منير التريكي
أقصد بالكتلة هنا الفئة المؤثرة في الدولة . الكم هو باقي الشعب المتأثر بهذه القرارات . تتكون الكتلة في أي دولة من النخبة الأقوى تاثيراً . مجموعة تمسك بزمام الأمور وتحفظ النظام وتجتهد في علاج المشكلات التي تواجه الدولة . هي النواة الأساسية الذي يقوم عليها نظام الدولة أياً كان نوع الحكم فيها . تقوم بتسيير شئون الناس . هي الوجيع الذي يتصدي لكل ما يهدد وحدة الدولة وسلامة اراضيها وأمن وقِيَم شعبها. هي جوهر الدولة وقلبها الذي يسير أمورها كله . العنصر القوي الذي يقوم عليه إستقرار وتقدم الشعب أو تأخره أو تمزّقه. عزلة أو إندماج الكتلة في باقي الشعب أشبه ببيضة. إن كانت مسلوقة تظل الكتلة نواة صفراء وسط بياض الشعب المحيط بها. وإن كانت مخفوقة ومقلية يختلط صفار البيضة وبياضها ويمتزج متماهياً بحيث يصعب التفرقة بينهما . والأخير هو الوضع الصحيح ونجده في الدول المستقرة . حيث نجد كل مواطني الدولة واعين ومدركين لواجباتهم وحقوقهم. يتفاعلون مع قضاياهم ويبتكرون الحلول المناسبة للمشكلات التي تواجههم . يختارون أنجع الحلول بتجرد يحققون التقدم . في حالة البيضة المسلوقة تظل النواة كتلة صفراء كما هي . تفرض بالقوة فكرتها الأحادية عن طريقة الحكم . تحتكر الموارد وتدير الدولة وفق رؤيتها. هذا يؤدي إلى الظلم و تفشي الفساد وغياب المحاسبة وقمع المحتجين على ذلك . قد تتكون الكتلة هنا من حزب آيدلوجي حاكم يصل للسلطة بالثورة على النظام الملكي القديم . مثال ذلك الحزب الشيوعي الروسي أو الصيني. أو بإنقلاب عسكري ضد نظام ديمقراطي كما فعل الإخوان المسلمون في السودان. حمل الحزب الحاكم لاحقاً اسم حزب المؤتمر الوطني . قد تتأسس الكتلة في شكل حزب يقود النضال . تلتف حوله الجماهير وتنتخبه بأغلبية في إنتخابات حرة و نزيهة . خير مثال هو حزب المؤتمر الوطني الافريقي(ANC). أحرز الحزب ثلثي أصوات الناخبين في إنتخابات ١٩٩٤م وهي أول إنتخابات عامة بعد نهاية حكم الأقلية البيضاء.
لكن كيف نعرف كتلة بلد ما وقوتها وإتجاهاتها ؟ الإستبيانات وإستطلاعات الرأي العام قد تعطينا فكرة عامة . لكن هذه الآراء عرضة للتغيُّر . الإستبيانات جيدة لقياس شعبية رئيس ما أو معرفة رأي الاغلبية في مسالة معينة في وقت محدد . هذه الآراء قد تتأثر بالأجواء العامة حينها وبكاريزما الحاكم. الكتلة تتكون بتاثير الإعلام الذي يقوم ببث وتكرار تجارب ومقولات وأحداث منتقاة بعناية . قد تكون الكتلة شريحة قليلة العدد لكن لتَمَكُّنها تفرض رأيها وتنفذه في قضايا كبري . بسبب سيطرتها على موارد وهيمنتها على وسائل الإعلام تنحاز لرؤيتها وتزينها وتؤثر بها في المجموع كله . الكتلة في بريطانيا قادها المحافظون وقتها صوتت (البريكست) وأخرجت بريطانيا بفارق ضئيل من الإتحاد الأوربي . لاحقاً تعالت إحتجاجات الكثيرين تعارض القرار وتدعو لإعادة الإستفتاء . في بريطانيا القرار كان وفقاً لتصويت حر ونزيه . لكن الكتلة في روسيا أدخلت كل الدولة في حرب ضد أختها الصغرى وصديقتها وجارتها أوكرانيا .
بالنظر في أحوال بعض الدول سنعرف ضرورة الكتلة وأهميتها القصوى في تماسك هذه الدول والمجتمعات أو تخلفها وتفككها. في اليابان تكونت الكتلة واستقرت بفعل الإحترام العميق للتقاليد العريقة. تقاليد تركز على ثقافة قديمة ولها تقدير عميق من اليابانيين . الكتلة تنظم أسرهم وعلاقاتهم وأعمالهم . على مدي قرون طويلة أنتجت ثقافة إحترام الوقت والعمل. ثقافة تحث على الإخلاص والمثابرة والصبر والإبتكار . هذه التقاليد يثق فيها المواطن الياباني ويحترمها. هي مجربة وتمنحه عزة نفس وثقة عالية بأن الأمور على ما يرام . هكذا يستقر الياباني نفسيا ويبدع . في دول الخليج العربي تحكم الملكيات . وهي نُظُم حكم مستقرة وتنعم بالسلام والتعايش بين مكوناتها . تستخدم كفاءات محلية وأجنبية . هذه الكفاءات تديير شئون شعوبها وفق تخطيط تنموي ملائم لظروفها ولهذا تتطور بوتائر متسارعة . في روسيا والصين يتحكم الشيوعيون ومعهم بعض الراسماليين في دولاب الدولة . بمصادرة الحريات وبعض القمع يبقون الدولة متماسكة ومستقرة ومتطورة . في مصر نجد أن الكتلة منظومة عسكرية أمنية قمعية يعاونها بيروقراطيون مخلصون لما يقومون به نحو بلدهم . في الجزائر الكتلة عسكرية يسندها محافظون تنازعهم قوي ديمقراطية وطنية تطالب بالمزيد من الحريات والعدالة في مشاركة السلطة . كتلة تونس قوي ديمقراطية يشاكسها الإسلاميون يتبادلون الأدوار . فرنسا كتلتها ثورية ديمقراطية تميل يساراً . في أمريكا يشكل الجمهوريون بأموالهم الضخمة والديمقراطيون ببرامجهم ونشاطاتهم الفعالة في المجتمع كتلة تنظمها قوانين العمل وتغذيها الأحلام وتدعمها الفرص الحقيقية للنمو للفردي والجماعي . لكن ماذا عن الدولة غير المستقرة والفاشلة؟ هذه تنشق كتلتها وقد تتشظى وتتفتت . تفشل الكتلة في إدارة شؤون الدولة أو تديرها بنسبه ضعيفة جداً . النسبة تتماشي مع نسبة الاستقرار. أي كلما زاد استقرار الدولة كلما زاد تنفيذ خطط التنمية طويلة المدى . وكلما زادت القلاقل كلما زادت أزماتها . الدول غير المسقرة حالياً هي سوريا والعراق ليبيا واليمن . هنالك أيضاً فلسطين والسودان وقد غادر الصومال القائمة مؤخراً ورواندا هي أفضل مثال على إمكانية الإنتقال بقوة من اللامستقر إلى الإستقرار والتنمية.
هل يمكننا تكوين كتلة واعية مدركة متجردة َمخلصة تتصدي للقضايا الكبرى في السودان؟ .
نواصل بإذن الله.
كلام جميل ونحن في أنتظار التالي.