مقالات وآراء

خدعة احتساب التضخم الكبرى

 

 

الهادي هبَّاني
كثر الحديث عن انخفاض معدل التضخم السنوي حسب تقارير الجهاز المركزي للإحصاء باستمرار وبمعدلات كبيرة خلال الفترة الماضية الممتدة منذ أغسطس 2021م وحتى شهر ديسمبر الماضي. وكثرت أسئلة الأصدقاء والمعارف حول هذا الأمر أو الخدعة الكبرى التي تكاد تكون قد أنطلت على كثير من الناس بالذات المؤيدين والمتعاطفين مع الانقلابيين والفلول والأقلام التي أدمنت التطبيل والتضليل والمدافعين عن سياسات البدوي وحمدوك وعن النيوليبرالية بشكل عام.
وفحوى الخدعة أن انخفاض معدل التضخم في هذا الشهر لا يعني أن الأسعار قد انخفضت، ولكن أن معدل ارتفاعها قد انخفض عن معدل ارتفاعها في الشهر المقابل لها في العام الماضي. وملخص هذه الفكرة تقول أنه إذا زاد سعر كيلو السكر مثلًا من 110 جنيه في أغسطس 2021م إلى 120 جنيه في أغسطس 2021م أي أن معدل التضخم كان في سبتمبر 2021م 9.09% أي حاصل معادلة التضخم البسيطة المعروفة ((السعر الجديد – السعر القديم) / السعر القديم) × 100%)) أي ((120 – 110) / 110) × 100% = 9.09%)) ولكنه في نفس الفترة من العام الحالي 2022م قد ارتفع من 130 جنيه في أغسطس 2022م إلى 135 جنيه في سبتمبر 2022م أي أن معدل التضخم كان ((135 – 130) /130) × 100% = 3.85%)) وبالتالي فإن معدل زيادة التضخم في سبتمبر 2022م البالغ 3.85% كان أقل من معدل زيادة التضخم في سبتمبر 2022م والبالغ 9.09% وهذا يعتبر تحسن طالما معدل الزيادة في حد ذاته قد تراجع. وهذه خدعة كبرى لأن التضخم الحقيقي يحتسب في سبتمبر 2022م استنادًا لسعر الأساس الذي تم احتساب معدل التضخم في السنة السابقة بناءً عليه أي في سبتمبر 2021م وهو سعر كيلو السكر في أغسطس 2021م وليس أغسطس 2022م أي 110 جنيه للكيلو كما في أغسطس 2021م مقارنة ب 135 جنيه للكيلو كما في سبتمبر 2022م. وإذا طبقنا المعادلة البسيطة للتضخم يكون معدل الزيادة السنوية للتضخم هو ((135 – 110) / 110) × 100% = 22.73%)) أي أن معدل التضخم زاد من 9.09% في نهاية سبتمبر 2021م إلى 22.73% في سبتمبر 2022م وليس كما يدعي منطق جبريل وعُصبته. ولكن من المعروف أن تغيير سنة الأساس لأسعار السلع أو لمؤشر متوسط أسعار المستهلك (أي أسعار السلع بشكل عام) كلما حصلنا على انخفاضات متكررة لمعدلات التضخم، وهذه هي الخدعة الكبرى التي تستخدمها الكثير من مراكز الإحصاء المالية ليس فقط في السودان، بل في الكثير من البلدان التي تعاني مشاكل اقتصادية وسياسية واحتجاجات جماهيرية متوالية ويعمها الفساد وهي مربوطة دائمًا بالأنظمة الديكتاتورية مدنية كانت أم عسكرية. فاحتساب معدلات التضخم بشكل صحيح يتطلب تحديد سنة أساس معينة تقاس عليها تغيرات معدلات التضخم خلال فترة زمنية محددة ولا يصح تغيير سنوات الأساس باستمرار أو المقارنة الساذجة بين تغير معدل التضخم في شهر معين عنه في الشهر الذي سبقه على أساس تغير مؤشر أسعار المستهلك في هذا الشهر عنه في الشهر السابق، ومقارنة ذلك بنفس التغير في الأشهر المقابلة لها في السنة السابقة بنفس المنطق الساذج الذي لا يمت للإحصاء والاقتصاد بأي صلة. يحاول جبريل وعصبته وأجهزته التابعة بكل سذاجة اقناع المواطن السوداني والعالم (على أساس المثال السابق) بأن سعر السكر كان في أغسطس 2021م 110 جنيه ووصل في أغسطس 2022م (أي بعد سنة) إلى 130 جنيه ثم ارتفع إلى 135 جنيه في سبتمبر 2022م، وأن هذا الارتفاع من 130 في أغسطس 2022م إلى 135 جنيه في سبتمبر 2021م ليس بالضرورة سيئًا، بل هو تقدم وتحسن إلى الأفضل في أسعار السكر لأن زيادتها جاءت أقل من زيادتها من 110 جنيه في أغسطس 2021م إلي 120 جنيه في سبتمبر 2021م. وحتى إذا افترضنا أن ذلك صحيحًا من الناحية الحسابية، فماذا يستفيد المواطن أو الاقتصاد من ذلك؟ وهل يتوقعون أن المواطن سيتصالح مع فكرة ارتفاع الأسعار وسيهلل لهذه الزيادة لأنها جاءت أقل من الزيادة خلال نفس الفترة من العام الماضي؟ وما هي المؤشرات المفيدة التي تجنيها الحكومة من ذلك وتساعدها على اتخاذ قرارات اقتصادية سليمة والمحصلة النهائية هي أن سعر كيلو السكر قد زاد من 110 جنيه إلى 135 جنيه أي بمعدل 22.73% عن سعره العام الماضي (أو في سنة الأساس)؟. وهي نفس السذاجة التي دفعت بالسيد وكيل أول وزارة المالية بدون حياء أو خجل في المؤتمر الصحفي الذي عقده جبريل بعد عودة وفد وزارة المالية من واشنطن الأسبوع الماضي، بأن ما خرج به من اجتماعات واشنطن هو أن معدلات التضخم في كل العالم شماله وجنوبه وشرقه وغربه في حالة ارتفاع متواصل نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية فيما عدا السودان فهو الدولة الوحيدة دون الخلق جميعًا التي تتراجع فيها معدلات التضخم. ولم ينقصه إلا أن يقول وهذا كله ببركات صفقة اتفاقية جوبا وانقلاب 25 أكتوبر 2021م.
لا تقف الخدعة عند هذا الحد بل تمتد إلى جوانب فنية كثيرة لا ينتبه لها معظم المواطنين، نشير إلى أهمها هنا، وهو التلاعب في قياس الأوزان النسبية للإنفاق الأسري على مجموعات سلع وخدمات سلة المستهلك والتي تدخل في احتساب معدلات التضخم وفق نماذجها الأكثر تعقيدًا ولكنها بالتأكيد لا تختلف عن جوهر المعادلة البسيطة المشار إليها سابقًا، ولكن تضاف إليها أوزان مجموعات سلة سلع وخدمات المستهلك وهي لا تؤثر على آلية المعادلة في حد ذاتها باعتبار أنها مجرد أوزان نسبية ولكنها تؤدي إلى نتائج مضللة إذا كانت هذه الأوزان غير دقيقة ولا تعكس أوزان الإنفاق الأسري على السلع والخدمات أو تعتمد على أوزان قديمة لا تتناسب مع نمط الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي للمواطنين في الوقت الحالي. وهذا ما يحدث في الجهاز المركزي للإحصاء اليوم حيث يستخدم الجهاز أوزان الإنفاق الأسري على السلع والخدمات التي تم مسحها عام 2007م كآخر مسح إحصائي تم لمتوسط الإنفاق الأسري وأوزان مجموعات سلة سلع، وخدمات المستهلك أي استنادًا لبيانات تم مسحها قبل 15 عام ماضية، في حين أن أوزان السلع الاستهلاكية للمواطنين اختلفت اختلاف كبير جدًا وجوهري. فأوزان مجموعات سلة سلع المستهلك عملية معقدة وتقاس بموجب مسح إحصائي عادة يتم كل خمسة سنوات بغرض تحديد نمط وميول الانفاق لدى المواطنين، أي كم في المائة من دخلهم ينفقونه على مجموعة السلع الغذائية، وكم في المائة على مجموعة السكن، وكم في المائة على مجموعة الملبوسات، وكم في المائة على التعليم والصحة وهكذا. وبالتأكيد خلال الفترة 2007م إلى 2022م قد حدثت تغيرات دراماتيكية على أنماط استهلاك المواطنين وعلى الأوزان التي تمثلها مجموعات سلع المستهلك من دخولهم الشهرية أو السنوية، فالأسرة التي كانت تشتري 20 رغيفة في اليوم أصبحت لا تستطيع سبيلًا لأكثر من خمسة رغيفات، بل وهنالك أسر استغنت عن الرغيف أساسًا. والأسرة التي كانت قادرة على شراء نصف كيلو لحمة بقر يوميًا عام 2007م أصبحت تشتري ربع كيلو عظم اليوم، وهنالك أسر لا يشاهدون الفواكه إلا في المسلسلات المصرية والسورية، والأسرة التي كانت تشتري سنويًا لأبنائها ملابس المدارس والمعدات المدرسية والكتاب المدرسي أصبحت اليوم لا تستطيع إليها سبيلًا وتحرص على المحافظة على القديم لتستخدمه لأكثر من سنة حتى يهترئ ويتلاشى، وهنالك بعض الأدوات تتشاركها الأسر فيما بينها. ولذلك لا بد من عمل مسح لميزانية الإنفاق الأسري كضرورة ماسة جدًا لتحديد أوزان حقيقية لمجموعات سلع وخدمات سلة المستهلك بشكل دقيق يتفق مع الواقع ثم بعد ذلك يمكننا أن نتحدث عن احتساب معدلات تضخم صحيحة ودقيقة تساعد على اتخاذ قرارات اقتصادية صحيحة.
وبالتالي فإن النتائج التي يتم الافصاح عنها لمعدلات التضخم هي نتائج مغلوطة بامتياز ومضللة الهدف منها خداع الناس وغشهم لتتمكن السلطة الانقلابية من اتخاذ سياسات تزيد من فقرهم وامتصاص عرقهم بالضرائب والأتوات والرسوم غير المسبوقة والاعتماد عليها بشكل أساسي لسد العجز في الموازنة العامة بجانب طباعة النقود للوفاء باستحقاقات صفقة محاصصات جوبا المسماة زورًا باتفاقية سلام جوبا والصرف على أجهزة الدولة المترهلة وعلى المليشيات والأجهزة العسكرية وتوفير أجهزة قمع وقتل المواطنين. حيث أصبحت السلطة الانقلابية وحلفائها من جنرالات صفقة جوبا تتاجر بحياة الناس وأرواحهم وتستخدمها كسلعة ووسيلة وأداة ضغط لفرض التسوية التي تحافظ على سلطتها وعلي وضعها الاجتماعي ومصالحها ونفوذها الاقتصادي.
الميدان

‫2 تعليقات

  1. الاستاذ الهادي هباني
    مقال اكاديمي رائع ومحكم وفي محله و وقته تماما بالتوفيق دائما

  2. لك خالص التقدير لقد فهمت انا الان فقك كيفية حساب التضخم
    بس ربنا يفكنا من فكي جبرين ومن استوزره ومناوي وحجر وحميتي التشادي وآفة جوبا كلها.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..