رحيـــــل

رحيـــــل

استيلا قايتانو

قرر أن ينبذ اليأس الذي عشعش في داخله عناكب في غرفة مهجورة ، وأن يدفن حزنه حياً بين طيات جروحه ، رمى بكل آلامه في غياهب الذاكرة.
خرج ليبدأ حياة جديدة في وحل الذكريات المنسية ، إستقل سيارة عامة وهو يرسم على وجهه إبتسامة تعبر عما في داخله من فرح ، فرح لإنتصار على كل ما يؤلم أو ما يوُقظ الأشجان ، ناسياً وفاة زوجته الشابة ، وغرق إبنه الذي لم يتعدى العام في بالوعة المنزل نتيجة إهماله ، فُصل من العمل لإصابته بحالة نفسية عصبية.

جلس على المقعد مواجهاً الركاب ، أخذ يبحث بين خلجاتهم عن الأمل والفرحة ولكن إزداد فرحاً ، لأنه يختلف عن كل الجالسين ، أتت إمرأة أبنوسية اللون زنجية التقاطيع ، وإستوائية الملامح ، ذات شلوخ في شكل نجمة كثيرة التفرعات تزّين خدودها الذابلة تحمل رضيعاًَ لا يقل عنها نحولاً وهزالاً .

نهض من مقعده أسندها حتى جلست ، يداها خشنتان ، عمل فيهما الشقاء ما عمل ، أحس بأنه يريد توزيع تلك الغبطة التي يشعر بها على كل الركاب ، أعاد النظر إليها ، شفاة جافة حزن أصفر معتلياً عرش وجهها ، عيون منكسرة ، قرار آخر أراد معرفة أسباب حزنها وإسعادها مهما كلفه ذلك. حدّس أن الطفل مريض ولابد أنها ذاهبة به إلى المستشفى ، ولا تملك نقود كافية .

في تلك اللحظة تحسس جيبه ليطمئن على نقوده ، قال بينه وبين نفسه : سوف أكون معها حتى تعالج الطفل ، وسوف يتغذى جيداً ، وسوف تعود صحته وعافيته ، لابد أنه طفل جميل ذو خدود مثل ثمرة الطماطم ، سوف أقبله كثيراً حينها ، وأدغدغه كثيراً لأسمع ضحكة طفل متقطعة ذات شهققات صارخة.

رقصت أساريره عندما مرت هذه الأفكار برأسه ، توقفت العربة لإنزال أحد الركاب ، أتى بائع متجول يحمل أنواع شتى من الحلويات ينادي بمشترياته حتى إنزعج الركاب ، هو الوحيد الذي أطربه البائع ، أخرج فئة مالية وإشترى مجموعة كبيرة من الحلوى ذات ألوان كثيرة أصفر وأحمر ، أخضر ، وأشكال بيضاوية ودائرية. تحركت السيارة ومروحة سعادته تزداد إضطراباً ، قدم لها الحلوى وهو يخاطبها بطريقة ذات ركاكة مفعمة بالرجاء: خذي هذا من أجل الطفل ، كان مبتسماً إبتسامة مضطربة خوفاً من الرفض ، قالت بلغة أكثر ركاكة: جنا دي موتو كلاص .. (لقد توفى هذا الطفل) ، رشحت طفلها بنظرات تحمل كل الأسى ، ثم دموع ساخنة تنهمر نحو الجثة الصغيرة كأنها تريد إغتساله ..

دارت الدنيا أمام عينيه وأظلمت ، أصبح يرى كل شئ عبارة عن أشباح تسبح في دموعه التي أستقرت على مقلتيه دون إنحدار ، نزل عن العربة وأخذ يسير في خطى متعثرة هائماً على وجهه في شوارع العاصمة المزدحمة والمليئة بأبواب السيارات القادمة كالأصداء من بعيد .. بعيد جداً. ساقته قدماه إلى شاطئ النيل ، وقف يحدق في الماء ، أمواج تولد فجأة وتموت منتحرة تحت قدميه ، صور لطيور رسمت على صفحة النيل فاردة أجنحتها مرفرفة معلنة بالرحيل ، أسماك تضرب أحشاء النيل بزعانفها سابحة نحو الرحيل ، شمس منحنية في الأفق تجمع أشعتها عن وجه الدنيا إرهاصاً بإنتهاء يوم لتحبل بيوم جديد.
إجتاحه حزن ذا جذور ضربت في أعماقه لهذا اليوم الراحل ، شعر أن أصابعه قد إلتحقت ببعضها البعض ، فتح كفه فإذا بالحلوى ما زالت هناك ، كان مطبقاً عليها بقوة عجيبة ، حتى عرقت كفه وذابت ألوانها وأختلطت أصفر في أحمر ، أخضر في أزرق ، أحمر في أخضر ، أقامت الحلوى مأتماً بدموعها الملونة على كفه ، قال من خلال إبتسامة ساخرة يائسة تحتضر في جانب ثغره ، هذه أيضاً حلوى لطفل رحل.

تعليق واحد

  1. استيلا يا امراة وقف الابداع عند بابها وافرد اشرعته لها، فحلقت بنا في سماوات الواقع المجنح..
    الف حمد لله على سلامة العودة الباذخة والمترعة بعبق الابداع..
    مبدعة حتى الثمالة وانت تصفين المقهورين والمهمشين في اطراف المدن المنسية وقد قهرهم الفقر والاملاق والعوز والهجرة والنزوج والمحل وافاق المستقبل المسدودة.
    ما أبأسنا بدونك..!!
    ———–
    اخفتني بعنوانك فظننتك راحلة انت الاخرى..هل ستفعلين؟

  2. لبرهة توقفت عن التنفس محاولا استرجاع التفاصيل التى سيطرت على تماما….وسرحت بعيدا بحثت عن الانسان بداخلى وأسئلة حيرى كثيرة تطرق ابوب العقل..املا فى العودة من هذا القاع المظلم ببعض الحصى ان ضنت الجواهر………

  3. استيلا الأبنوسية لكي مني كل التحايا، ما أقسى الرحيل عندما تكتبين ممزوجاً بجميل المعاني والحزن الذي ينطق به كل حرف في مقالك. أقرأ مقالاتك كلمة كلمة واستمتع بما تكتبين

  4. لقد قرأت مقالك اكثر من مرة متأملا فيه ذاك العمق الانساني والهزات الوجدانية العميقة التي حواها…كانني رايت تلك المرأة مرات ومرات متوشحة بالصبر الذي لم يسعفه الامل

  5. نعم هكذا تكتب القامة الأبونسية لتجسد حياتنا الغابرة لترى رؤى العييان, حقا انت قامة ونأمل أن نشتم من عبيرك الفواح كل صبح ومساء.

  6. استيلا ايتها الانسانة المرهفة المشبعة بطيبة واصالة ولون ورائحة السودان –رجاء لاترحلي عنا وكوني وحدويا ايا كان فنحن نعشق ونحب كل الذي تكتبين وان قل – فكوني سودانا كما عهدناك من كتاباتك – ولماذا لا تكتبين عن السودان الواحد – فلا ترحلي عنا فنحن نحب كتاباتك ونحب شخصك فلا ترحلي ……………………..

  7. يا أختاه ، أنت كنت لنا خير معين في كتاباتك الواقعية بأسلوب جزل ، و كنت دوماً أقراء ما تسطر به أناملك ، و لكن حسرتتي تذداد بعنوان هذا المقال (الرحيل ) ليت يكون رحيلاً داخيلياً في النفس ، و ليس الرحيل الموعود من في الواقع الذي هو أمامنا ، لك التحية و التجلى و ربنا يمتعك بالصحة و العافية .;)

  8. ياراحلين إلى جـوبا بغـيابي * مـزقـتمـوا يوم الرحيل فؤادي

    سرتم وسار دليلكم ياوحشتي * الشوق أقلقني وصوت الحادي

    حرمتم جفني المنام ببعدكم * ياساكنين المنحنى والغـابي

    ويلوح لي بين واو ومنقـلا * عند الرحيل سمعت صوت منادي

    ويقول يانائما جِدّ السرى * جوبا تجلو كل قلب صادي

    من نال من جوبا نظرة ساعة * نال السرور ونال كل مراد

    تالله ما أحلى المبيت على جوبا * فى ليل عيد أبرك الأعياد

    ضحوا ضحاياهم وسال دماؤها * وأنا المتيم قد نحرت فؤادي

    لبسوا ثيابا خضر شارات الرضا * وأنا الملوع قد لبست سوداي

    يارب أنت وصلتهم صلني بهم * فبحقكم ياربي فك قيادي

    فإذا وصلتم سالمين فبلغوا * مني السلام أهيل ذاك الوادي

    قولوا لهم ابومـدينا متيم * ومفارق الأحباب و الأولاد

    صلى عليك الله ياسـودان * ماسار ركب أو ترنم حادي

  9. استوقفنى العنوان والاسم واكيد العرق وعندما توسطت السطر وجدتنى اضع لحييى بين اصبعي متوغلا بكل مشاعري ولا ادري لماذا تمثلت شخوص الن باتون فى كتابه ابكى يا وطنى الحبيب اترى هي رمزية اردتيها بنتي استيلا للوحده ولماذا اخترت لها الموت وليس المرض عسي ان يسعفنا حكماءنا بعلاجه ان اللغه هى الية التعبير عن الوشائج والمودة والرحمه بين الناس الذين يربطهم فى الاصل رباط اقوى من رباط الوطن الا هو رباط الروح وذلك لان مصدرها واحد وقد استطعت بلا شك ان تثيرى كل هذه المشاعر فى نفوسنا لتمتزج مع ما فى نفسك ومن اجل ذلك نحن وانتم شى واحد حتى اذا اشططت النفس البشريه وارست الظلم والبخل فى هذه الفانيه سنظل كذلك وان تباعدنافى المكان فوشائج القربي والتاريح لن يمحى لدي كثير من اعراقكم ولتظل استيلا رمزا اصيلا للوحدة التى نريد

  10. المبدعة استيلا سيفتقد السودان الشمالى ابداعك لكن مابالك بابداع عربى فى الجنوب انت نواته
    الان جعلتى للحرف دموعاً تكن دوما سائلة حارة لن يجففها الزمن او يبرد حره التاريخ لواقع حاضرنا العاصف
    اراك محقة قاسية حين تجعلين منا نحن الشعب الجانى والضحية جناة باهمالنا ضحايا بموت احلامنا لكن الموت قدر فوق ارادة البشر ليس لنا الا ان نتقبله فى جلد
    تعالوا نفكر بعد كم عام قادم يمكن تتوحد الدولتين هل اصنع لك رواية خيالية وانتى الجدة العجوز تشهدين مع احفادك ازالة الحدود ومن الجانب الاخر ياتيك الجد الهادى راضى وفى حديث بطعم الشيب تسالينه ماحال منتدياكم فيقول لك والله حق الببسى ما لقينه ثم تتضحكون ضحكة تخرج على اثرها ……………. وتكتب الصحف لم يرحلوا حتى روا الحلم اصبح حقيقة :mad: :mad: :lool:

  11. استيله ايتها الجليلة النبيله الرائعه ان كانت هناك فسحه للامل لادرك صاحبنا المذهول
    المجذوب بفعل تعرية الدهر واجددابه وعزوف الريح عن شتلته التي شتلها في احلامه وسقاها من ماء الامل والرجاء. ولكن حتما للساعين في زحام العاصمه يد في موت ابلسمه في شفاهه وفي شفاه والدة ام الحلم الوليد. اذ عبؤ الشوارع بلارجل المتسخة بالوحل مما جعل السير في عجله نحو تحقيق حلمه عصيا لمن هم في شاكلته ويحلمون بوليدا يهبنوه الحلوي ويدغدغونه حتي تبرز مقدمة العاج الابيض بين فكيه0 ولكن حتما يا استيلا رغم ابواق العسس علي سور المدينه ورغما عن جبن الامواج واندياحها مدا وجزرا علي ضفتي النهر الا انا للنهر ثار قديم مع الامواج حتما حتما ياخذ به في مجلس الشلال وعند زغرودة الجنادل0وعندها سوف ترقص الابنوسه وتتمايل النخلة طربا بذهاب (ود ام بعلو))مع حدة التيار الي عيابات معده سلفا لمن يقفون ضد طبيعة الاشياء

  12. رائعة يا استيلا كروعة بلادي …. كل ما اقراء ابداعك حتما ستكون ابتسامتي يائسة وتتلون اكفي بعرق ملون بالوان شعب اذيبت الوانه في بحور اللاسياسة والفشل

  13. قد عشت دهرا لارى زهرات وطني تتفتح واخيرا تفتحت ولكن
    ياللاسف !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
    سوف تزبل بعد حين
    ((ليس نحن بل انهم هم الجناة!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!))
    مع خالص شكري واعجابي
    التلبي خال اواب

  14. هذا حالنا رحيل ومنافي مطارات ومواني نزرف الدمع دما في الدواخل ونحمل حزننا وطن …من يحس بفرحك وحزنك
    شكرا استلا الحزن احيانا يطهرنا

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..