مقالات سياسية

الفساد السياسي – ممارسة رسخها نظام المؤتمر الوطني وتسربت الي بنية الوعي السياسي الجمعي

الهام عبدالخالق

 بلا شك أن الردة عن الثورة ومبادئها تجلت في اوجه عديدة ابتدأ من القتل الممنهج الذي استهدف الثوار الفاعلين في لجان المقاومة والتنظيمات القاعدية الاخري وغيرهم من الشباب المؤثرين في صفوف الثوار والاعتقالات، مرورا بتهريب ثروات الوطن عبر اجهزة المخابرات العالمية وأمن دول الاقليم انتهاءأ بممارسات مجلس البشير الأمني في اعادة هيمنة تنظيم المؤتمر الوطني واتباعه ممن كانوا في الخدمة المدنية واعادة التمكين في ابشع صوره.

المتأمل لما يحدث الان في صفوف الخدمة المدنية والعامة من تعيينات واعادة مفصولين لربما يتخيل نفسه يعاني من حالة (ديجافو) أو (الاحساس برؤية مرتجعة) أي تكرار حدث في الذاكرة قد ترتبك في انك قد شهدت احداثه بحذافيرها من قبل. فهذا بالضبط ما درج نظام المؤتمر الوطني علي ممارسته دون ان يطرف له جفن. فقبل اكثر من اسبوع  قام  (جنقول) محافظ البنك المركزي بترقية بعض عناصر النظام البائد من عضوية المؤتمر الوطني والموالين الي البنك المركزي وابعاد محمد عصمت رئيس لجنة تفكيك التمكين بالبنك بنقله الي مدينة الضعين . الجدير بالذكر ان هذا الجنقول هو اخر محافظ للبنك في عهد المؤتمر الوطني . فهاهو سيناريو التمكين يعيد نفسه بصورة أكثر قتامة. فمن كان يتخيل أن هذا احد مآلات ثورة ديسمبر الفتية؟ .

كما اننا قد طالعنا الاسبوع الماضي وثيقة صادرة من مكتب وزير المالية يعفي فيها سيارة ابن اخيه من الضرائب الجمركية. وحين سئل عن ذلك تذرع بأنها  تقع تحت بنود استحقاقات اتفاقية جوبا المزعومة في اقبح مسوغ لفساد واضح وضح شمس النهار.

يمكننا أن نقول أن جبريل وجنقول ينتميان للمدرسة التمكينية التي أسسها ورعاها وادخلها الى دهاليز العمل السياسي والخدمة المدنية انقلاب الجبهة الاسلامية القومية. وان احد اهم اسباب قيام الثورة السودانية كان حتى تضع حدا للنهب المؤسسي الذي ولغ فيه خريجي المدرسة التمكينية من كيزان وانتهازية .ولكن أن نطالع في هذه الايام خبرا اخر مفاده الغاء المحكمة العليا لقرار رئيس وزراء الفترة الانتقالية حمدوك  والقاضي بتعيينات وزارة الخارجية في أكتوبر ٢٠٢١ .حيث  ألغي القرار بعض التعيينات التي طعن فيها بعض من دخل معاينات الخارجية في زمن المنصورة . حيث احتوي كشف التعيينات علي راسبين في امتحانات الخارجية في حين تم استبعاد بعض الناجحين عن هذا الكشف .  

بتأملنا لهذه الأحداث (على سبيل المثال لا الحصر) يمكننا ان نضع ايدينا بكل سهولة على خلل أساسي في الممارسة السياسية في السودان بشكل عام وبصورة خاصة علي ارتباط هذا الخلل بالتركيبة الاجتماعية القيمية والنفسية للغالبية العظمى من هؤلاء المنخرطين  في الخدمة والعمل السياسي .  ولا أعني هنا الخوض في مآلات الثورة وحركة التغيير الاجتماعي الدؤوبة بقدر ما أهدف الي تسليط الضوء على خلل مفاهيمي في قضايا الثورة والعدالة الاجتماعية والنزاهة المطلوبة لتحقيقها. وهذا الخلل ضارب بجذوره في بنية الوعي السياسي والاجتماعي لطيف واسع من القوي السياسية التقليدية.بل أن هذا الخلل مسئول بشكل تام عن واقع السودان السياسي والاقتصادي وانعكاس هذا على حياة كل انسان سوداني في اي شبر من هذا العالم .

من الخطأ ان نقول ان ضرر الممارسة التمكينية في حالة جنقول لهي أكثر وقعاً وخطرا من الممارسة الثانية في زمن حمدوك.. فجوهر الفساد واحد والدافع لهذا الفساد واااحد وهو اللعب في ميزان القوى لمصلحة السلطة الحاكمة ويطلبه المحسوبية وسياسة التمكين . والفساد السياسي كما عرفه باسم الزبيدي في كتاب الفساد السياسي : إعادة النظر في المفهوم “هو استحواذ علي الموارد وصيغة تسويغ لمنح الامتيازات وتأمينها واستدامتها ومنحها المقبولية من جهة ، والطعن بشرعية رفضها من جهة أخري. بذلك يصبح الفساد السياسي فضاء من التعارضات (الأيدولوجية وسواها) كونه يستبطن تناقض مصالح وقيم من يُسيطر ومن هو مسَيطر عليه… “انتهى الاقتباس

 تلك الممارسة الفاسدة والمعطوبة تأتي من عقلية ونفسية خربة محدودة الافق وتفكر في الكسب الشخصي والحزبي الآني وهي تتميز بقصر النظر  الذي لا يستفيد من الدروس المستقاة عبر تاريخ من الممارسة المشوه التي أودت بالبلاد لهذه الحال . حين صرح بعض أعضاء الحكومة الانتقالية في معرض نقدهم للتجربة السياسية خلال تلك الفترة بأنهم لم يكونوا ناضجين ومستعدين سياسيا ومعرفيا لادارة هذه الفترة الحرجة في تاريخ البلاد . اري ان هذا القصور وعدم الاستعداد يعود بالأصل لعدم فهمهم أن الثورة لن تكون ثورة الا اذا ثارت علي ادوات وسلطة النظام القديم ومصالح الطبقة المسيطرة الحاكمة التي سيطرت بالكامل علي مصالح الجماهير . وإن اول معالم الثورة تظهر في مكافحة الفساد واسترداد المسلوب ماديا ومعنويا واعادته الشعب. والتأسيس لمنهج عدالة اجتماعية حقة غير قابلة للمساومة. ولكن واقع الحال أثبت غير ذلك.  فمن أتوا استخدموا بعض ادوات النظام السابق والتي للاسف اعتقد انها ترسخت عبر ال٣٠ عاما من الفساد الذي ضرب جسد الخدمة المدنية والعامة . وبدلا عن الانتباه لذلك تمت إعادة إنتاج لبعض وجوه الفساد التي تمثلت في أوجه عدة. أن الوعي الثوري الذي يتراكم الان  ينفذ إلى جوهر الازمة التي تمثلت في تقاصر الوعي السياسي بقضايا العدالة الاجتماعية والتغيير الثوري المرجو .

حقاً ان ثورة ديسمبر المجيدة ثورة عملاقة اشعلها شعب مؤمن ومتطلع للعدالة الاجتماعية ليقودها حفنة قليلة الوعي تعاملت مع مكتسبات الثورة باستهتار غير مسبوق .

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..