مقالات وآراء

الفكاهة في أمكنة ومواقيت الأزمة (1 – 3)

* فن بلا تاريخ، ارتبط عبر العصور بالإنسان؛ ما بين أحلك اللحظات وأسعدها في حياته.. هو فن الفكاهة بضروبه المتعددة المشارب والغايات.. وحين نقول إنه بلا تاريخ فذلك مرجّح بالبداهة.. فالفكاهة مثل الحزن والفرح لا أصل ثابت حول ميقاتها الذي يعني وجود الإنسان مع الأزمنة؛ وهذا شيء فطري غير ميسور بالبحث والتقصي.. لكننا قد خبرنا أعلَاماً في هذا المضمار الرحب والمُشبِع للروح بالتحفيز والمتعة.. كما قرأنا كُتباً اقترنت بهؤلاء الأعلام المشهورين أمثال (الجاحظ) صاحب كتاب البخلاء؛ وغيره ممن تطول القائمة بذكرهم؛ كشهاب الدين الأبشيهي صاحب الكتاب الممتع (المستطرف من كل فن مستظرف) وقد جمع فأوعى رغم اختلاف الآراء حوله..!
* على المستوى السوداني كانت فاكهة الفن الضاحك مرصودة لدى قلة ممن اهتموا بهذا الأدب، الذي ظل محمولاً في الرؤوس أكثر من بطون الكتب.. ويُحمد للباحث والكاتب عبد الحميد محمد أحمد أن أهدى القارئ كتابه (الفكاهة في الشعر السوداني) الصادر في طبعته الثانية عن دار عزة للنشر والتوزيع 2003م.. وهو كتاب رصين وخفيف على القلب؛ يحجب عن النفس بعض الكدر للذي يطالع مادته الفكِهَة المتنوعة، وستكون لنا وقفة معه نرصد عبرها ضفة لطيفة تشوب جنباتها بعض الأشواك! فأدب الفكاهة ليس مرهوناً للضحك على إطلاقه، إذ يعالج قضايا مختلفة بحدة مُستحبّة أحياناً..! فمن ضمن مشهورات الكتاب تلك القصيدة التي وجهها الشاعر عمر الأزهري إلى أحد مديري المصالح الحكومية:
عليك، عليك شرعاً يا وزارة
بتوجيه اهتمامك بالفتارى
عليك بنظرة لابد منها
إليهم؛ مرة في كل حارة
لأرباب المعاش عليك حقاً رعايتهم،
فأنتِ لهم إدارة
بتوفير الغذاء لهم
إذا ما أرادوا الخبز؛ أو قصدوا الجزارة
وتوفير الرغيف لهم رخيصاً
كبيراً مستديراً مثل طارة
ولا داعي لفاكهة وحلوى
ولا داعي لكيفٍ أو سجارة
قليل سوف يكفيهم
ويعطي لهم؛ ما ضيعوه من حرارة
هم احترقوا وأفنوا شباباً
مع الإنجاز في غرف الوزارة
ومنهم من تفانى في اجتهاد
بأقسام المصالح في مهارة
مع التجوال من بلدٍ لأخرى
على سفرٍ وقد ذاقوا مرارة
لقد كذب الذي من قال منهم
سأعمل في التجارة والنجارة
هم الفقراء في الدنيا
فهلا، وجدنا يا مدير لهم بصارة؟
* مثلما نجد اللين والرُّقي في أدب الفكاهة؛ نجد الحدة (المُلّطَّفة) في نكاتنا السودانية التي لا تخلو من سوالب رغم استحسان الغالبية لها دون محاذير مطلوبة.. فلتكن بداياتنا في هذا التجوال دعوة لتنقية محمول النكات من أثقاله.. ونعني تلكم الإشارات البغيضة أو الدالة على التقليل من شأن الآخر أيّاً كانت جذوره ومكوناته البيئية والثقافية.. فالسخرية محمودة لو توازنت في تدعيم معنوي لهذا الآخر، وبالتالي لا منقصة إذا بنينا حوله جدران فكاهاتنا بشتى الألوان الجميلة التي تعزز القيم دون انتقاصٍ (قبلي) يحفر جُدر العنصرية.. فالإنسان في أي مكان وزمان ليس كاملاً، بالتالي يمكن (تلبيسه) النكتة بلا حاجة لإشارة مُخلّة إزاء المجموع الذي ينتمي إليه..! وكثير من النكات و(الفكاهات) التي نوثقها (بالحبال) على ظهور قبائل بعينها تصير في الغالب سِمة تتمكن من غزو الذاكرة بالآراء المغلوطة حول (القبيلة المعينة) وقد ترْسَخ الآراء لتصير ثوابتاً مع الجهل، وتصنع تلك الحساسيات والعصبيات التي لا تُحمد عقباها.. على سبيل المثال: كم نكتة أو (فكاهة تتجه لقبيلة ما؛ توصم أفرادها بالبخل أو حب المال؟ بينما الصفات الطيبة والذميمة مشتركة بين كافة البشر؛ لا فضل لقبيلة على أخرى في هذا الشأن أو ذاك.. وما تراه أنت مذمّة يراه الغير فلاحاً..!
* ليس شرطاً لمكافأة الجمال (المدح)، فكم من جميل لا نرى قبحه المكمون.. والعكس..! فبينما تنطلق كثير من (المُلَح) العفوية الناقدة لهذه القبيلة أو تلك بأسلوب ساخر، نجد ضيقي الأفق يرجحون سوء هذه أو تلك بناءً على خيال الظرفاء؛ والذين ــ لا شك ــ يبنون طوابق نكاتهم من روح ليس فيها سواد.. ويتخذون من النكات (صِنعة) بالتالي فإن (سوقهم) يجبرهم على احترام جميع مكونات المجتمع، إنما تظل المشكلة في المجتمع المتباين: كيف تتسع صدوره لاستيعاب (طقس النكتة) بعيداً عن العقد والشظايا؟!
* إننا شعب مأزوم سياسياً وغير ذلك! نحتاج إلى الفكاهة لكي نخرج قليلاً إلى آفاق معتدلة تحفظ وجداننا في هاجرة القحط العام، وتقوِّيه.. وهو قحط طال.. أما السبيل إلى تشذيب و(تأديب) الأدب الفكاهي؛ فذلك ما تتعدد فيه السبل وتطول الآراء.
الحراك
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..