خطة إسعافية، كما لم ينص على رفض التبعية الاقتصادية ، وإكتفى بنص مبهم عن وضع خطط وآليات لضمان كفالة العدالة الاجتماعية، دون أن يكلف نفسه بتوضيح كيفية إمكانية فعل ذلك في ظل تبعية مطلقة للمؤسسات المالية الدولية، وللدول الإقليمية النافذة.
  • في العدالة الإنتقالية أحالنا المشروع لمفوضية تكون ولقانون يصدر لوضع خطة قومية لتنفيذ العدالة، كما أوكل أمرنا لقرار من مجلس الوزراء لدعم أو إعادة تشكيل اللجنة القومية للتحقيق في الإنتهاكات التي ارتكبت في ٣يونيو ٢٠١٩م. وهذا وضع يجعل إحتمال إستمرار اللجنة العاجزة الحالية كما هي، أو إضفاء مسحة من التجميل عليها لا يغير طبيعتها، وكل هذا لن يقود إلا لإهدار العدالة والإفلات من العقاب. فلا تكوين المفوضية ولا إعادة تشكيل اللجنة، يكفي لجلب المجرمين المتنفذين للعدالة. لا بد من العمل على نص يلزم الدولة بالركون إلى التحقيق الدولي والقضاء الجنائي الدولي، بوصفها عاجزة عن تحقيق العدالة في ظل الأوضاع السائدة، من أجهزة عسكرية وأمنية متنفذة، وقضاء غير مستقل تابع لها. هذا الأمر ينسحب على اللجان الأخرى المزمع تكوينها أيضاً.
  • نص المشروع مجدداً في المادة 034-5) على الإلتزام بإنفاذ إتفاقية جوبا للسلام، وهو إلتزام لا يخفف من وطأته الحديث عن تأسيس لجنة لتقييم وتقويم الإتفاقية، لأنه يكرس مبدأ المحاصصة ويقرر صحة النهج الذي قامت عليه الإتفاقية، ويمنع من تحقيق سلام حقيقي يعالج مشكلة مواطن دارفور المتضرر بدلاً من تمكين الحركات المعادية للشعب السوداني. وهذا الإلتزام وحده يكفي لتحديد طبيعة القوى التي تقف خلف هذا المشروع، كما يكفي لرفضه بإعتباره يقنن إستمرارية الحركات المسلحة المتحالفة مع اللجنة الأمنية الإنقلابية في السلطة الإنتقالية القادمة.
  • تكوين المجلس البتشريعي في المادة (39)، يعكس توجهاً واضحاً للتسوية مع نظام الثلاثين من يونيو 1989م ويؤسس لشراكة على المستوى التشريعي. فهو ينص على تمثيل واسع لمكونات الشعب السوداني بما فيها القوى السياسية والمدنية والمهنية ولجان المقاومة والطرق الصوفية والإدارات الأهلية وأطراف العملية السلمية الموقعة على الإعلان السياسي، ويستثني فقط أعضاء المؤتمر الوطني المحلول. وهو بهذا يشمل كل القوى الداعمة للإنقلاب الحالي، وكل القوى المصطفة خلف مبادرة اللجنة الأمنية التي تسمى مبادرة الجد، بل حتى الأحزاب الشريكة في حكومة إنقلاب الثلاثين من يونيو 1989م لحين سقوطها، طالما أنها موقعة على الإعلان السياسي الذي لم يعرف في هذا المشروع. ولا نظن بأن هناك نص فاضح لعملية التسوية ومؤسس لشراكة دم جديدة أكثر من هذا النص. فبدلاً من أن توزع مقاعد المجلس التشريعي على قوى الثورة، يتكرم النص بحشر القوى المضادة للثورة بينها غير هياب ولا وجل!! .

أيضاً لم يوضح المشروع مآل السلطة التشريعية في حال لم يكون المجلس التشريعي في خلال الشهر المنصوص عليه ، ولا من سيختار أعضاؤه خلال تلك الفترة الدستورية، وفي هذا مرونة واسعة نسمح بتمرير التسوية والشراكة، وتؤسس لتغييب المجلس التشريعي كما حدث سابقاً.

  • النص على إستقلال السلطة القضائية قبل تثبيت عدم إستقلالية السلطة القضائية الحالية وضرورة إعادة هيكلتها ضمن إجراءات إزالة التمكين، يعني منح هذه السلطة سلاحاً تدافع به عن عدم إستقلاليتها. وبدون النص صراحةً على مراعاة عدم إستقلال السلطة القضائية الحالية ووجوب إعادة هيكلتها لتصبح مستقلة ضمن إجراءات تفكيك التمكين وتحصين تلك الإجراءات دستورياً، يحصن النص الهيئة الحالية ضد إجراءات التفكيك ويمنع من بناء قضاء مستقل.
  • واصل المشروع تبني بدعة المحكمة الدستورية المستقلة المنفصلة عن السلطة القضائية التي سنتها الإنقاذ لتسييس القضاء الدستوري، دون أن يبين ما هو الخلل في وجود دائرة دستورية في المحكمة العليا تختص بالنظر في دستورية القوانين، مثلما كان العمل عليه قبل إنقلاب الثلاثين من يونيو 1989م، ومثلما هو الحال في اليمن والإمارات وليبيا ودول أخرى. علماً بأن وجود الدائرة الدستورية سابقاً ضمن إستقلالها وفقاً لإستقلال الهيئة القضائية، وأن التجربة القصيرة بعد سقوط نظام المخلوع البشير، أثبتت تعقيدات تعيين المحكمة المستقلة المزعومة ولا جدواها. والسؤال هو : لماذا يصر المشروع علآ وجود محكمة دستورية مستقلة بعد كل ذلك؟.
  • النص على تبعية القوات المسلحة للقائد الأعلى ، يحتم النص على أن يكون هذا القائد الأعلى هو رئيس الوزراء، حتى لا يتم التحايل على هذا الأمر وإخراج القوات المسلحة من سلطة الحكومة والجهاز التنفيذي. وسكوت نص المشروع عن ذلك، يشي بتسوية ما مع العسكريين لجعلهم فوق سلطة الحكومة وخارج إدارتها. النص العام على خضوعها لقيادة السلطة المدنية غير كاف لعموميته، ويجب إخضاعها لرئيس السلطة المدنية صراحةً ودون لبس.
  • الإعتراف بقوات الدعم السريع (الجنجويد) والنص على دمجها في الجيش، يخالف الإرادة الشعبية التي تنادي بحلها، بوصفها مليشيا تابعة لنظام الثلاثين من يونيو 1989م، وإدماجها في القوات المسلحة مخالف للأسس الدولية في التعامل مع المليشيات من نوعها، وهو يؤدي إلى ويتعارض مع قومية القوات المسلحة المنصوص عليها في المادة (69) من المشروع نفسها، بإعتبار لأن هذه المليشيا قبلية وتخل بالتوازن المطلوب في تكوين القوات المسلحة وفقاً للنص نفسه!! وبالطبع وجود مثل هذا النص المعيب بالإضافة إلى حقيقة أن المشروع كله في جوهره تسووي، يفسر ما ورد بالأسافير من تأييد زعيم الجنجويد له.
  • النص في المادة (73) على إنشاء مجلس للأمن والدفاع في الدستور مع ترك تحديد تكوينه ومهامه واختصاصاته للقانون، مع النص في المادة (69) على وجود ممثل للقوات المسلحة في هذا المجلس الذي يرأسه رئيس الوزراء، يشي بممارسة لا أصل لها في دساتير الدول المعتبرة سياسياً ديمقراطية. ففي كل الدول المذكورة لا توجد مثل هذه البدعة، حيث يتبع مجلس الأمن والدفاع للرئيس في النظم الرئاسية، ولرئيس الوزراء في النظم البرلمانية، كإدارة حكومية، لا ذكر لها على مستوى دستوري. وظهوره على مستوى الدستور، أسس له دستور مصر في الخمسينات من القرن الماضي، في إطار دولة إستبدادية معلومة. كذلك ماورد بالمادة (69)، يؤكد أن التكوين لم يترك للقانون كله كما تقول مادة الإنشاء، بل تم إستباق هذه المادة بتعيين ممثل للقوات المسلحة!! وبما أن مهام وتكوين وإختصاص هذا المجلس مجهولة ومتروكة للقانون الذي سوف يسنه المجلس التشريعي الهجين أو ربما يسن قبل ذلك بواسطة السلطة الإنقلابية الحالية تحت مسمى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي إقترحه البرهان، فمن المرجح أن تكون مهام وصلاحيات وإختصاصات هذا المجلس فوق السلطة التنفيذية نفسها، ورئاسة رئيس مجلس الوزراء لن تكون أكثر من واجهة للسلطة الفعلية التي سكت المشروع عن تحديدها، ونص على القوات المسلحة فقط من ضمن مكوناتها.

الصحيح طبعاً هو حذف هذا النص جملةً وتفصيلاً، وترك أمر تكوين مثل هذا المجلس لرئيس مجلس الوزراء، بإعتباره هيئة إستشارية تنفيذية تابعة له، تعينه في المسائل التي يستشيرها فيها وتنفذ تعليماته. فوجود مثل هذا النص مقروءاً مع مشروع الإنقلاب في إيجاد جسم فوق السلطة التنفيذية، يجعل من هذا المشروع وثيقة تمهد لمفاوضات تسوية قادمة، تؤسس لشراكة دم جديدة منكورة بشدة، ولكن مقوماتها موجودة في هذه الوثيقة المباركة من المجتمع الدولي، والتي تمثل أقصى درجات الخداع براعة، ولكنها لن تنطل على أحد.

بقي أن ننوه إلى أن المشروع أكثر من تكرار ضابط المجتمع الديمقراطي ، متوهماً أن هذا الضابط أو القيد كاف لحماية الحقوق والحريات. وهذا الوهم لا أساس له من الصحة، حيث أن إسرائيل دولة الفصل العنصري تدعي أنها مجتمع ديمقراطي، ودولة ولاية الفقيه أيضاً تدعي ذلك. الصحيح هو أن القيد – إن وجد – يجب أن يكون دولة سيادة حكم القانون في ظل وجود ضماناتها الأربع، من إستقلال قضاء وحق تقاضي ودستورية قوانين وتنفيذ أحكام.

ما تقدم هو مجرد ملاحظات أولية على مشروع الدستور المنسوب للجنة تسيير نقابة المحامين، لحين توفر الوقت لتقديم دراسة علمية تفصيلية حوله، توضح عواره وإتصاله الوثيق بمشروع التسوية السياسية لقوى الحرية والتغيير (قحت)، المدعوم دولياً والمرحب به من الإنقلاب المتهالك المعزول.

وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله!!! .

 

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. برافو د.أحمد عثمان على هذه الملاحظات وأوافقك عليها جميعاً تقريبا مع بعض الملاحظات التكميلية – وأول هذه الملاحظات هي وجوب الانتباه لعبارة (وفق ما ينظمه القانون) حيثما وردت، فهي تحيل إلى أو تفترض وجود جهات تشريعية تقوم باصدار قوانين أو قرارات تنظيمية لأنشطة وتصرفاتمعينة أو مهن وحرف أو نقابات – وهي اللوائح – وهذه بطبيعتها ليست قيوداً على الحقوق والحريات حتى لأعضاء المهنةأو الحرفةأو النقابة أوعامة الناس، أو هكذا يجب أن تكون ولكن قد لاحظنا أن الأنظمة الاستبدادية تستغل هذه القوانين اللائحية أو التنظيمية في دس القيود والانتقاص المباشر من الحقوق بل والتجريم أحياناً – وحيث أن القيود التنظيمية المهنية العادية والتقليدية لا غبار عليها ولا خطورة واذا حدثت تجاوزات فالقضاء المدني العادي والاداري كفيل بضبط التجاوزات – أما مثل هذه التجاوزات المقننة مسبقاً بمثل عبارة (ما ينظمه القانون) فيجب حذفها من مشروع أي دستور أو قانون لحماية أية حقوق – فحماية الحق لا تقبل اطلاقا الانتقاص منه بأي شكل كان خلاف حدود ممارسته المعلومة والتي تعلم المحاكم الطبيعية تجاوزاتها من عدمها.
    بالنسبةلاكتساب الجنسية تقول (كان الأفضل هو أن يتم التقييد بنص صريح على اكتساب جنسيات الدول التي في حالة حرب مع السودان، أو التي تم الإعلان بأنها عدو للبلاد.) – طبعا لا توجد دولة في حالة حرب مع السودان خاصة الدول الأوربية والأمريكية واستراليا وخلافها – فيجب الاشارة إليها بدول الملجأ أي التي لجأ إليها السوداني – من تحقيق في حالته غير التحقق من فترة اللجوء
    بالنسبة لعقوبة الاعدام فيجب ابقاؤها فقط بالنسبة للقصاص في النفس فهو حق خاص وفقا للشريعة والطبيعة للضحية ولأنه يوْرِث الثأر والانتقام إذا تصرفت فيه الدولة بغير رضا الضحية – فلزم الاحتفاظ بالقصاص لأولياء الدم إن شاءوا عفوا وإن شاءوا أمضوا. أما الجرائم السياسية فليست جرائم معتبرة شرعاً غير البغي وخلافها يعتبر من التعازير ولا يجوز أن تبلع عقوباتها حد القصاص في النفس على الصحيح – ويستثنى من ذلك القوانين العسكرية (جرائم المؤتمنين على السلاح)
    ونواصل

  2. جيد ان يتصدى القانونيين لهذا المشروع ، انا كان فى رايى ان ينشر هذا المشروع على القانونيين وعلى الصحافة ومراكز البحث ، وعلى السودانيين عموما قبل ان تقوم اللجنة التسييرية لنقابة المحامين ( مع انه فى بعض اعضاء اللجنة تبرأوا منه ) قبل ان تقوم بتسليمه للجنة الرباعية الدولية ، فولكر وغيره ، اهل البيت اولى ان يبدوا رأيهم فيه وينتقدوه ويحللوه ومن ثم بعد ذلك وفقا لهذا النقد والتحليل تعدله هذه اللجنة ، لكن ان تتجاهل اللجنة الرأى العام المحلى وتقفز مباشرة للخارج فهذا عيب كبير ما كان عليها ان ترتكبه . المشروع به كثير من الثغرات القانونية ، وقبل الثغرات القانونية ، تضمن تثبيت اشياء مثار جدل حاليا ، مثل اتفاقية جوبا للسلام ، ثبتها هذا المشروع وجعلها جزءا من الدستور ، لا اعرف من الذى اعطاهم هذا الحق ، بالرغم من ان الجميع حسبما هو ظاهر قد ضجوا من هذه الاتفاقية ونتائجها ( الا بالطبع امراء ولوردات الحرب ) ، على اى حال العيب الاكبر وضع هذا المشروع ام غمتى هكذا

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..