سوبا …. قصة حضارة عظيمة لم تجد حظها من الاهتمام والتبجيل

أمير شاهين
تخيل معي عزيزي القارئ انه كانت هنالك مملكة عظيمة عريقة في بلادنا منذ العام 500 ميلادي أي انها كانت موجودة قبل ظهور الإسلام بما يزيد عن ال 100عام وهي مملكة علوة النوبية المسيحية وكما يطلق عليها Alodia ويرجع تاريخ مملكة علوة المسيحية، إلى العصور الوسطى (500– 1504)، بعد سقوط مملكة كوش، كآخر الممالك النوبية الثلاث، التي اعتنقت المسيحية بعد مملكتي نوباتيا ومقرة، ويرجح أنها وصلت إلى ذروة مجدها في القرن التاسع الميلادى
كما عرفت المملكة المسيحية، بكونها دولة قوية متعددة الثقافات، استمرت لما يقارب الألف سنة، أدارها من العاصمة سوبا، ملوك أقوياء وحكام محليون يعينهم الملك. وكانت دولة عظيمة مهيبة لا مثيل لها في العالم في تلك الفترة من التاريخ والتي كان يطلق عليها “القرون الوسطى” او العصور المظلمة بسبب ان أوروبا كانت تعيش في تلك الفترة اسوا فترات تاريخها من حيث الجهل ووالتخلف !! , وكانت عاصمة هذه المملكة المهيبة هي مدينة سوبا (سوبا شرق حاليا) جنوب الخرطوم وعلى الضفة الشرقية للنيل الأزرق والتي لا يعرف الكثير من الناس الذين يمرون بتلك المنطقة انه في هذا المكان كانت توجد هنا مدينة من ارقى واجمل مدن العالم في وقتها , واستمرت سوبا تحكم لمدة تزيد عن ال1500 عام وكانت نهايتها على يد جيوش الفونج والعبدلاب عقب استيلائهم وتدميرهم لسوبا في العام 1504م حتى ان خرابها اصبح يضرب به المثل “خراب سوبا” وقيامهم بتأسيس مملكة سنار والتي بدورها استمرت في الحكم الى ان تمت ازالتها بواسطة الغزو التركي المصري في العام 1821م وهكذا هي الدنيا فكل دور اذا ما تم ينقلب , وتخيلوا حجم الدعاية الإعلامية الضخمة في كل أجهزة الاعلام والتسويق والترويج الذى كانت سوف تقوم به دول أخرى لو كانت مملكة مثل علوة في بلادهم ؟؟ .
وما يبعث على الدهشة والاعجاب معا هو تفرد المدينة وجمال شكلها وحسن تنظيمها وثراء أهلها فقد كانت في زمانها مثل باريس اليوم ويتفق معظم الرحالة الذين زاروها على تفرد المدينة فقد كان الوصف في مجمله كالاتي:
“وتميزت العاصمة سوبا بالقصور البديعة والمساكن الواسعة والكنائس الكبيرة والحدائق الجميلة المزدانة بالخضرة، وكمركز تجاري مزدهر، تصل إليه البضائع من مناطق الشرق الأوسط، والغرب الأفريقي، والهند والصين، وعرفت القراءة والكتابة باللغتين النوبية واليونانية“ . وتأكيدا لما ذكره هؤلاء الرحالة في وصف المدينة، فانه في ديسمبر 2021م تناقلت وكالات الانباء العالمية خبر اكتشاف حديقة عمرها 1000 عام فى مدينة سوبا. وأجرى علماء الآثار سلسلة من المسوحات الجيوفيزيائية التي كشفت عن امتداد البلدة على مساحة 494 فدانًا، وتم الكشف عن التنقيب عما تم تفسيره في البداية على أنه منزل من البيانات الجيوفيزيائية على أنه بقايا حديقة سابقة، جاء ذلك بحسب ما ذكر موقع heritage daily. ويمضي الخبر فيقول :
“ان الدكتور درزفيكى من مركز آثار البحر الأبيض المتوسط بجامعة وارسو يقول هذا هو أول اكتشاف من هذا النوع فى سوبا وواحد من بين القليل فى السودان وكشفت الحفريات عن الجدران المصنوعة من الطوب اللبن التي ميزت تخطيط الحديقة، إلى جانب نظام الري على شكل قنوات توفر المياه للمناطق التي نمت فيها الأشجار أو الشجيرات الكبيرة فى الماضي. وبالإضافة الى الحديقة، هنالك سلسلة غرف مبنية من الطوب اللبن، ربما نتعامل مع غرفة مرافق في مجمع أكبر ، ربما نكون قد التقطنا جزءًا من مجمع سكني، والذي تضمن أيضًا الحديقة التي نقوم بفحصها ” ومما لاشك فيه فان وجود مثل هذه الحديقة في ذلك الزمن يعطينا فكرة جيدة عن نوعية الحياة التي كان يعيشها اجدادنا السودانيون في تلك الفترة المبكرة من التاريخ ! .
والملاحظ الان انه باستثناء بعض الشواهد القليلة فان موقع المدينة يكاد يخلو تمام من اية اثار تدل على انه كانت توجد حضارة عظيمة في هذا المكان وربما بتسرب الشك والتساؤل لدى البعض “هل حقا كانت هنا مدينة مهيبة ؟؟” . المختصون يعزون ذلك الى العديد من الأسباب فمنها ان المنطقة تتميز بغزارة الامطار التي تزيل وتهدم المباني الطينية , كما ان جيوش الفونج والعبدلاب قد خربوا المينة تماما في العام 1504م وعند الاستيلاء عليها حيث قاموا بهدم وتحطيم كل المباني والمنشآت فيما عرف بخراب سوبا وهنالك بعض الروايات عن دور المرأة عجوبة التي تسببت في اشعال الفتنة بين حكام سوبا بواسطة مكائدها الخبيثة وجعلتهم يدخلون في منازعات واشتباكات داخلية اضعفت الدولة وسهلت هزيمتها فيما بعد على يد الفونج , الا ان المؤرخين يقولون انه لا سند تاريخى لهذه الرواية ويجب النظر اليها كحكاية شعبية او اسطورة , ولكن من المؤكد ان اكبر إزالة لأثار المدينة تمت عندما استخدم الاتراك بقايا الطوب و ادوات البناء من اطلال مدينة سوبا لبناء مدينة الخرطوم في العام 1824م . كما ان اهمال السودانيين وعدم تقديرهم لأهمية هذا الإرث التاريخي قد لعب أكبر الأدوار الضارة ! وفى مقابلة مع اندبندنت العربية يقول مفتش الاثار السوداني ان أكبر التعديات والاضرار قد وقعت عندما تم شق ورصف طريق العيلفون الذي شطر الموقع إلى نصفين، ودمر تماماً النصف الشرقي منه، عدا عن منطقة صغيرة تضم إحدى الكنائس الأثرية، ما جعلها معزولة وسط منطقة سكنية. كما خصصت 98 من الأفدنة بواسطة السلطات لمستثمر زراعي، تمدد بأكثر من اللازم وقام بعمل حفريات وآبار للري داخل الموقع. ويضم الموقع الأخير المتبقي من العاصمة الأثرية، بقايا كنائس وكاتدرائيات قائمة ومخططة وديراً للرهبان، بينما لا يزال الموقع تحت الاستكشاف والتنقيب، إلا أنه تعرض للتغول والتخريب بواسطة مستثمرين ومواطنين عن طريق حيازة الأراضي، بطرق مشروعة وغير مشروعة!! .
وهكذا نحن في السودان فلم نكتفي فقط بتجاهل تاريخنا العريق المجيد بل قمنا بتخريب ما تبقى منه. فاذا كانت عجوبة على حسب الروايات قد ساهمت في خراب سوبا بمكائدها منذ 522 عام فنحن الان نواصل هذا الخراب ولكن بوسائل ثانية ربما لم تخطر على بال عجوبة نفسها!!.