
محمد التجاني عمر قش
لست بحاجة لتعريف دار الريح، فهي تلك البقعة التي تقع في الطرف الشمالي من ولاية شمال كردفان . هذه المنطقة تضم قبائل متعايشة وبينها صلات ضاربة في القدم ، وتحكمها أعراف ومواثيق ظلت مرعية منذ عقود ، الأمر الذي أسهم في استقرار المنطقة وتحركات أهلها ، وتبادل المصالح والمنافع والتواصل بينهم بكل يسر وسهولة ، وذلك بحكمة كبار المنطقة من العقلاء وزعماء الإدارة الأهلية من العظماء الراحلين الذين كانوا يمثلون أوتاد المجتمع والأرض على حد سواء ! وبعد أن رحل أولئك الرجال ، آل الأمر إلى بعض الأفندية الذين لا يحسنون إدارة المجتمعات ، ولا يرعون الذمم والأعراف والمواثيق ، ولذلك لم تعد المقولة السائدة هي: “الكباشية حامدية ، والحامدية كباشية” بل تبدلت العلاقات واضطربت العلاقات وظهرت إلى حيز الوجود أحلاف من شأنها نسف النسيج الاجتماعي في دار الريح وذلك لعدة عوامل وأسباب نوجزها فيما يلي.
أولاً هنالك بعض مكونات من مجتمع دار الريح صارت لها أطماع، لا يسندها الواقع ولا النظام ولا الوثائق ، في أراضي جيرانهم ، ومن أجل تنفيذ تلك الأطماع على أرض الواقع ، لجأوا للتحالف مع الحركات المسلحة ؛ خاصة بعد سلام جوبا الذي سمح لتلك الحركات بالانتشار على نطاق واسع في ولاية شمال كردفان ، وصارت توزع الرتب لكل من هب ودب، بلا وازع ولا ضمير ، ولا أدنى قدر من المسؤولية ولا الإحساس الوطني . وليس هذا فحسب ، بل أنشأت تلك الحركات معسكراً في منطقة أبو جالب التابعة لمحلية سودري ودربت أفراد من مجموعة معينة ، ووفرت لهم العتاد والسلاح وعربات الدفع الرباعي ، وفوق هذا وذاك وفرت لهم إمكانية الإفلات من العقوبة بحجة أنهم من المنتمين للحركات المسلحة الذين لا يجوز القبض عليهم أو تقديمهم للمحاكمة مهما كان جرمهم ، وكانت النتيجة أن هاجم هؤلاء قرية آمنة من جيرانهم ، وأودوا بحياة ما يزيد عن العشرين من الرجال والنساء ، علماً بأن نفس السلاح قد استخدم سابقاً في مهاجمة دونكي الدويمة ، ولا يزال الجناة لم يقبض عليهم ، وبعضهم كان حاضراً في لقاء الجمامة الأخير ، حيث سعت حكومة ولاية شمال كردفان ممثلة بلجنتي أمن محليتي غرب بارا وسدوري لردم مساحة من الأراضي الزراعية المملوكة لأناس معروفين منذ مئات السنين.
ومن أسباب التحالفات ظهور الذهب في بعض مناطق دار الريح، وأثرى منه الكثيرون ، ممن لا يحسنون التصرف ، فسعوا إلى اقتناء الأسلحة ، وشراء الذمم الرخيصة ، وبرزت مجموعة من الأثرياء الجدد وصاروا يبحثون عن مواقع اجتماعية ، حتى لو شروها بالمال . ولعل السبب الأكبر هو تبدل حكومات ولاية شمال كردفان ، في هذا الزمن المملوخ، حتى وصل إلى كرسي رئاسة الولاية رجل كنا نعده من الأخيار ؛ لما نعلم من فضل موروث في أسرته ، وما كان يتمتع به والده الشيخ محمد على التوم ، الملقب بالمر فقد كان رجلاً فارساً حكيماً ، وشاعراً مجيداً ، وهو من الذين وضعوا بصمات ولبنات واضحة في استقرار دار الريح لردح من الزمن . إلا إن والينا الحاضر يبدو أنه قد وقع تحت تأثير الأقلية ذات الصوت العالي ، فأفسدت عليه قراره ، وما علم أن ذلك الموقف قد ينسف نسيج دار الريح الاجتماعي ، ويعصف بالاستقرار في هذه المنطقة التي طالما تغنى بها أهلها ونعموا بخيراتها دونما تنافس أو تحالفات.
يضاف إلى ذلك أن الإدارة الأهلية الآن تمر بأضعف مراحلها بعد أن تولى أمرها بعض الشباب الذين تنقصهم الحكمة والحنكة التي كان يتمتع بها أسلافهم الذين أشرنا إليهم . ودليلنا على ذلك أن أمراء دار حامد والكبابيش والجبال البحرية رضوا بقرار لجنتي الأمن الذي جاء مخالفاً لكافة قواعد التحكيم الإداري ؛ إذ لم يستند على وثائق ولا إفادات شهود ولا مصلحة واضحة، بل جاء قراراً معيباً قد يتسبب في فتنة غير مسبوقة في دار الريح ؛ لأن الطرف المتضرر لن يسكت ، بكل تأكيد سيما وأن القرار يشوبه خطأ إجرائي فادح ، مما يجعله باطلاً ولا يعتد به قانوناً. ويبدو أن المديرين التنفيذيين تصرفوا تحت تأثير مباشر أو ضغط أو على أقل تقدير توجيه من السيد والي شمال كردفان الذي فات عليه تقدير العواقب الوخيمة التي قد تترتب على هكذا قرار مجحف بحق مجموعة كبيرة من رعيته! .
ومن المعلوم أن النزاعات حول الحدود القبلية كانت تحل في السابق من قبل رجالات الإدارة الأهلية ذوي الخبرة والمعرفة التامة بكل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بأراضيهم وسكانها ، ولم تكن لديهم أجندة أو اطماع خاصة ، بل همهم الأكبر هو تحقيق العدالة والمصلحة العامة، ولكن الآن هنالك زعامات جديدة وقيادات ، كما يقال عنهم ، لا يهمهم استقرار المنطقة ولا ينظرون إلا لمصالحهم الشخصية. ومن الواضح أن قرار ردم الأراضي في منطقة الجمامة ما هو إلا محاولة يائسة من أمثال هؤلاء لفرض سياسة الأمر الواقع بكل السبل. ولهذا السبب فإن بعض منظمات المجتمع المدني سوف تتحرك لتلافي آثار هذا القرار الكارثي والتحالفات القبلية التي طرأت وسط مجتمع دار الريح! .
يا الكوز عمر قش ارجع لبلدك دار الريح ونحن ح نسد الباب ونستريح…