فعل خطأ في الزمن الخطأ ..!

احمد بطران عبد القادر
في مطلع التسعينات شهد العالم انتهاء الحرب الباردة وظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوى عظمى انفردت بسيادة العالم تقف من خلفها القارة العجوز التي عاشت شعوبها حياة مخملية في دعة وترف لعقود طويلة حيث توازن القوى بين المعسكرين الشرقي والغربي جلب لها الاستقرار وكان التنافس بينهما قائم علي امتلاك القوة الرادعة والتفوق العسكري لتوسيع دائرة النفوذ والتأثير لكن بنهاية الحرب الباردة بدأ الازدهار الاقتصادي وزيادة كبيرة في الديمقراطيات الليبرالية وفي أجزاء أخرى من العالم وظهرت مفاهيم جديدة لتوصيف قوة الدولة حيث أصبحت قوتها تعتمد بالإضافة للقوة العسكرية علي قوة اقتصادياتها وعلاقاتها الدولية حيث بدأ العالم يتشكل من جديد واصبح أكثر اهتماما بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والانفتاح الاقتصادي والتعاون الاستراتيجي .
في هذه اللحظة نفذ الإخوان المسلمين انقلابا عسكريا في السودان ضد نظام ديمقراطي وحكومة منتخبة (فعل خطأ في الزمن الخطأ) وتحدوا الإرادة الوطنية بحظر الأنشطة الحزبية والنقابية وفرض شمولية منكرة لدولة دينية انفصم قادتها عن الواقع وقدموا اطروحات فطيرة تتصادم مع توجهات العالم الجديدة ومع مبادئ الديمقراطية وتقهر الإنسان ولا تصون حقوقه ولا تعترف بالمجتمع الدولي هذا المسلك الصبياني الشيطاني المشحون بالعداء للغرب والشرق علي السواء والذي يدلل علي التهور والاندفاع بلا عقلانية ولا قيم أخلاقية وضع الدولة السودانية لاول مرة في تاريخها الحديث في قائمة دول محور الشر والأكثر خطورة علي حياة الإنسان ثم تم لاحقا اضافتها لقائمة الدول الراعية للإرهاب .
حالة العداء للغرب المفتعلة بلا مبررات علمية ولا استناد علي قوي حقيقية هي محاكاة لسياسة طهران ضد الغرب والتي قصد منها الحشد والتأييد وإيهام البسطاء بأن السودان أصبح دولة إسلامية علي نهج الخلافة الراشدة لكن بالمقابل جعل الدول الكبرى تهتم بظاهرتي التطرف والإرهاب وتفرض حصار اقتصادي وتكنولوحي ودبلوماسي علي الدول التي ترعاهما مما يدخلها في عزلة دولية خانقة تفقد بموجبها الحماية والرعاية وتحرم من امتلاك مصادر القوة .
بفضل هذه السياسة الرعناء اكتسبت الدولة السودانية عداء معظم دول العالم الذي لم يخفي طمعه في مواردها وعمله الدؤوب علي اضعافها وتفكيكها وتقسيمها لتسهل عليه عمليه التهامها وقت ما شاء .
اندلاع الثورة المجيدة في ديسمبر ٢٠١٩م ثورة الشباب والقوي الحديثة التي مثل تجمع المهنيين السودانيين قيادة رمزية لها كان ضد الظلم والفساد والاستبداد ومشروع الدولة الدينية والرغبة في تحرير الوطن من التبعية للمحاور والانبطاح للإمبريالية الذين تمكنوا من تحجيم نفوذ النظام المباد وتطويعه واخضاعه لسلطة الغرب الذي ناصبه العداء في بادئ ذي بدء.
بعد انتصار الثورة في ١١ ابريل ٢٠١٩م انفتحت شهية دول العالم لاعادة دمج السودان في المجتمع الدولي وشطبه من قائمة الدول الراعية للإرهاب لكن محاولات عودة النظام المباد واعاقتهم للمسار نحو التحول المدني الديمقراطي ثم انقلاب البرهان في ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١م اوقف مدد التحسن في العلاقات الدولية وعطل مشاريع الإصلاح الاقتصادي واوقف التدفقات المالية والاستثمارات العملاقة نحو البلاد مما فتح شهية القوي المعادية للانظمة الديمقراطية والغير راغبة في استقرار السودان والتمكن من إستغلال موارده حتي لا يصبح قوية اقتصادية وعسكرية ماردة لا يمكن تجاوزها وقرروا إجهاض الثورة وتقسيم الدولة مهما تكن الكلفة والثمن .
لئن تكالبت الأعداء علي ثورتنا السلمية وعلى بلادنا الفتية علي نحو ما ذهبنا اليه وتوافدوا من كل حدب وصوب ليفرضوا علينا واقعا جديدا ويعيدوا تشكيل خارطتنا السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية بحيث تكون لدينا قابلية للاستعباد نفقد بموجبها القدرة علي الصمود أمام مشاريع التجزئة والتقسيم والخضوع للاملاءات الأجنبية فإنهم واهمون وسيصطدمون بمشروعنا النضالي عميق الجذور المرتوية بالدماء الطاهرة والمغروسة في وجداننا المحب للأوطان ذو الإرادة الغالبة والبصيرة النافذة والإيمان العميق بحقنا في الحرية والحياة الكريمة والتحرر من كل مؤثرات الاستلاب الثقافي والفكري ومقدمات الاستعمار الحديث بكافة أشكاله وحيله وألاعيبه فإننا لم نكن نناضل الا من أجل تحرر وطننا واستقلاله وتبرئة ساحته من التطرف والإرهاب والزود عن حمى شعبنا وحقوقه في التنمية والنهضة والتطور والتعافي والاستفادة من موقعه الاستراتيجي ومخزون ثرواته بالانفتاح علي العالم والتعاون الدولي مع احراره في كافة المجالات ومن أجل ذلك ظللنا نكافح ضد الشمولية المستبدة التي كانت سببا في عزلتنا وتهيج مخططات الاعداء ضددنا ونقدم التضحيات العظيمة المتتالية وندافع عن حقوق رفاقنا الشرفاء الأحرار الذين ازهقت أرواحهم فداءاً للحرية وإنجاز مشروع التغيير والإصلاح متمسكين بالقصاص العادل لدمائهم الطاهرة ومطالبين بالعدالة الانتقالية لضحايا الحروب والنزوح ومجازر التتار و نحن ندرك حجم و شراسة الهجمة علي بلادنا وعلو موجتها واتساع رقعتها وكثرة الأيادي العاملة فيها والمتعاونة معها لكن كل هذا وغيره لا يثني عزمنا ولا يغير وجهتنا الهادفة لصناعة سودان جديد يألف حياة المدنية ويقيم دولة الرعاية ويتخذ الديمقراطية منهج أمثل للحكم في دولة المواطنة والهوية الدستورية المتساوية الحقوق (الدولة المدنية الديمقراطية الفيدرالية) التي شعارها في العدل (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها) عليها وعلي أبيها أتم الصلاة والسلام .
ولئن كان هذا بعض ما نصبو ونتوق اليه في إعادة تأسيس دولتنا الحبيبة علي الاسس الحضارية العصرية ولغة العلم فإننا نتطلع لعلاقات دولية تقوم علي الصداقة والتعاون والندية والاحترام المتبادل وليتحقق لنا ذلك كله وغيره من اشواقنا لا بد من الآتي :
– إسقاط الإنقلاب العسكري ومحاكمة مدبريه محاكمة فورية بأقصى العقوبات التى يقرها القانون .
-انسحاب القوات المسلحة من إدارة المشهد السياسي الي مهامها الأساسية في حماية أمن الدولة ووحدة أراضيها وتطوير قدراتها لتكون اكثر جاهزية للذود عن حياض الوطن .
– دمج وتسريح كل المليشيات المسلحة مع مراعاة المهنية والقومية وحظر تكون اي تشكيلات عسكرية علي اساس قبلي او جهوي .
– هنالك قوي اقليمية ودولية نشطة وفاعلة ومؤثرة في مشهدنا تريد استغلال ازماتنا وانفاذ أجندتها في تقسيم البلاد والعبث بمقدراتها ونهب مواردها تحت غطاء مساعدتنا للتحول المدني الديمقراطي يجب ايقافها عند حدها وكشف مخططاتها والداعمين لها محليا وتجريم التخابر والتواصل اوالتعاون مع الأعداء .
– تشكيل حكومة مدنية انتقالية من قوي الثورة المناهضه للانقلاب العسكري والتي أنجزت التغيير دون سواها مع إبراز الدور الطليعي للجان المقاومة وإشراكها في مستويات الحكم المختلفة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وجميع مؤسسات الدولة النظامية واخضاعها لعمليات التدريب اللازم وتأهيل الكوادر الوطنية وابرازها لتولي المناصب القيادية العليا .
– قبل ذلك لابد من إصدار ميثاق سياسي يحمل رؤيتنا كقوي ثورة لكيفية إدارة الدولة في فترة الانتقال؟ وكيف نزيل العقبات والمعيقات امام التحول المدني الديمقراطي ؟ وكيف نتراضى علي كتابة دستور انتقالي يترجم أهداف ومقاصد الثورة الي مشاريع وطنية تحافظ علي وحدة البلاد أرضا وشعباً بتنوعها الثقافي والديني والعرقي؟ وكيف نعيد بناء مؤسساتنا المختلفة ذات الصبغة المدنية اوالعسكرية علي أسس حضارية تأهيلاً وتطويراً وتدريباً ؟ وكيف ننتهج علاقات خارجية متوازنة تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون الامشترك مما يحقق مصالح شعوبنا؟ .
ولئن كان هدفنا الاستراتيجي من التغيير هو الحفاظ علي وحدة بلادنا واستقلالها واستقرارها فلا بد من التصدي لخطاب العنف والكراهية وحسم دعاة العنصرية وحملت رايات الانفصال بصورة واضحة .
ثم الشروع في تأهيل وتطوير القوات المسلحة وتقويتها باستيعاب دماء جديدة فيها في كافة أوجه نشاطها وإعادة انتشارها حماية للدستور والثغور وحسم اي مظاهر للفوضى او الإخلال بالأمن القومي والسلامة مع تأكيدات ضرورة انسحابها من المشهد السياسي وان تلتزم جانب الحياد ولا تسمح لمنسوبيها بتعاطي السياسة او ان يكونوا طرفا في اي نزاع مع التركيز والتذكير علي ان هذا المسلك يمكنها من الإصلاح الذاتي والقيام بالواجبات علي أكمل وجه في كافة الأصعدة والتصدي لكل التحديات .
ان الوقت يمضى والوطن يضيع من بين ايدينا ونحن نغامر بمصيره ومستقبل الأجيال القادمة بصراعاتنا العبثية واطماعنا الذاتية ووضع أيدينا فوق أيادي الأعداء ونزعم اننا دعاة الحرية وصناع التغيير هذا الأمر لا يستقيم ولا يقبله عقل سليم علينا التوافق قبل فوات الأوان وقبل ان نبكي وطن كان إسمه السودان .