الأزمة السياسية وآفاق الحل … نحو الطريق الثالث (٣-٦)

✍️مجدي عبد القيوم (كنب)
الطريق الثالث هو التسوية التأسيسية التى تعيد البلاد الى منصة التأسيس
ينبغى ان ترتكز التسوية على تطبيق العدالة الانتقالية وعدم الافلات من العقاب
لجان المقاومة تمثل رمانة الميزان ولا يمكن تجاوزها وهذا ما ينبغى ان تفعله (………)
الموقف من المرجعية الدستورية الحاكمة ينبغى ان يتاسس على المحتوى
على الألية الثلاثية الوقوف على مسافة واحدة من كل التحالفات
مقدمة
يبدو ان الازمة السياسية قد بلغت اعلى مراحلها وهذا يتمظهر فى حالة الانسداد السياسي الذى وسم الساحة ولكن فى التقدير ان هذا الانسداد نفسه هو بداية الطريق نحو حل الازمة الوطنية.
معلوم ان السمات الاساسية لفترات الانتقال تتسم بالهشاشة الامنية والازمة الاقتصادية ومن ناحية اخرى تتصف بتغير التحالفات التاكتيكية وفقا لتناقض المصالح بين الفاعلين السياسيين سيما فيما يعرف بالبلدان الهشة او بيئات ما بعد الحرب
كذلك ننطلق من تفكيك مصطلحى الثورة والتغيير ودلالات كل منهما وما يستلزم من برامج وتاكتيكات وتاسيسا على هذا الفهم النظرى نتناول قضايا الانتقال.
نضوج هذه الازمة وبلوغها لهكذا مرحلة دفعت الفاعلين السياسيين الى اطلاق دعوة للمركز الموحد فهل بالامكان توحيد كل القوى ؟وما هو البرنامج الذى يمكن ان تتراضى عليه جل القوى ويفضى الى حل الازمة الوطنية ؟
السؤال الذى يطرح نفسه بقوة هل الحل فى التسوية النى يتبناها المجلس المركزى بصيغة جديدة للشراكة و التى هى فى نظر قطاع عريض اعادة لانتاج الازمة ام عن طريق ما يسمى بالحل الجذرى الذى يطرحه الحزب الشيوعى وتتبناه قوى ثورية اخرى من خارج مظلة قحت؟
فى تقديرى ان هذه الحالة من الانسداد بحاجة الى افتراع طريق ثالث يخرج البلاد من هذا المنعطف الذى دخلت فيه وهذا الطريق يؤسس على فكرة كتلة الانتقال الديمقراطى كمنصة انطلاق ،كتلة تضم كل القوى التى ادانت الانقلاب وتسعى لتحقيق مدنية الدولة وان تؤطر ذلك تنظيميا بتنسيقية مراكز متعددة وليس مركزا موحدا.
_____
قلنا فى المقال رقم (٢) ان اطروحتى الحل الجذرى التى يتبناها الحزب الشيوعى وحلفاءه والتسوية السياسية التى يمضى فيها المجلس المركزى ويتحايل على تسميتها بالعملية السياسية لا يجدان حظا من الالتفاف الجماهيرى لاسباب تتعلق بعدم واقعية الطرح الجذرى وانه محض رغائبية وقفز فوق المراحل وانه يفتقر الى الاليات.
ولشكوك وعدم ثقة تحيط بتلك التى يسعى لها المجلس المركزى لقوى الحرية والتغيير ومن قبل افتقاره للأهلية جراء عدة اسباب من بينها منهج عمله الذى يكرس لاختطاف القرار داخل مؤسسة التحالف علاوة على اصرار المجموعة المتنفذة على عدم توسيع قاعدة التحالف والاصرار على الحوار فى الظلام بعيدا عن رقابة الجماهير ولعل هذا السبب الاخير هو مصدر عدم الثقة باعتبار ان مظان تفسيره تذهب الى ان بعض اطراف مجموعة المركزى تنفذ اجندة دول المحور التى اسهمت فى تخريب الفترة الانتقالية اضافة الى تفاهمات مع العسكر جراء كروت ضغط توفرت لدى هؤلاء من خلال مجريات ووقائع تجربة الشراكة السابقة .
بينا ان ذلك بستوجب البحث عن طريق ثالث يفضى الى حل الأزمة الوطنية الشاخصة وفقا لما يمكن ان نسميه تسوية تأسيسية.
ما نعنيه بالتسوية التاسيسية انه ينبغى ان نعمل على اعادة البلاد الى منصة التاسيس ومعالجة كل القضايا المركزية كنظام الحكم فدرالى ام حكم ذاتى داخل النظام الفدرالى اوحتى كونفدالى وهل تقوم الدولة على نظام الولايات ام الاقاليم والنظام السياسي رئاسى ام برلمانى وهياكل الحكم وتوزيع الثروات وكيفية صناعة الدستور الدائم الذى يكرس لمدنية الدولة التى تقوم فيها الحقوق على اساس المواطنة والذى ينبغى ان يستفتى عليه الشعب.
هذه فرصة تاريخية اتيحت لهذا الجيل من الشباب الذى صنع ثورة ديسمبر وما زال يسهر على حراستها.
ان منهج معالجة القضايا الكلية بالتجزئة هو الذى صنع هذا الازمة المتطاولة التى لازمت بلادنا وان الاوان لصناعة قطيعة تاريخية مع هذه الدولة المأزومة .
ان هذا الجيل من الشباب نقع على عاتقه مسؤلية تاريخية فى بناء دولة تقوم على فلسفة ادارة التنوع بكافة اشكاله سواء الاثنى او الدينى او الثقافى.
لا نقول بفشل النخب السودانية المتعاقبة فى انتاج مشروع وطنى ينطلق من هذا التنوع ويحمل جيناته وملامحه وقسماته فالتجارب تحاكم فى سياقها التاريخ لا بمعزل عنه وفى التقدير ان قدر هذا الجيل التأسيس لهكذا وطن يقوم على هذا المشروع
صحيح ان ذلك لن يحدث ضربة لازب ولا بين عشية وضحاها ولا نرى اى غضاضة فى ان تمتد فترة الانتقال مهما تطاولت فالعبرة بانجاز المهام ولعل فكرة تكوين حكومة تصريف الاعمال لمدة ستة اشهر التى طرحها منبر اساتذة الجامعات لحين انتهاء الحوار تمهد الارضية لادارة حوار يمكن من انضاج الحلول على نار هادئة.
مؤكد ان التسوية التاسيسية تجابه كثير من التحديات وهى قطعا يمكن تجاوزها ولا نعتقد ان الفكر السياسي السودانى يعجز عن ايجاد معالجة لهذه التحديات الا اننا نرى ان المنصة التى ينبغى ان تقف عليها للتسوية التاسيسية هى العدالة الانتقالية وهى فى تقديرى تمثل الشرط الوجوبى لهكذا تسوية.
ان الصراع الذى نتج عن المظالم التاريخية نجمت عنه الكثير مما يندرج فى عداد الجرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية فى جبال النوبة ودارفور ومجزرة بورتسودان فى شرق السودان وفى كجبار ومجزرة شهداء انقلاب رمضان انتهاء بشهداء هبة سبتمبر ومجزرة العصر فى فض اعتصام القيادة واغتيال الشهداء فى المواكب السلمية عقب انقلاب ٢٥ اكتوبر.
هذه الجرائم لا يمكن ايجاد معالجات لها الا عبر تطبيق العدالة الانتقالية وقطعا ان هناك تجارب فى المحيطين الاقليمى والعالمى سواء تجربة جنوب افريقيا او المغرب او تجارب امريكا اللاتينية المتعددة يمكن الاهتداء بها فى اطار ايجاد صيغة تتناسب وطبيعة المجتمع السودانى.
مجمل القول انه لا يمكن ان تنجح فكرة التسوية التاسيسية الا ان ارتكزت على منصة العدالة الانتقالية بكافة تفاصيلها من اعتراف وحقيقة ومصالحة وتعويضات وجبر وان يتم ذلك عبر مفوضية تنشأ لهذا الغرض.
لا يمكن القطيعة مع هذا الماضى الدموى البشع الا بالتكريس لمبدا عدم الافلات من العقاب وفقا للعدالة الانتقالية
ينبغى ان نوطن انفسنا على شراء المستقبل بالماضى مهما كلفنا ذلك.
فى سياق التاسيس لاطروحة التسوية التاسيسية نرى انه ينبغى الا تنزوى النخبة السياسية المعنية بطرح الافكار مغبة التخوين والمحاولات البائسة لاغتيال الشخصية بل ان الواجب الوطنى والاخلاقى يوجب عليها ان تمشى فى هذا الدرب رغم وعورته
مؤكد ان كل الفاعلين السياسيين من احزاب وتنظيمات ومنظمات مجتمع مدنى ولجان مقاومة مطالبين بذلك.
ان كان من اشارة فهى اننا نرى ان لجان المقاومة باعتبار انها الحاضنة الاوسع لشريحة الشباب هى رمانة الميزان التى يعول عليها فى ان تكون التسوية التاسيسية حقيقة ماثلة وبالتالى فالمطلوب منها التقدم الى الامام خطوة والتحرك من مربع الموقف الجامد والتقاط قفاز التحدى ونيل الشرف باعادة الدولة الى منصة التاسيس وهى قمينة بذلك.
مؤكد اننا نرى ان المرجعية الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية ينبغى ان يتم التراضى عليها بين كافة الفاعلين السياسيين فى المشهد اذا كانت الوثيقة الدستورية او مشروع الدستور الانتقالى سيما ان لكل حجته فانصار الوثيقة يحاججون بانه قد توافر لها شرعية بحكم الواقع انذاك ومشروع الدستور والذى تحفظ عليه الكثير من الفاعلين وان تركز ذلك على الناحية الاجرائية يرى مؤيدوه انه عالج المستجدات التى طرأت بعد الانقلاب وفى تقديرى انه ينبغى التعامل مع مشروع الدستور كمحتوى وليس التركيز على الجهة التى اعدته ايا كانت.
ما يتصل بالدور الذى تقوم به البعثة الاممية او الالية الثلاثية فى المساعدة على تجاوز الازمة ودعم الانتقال من المؤكد اننا نعتد بهذا الدور ونرى اهميته وندعم وجوده وجهوده وان كان من ثمة ملاحظة فهى انه ينبغى الا تكتفى الثلاثية بادارة حوار واسع مع كافة الفاعلين فى المشهد السياسي بل يجب ان تبذل جهودا اكبر لاشراك كل هؤلاء فى الحوار المباشر مع العسكر الذى اعلنت عن انطلاقه فلا يمكن ان يقتصر الحوار مباشر كان او غير مباشر على مركز واحد بل ينبغى ان تبذل جهودا فى ان تشارك كل المراكز سيما فى ظل عدم الثقة الذى ظلل علاقة المجلس المركزى بالقطاع الاعرض من الجماهير خارج مظلة هذا التحالف.
كذلك المطلوب من الثلاثية الوقوف على مسافة واحدة من كل الفاعلين ولعل البيان الاخير لبعليش شكل قرينة قدحت فى حيادية الثلاثية فى نظر الكثيرين عندما اشار بعليش فى معرض بيانه ان مشروع الدستور الذى اعدته لجنة تسيير نقابة المحامين يصلح اساسا يمكن البناء فوقه وفى التقدير انه تصريح افتقر للدبلوماسية التى ينبغى ان يتصف بها الميسر او الوسيط بالنظر الى التعارض غى وجهات النظر ما بين من يطرحون الوثيقة الدستورية مع التعديل والذين يتبنون مشروع الدستور الذى اعدته لجنة تسيير نقابة المحامين ومن المؤكد انه من الممكن التراضى على مرجعية دستورية حاكمة للانتقال.
ان كان من خاتمة فهى ان هذه البلاد تخص كل شعوبها بمختلف سحناتها وثقافاتها وكل تياراتها من اقصى اليمين الى اقصى يسار ناصية الشارع السياسي وما بينهما من قوى تقليدية او طائفية او ادارات اهلية وان جوهر فكرة السلوك الديمقراطى هو قبول الاخر والاحتكام لقواعد اللعبة.
((منصة التاسيس ومعالجة كل القضايا المركزية كنظام الحكم فدرالى ام حكم ذاتى داخل النظام الفدرالى اوحتى كونفدالى وهل تقوم الدولة على نظام الولايات ام الاقاليم والنظام السياسي رئاسى ام برلمانى وهياكل الحكم وتوزيع الثروات وكيفية صناعة الدستور الدائم الذى يكرس لمدنية الدولة التى تقوم فيها الحقوق على اساس المواطنة والذى ينبغى ان يستفتى عليه الشعب.))؟
هذه مسائل لا علاقة لها بالتسويات والدساتير الانتقالية فهي تتقرر باستفتاء الشعب في نهاية المرحلة الانتقالية وتسعى إلى بحثها الحكومة الانتقالية بعد الانتهاء من مهامها العاجلة والمؤقتة المتمثلة في كنس آثار تمكين النظام البائد واسترداد الأموال العامة المنهوبة ومحاكمة المفسدين والقتلة، وباختصار إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل التمكين بما في ذلك تنظيف مؤسسات الدولة من كل من أتى به التمكين، ومن ثم تهيئة المسرح لانتخابات حرة نزيهة محصنة من استخدام مال الشعب وتأثيرات رموزه عليها بأي شكل كان ومنه حظر القبلية وأي تكتل بناء عليها مناطقياً كان أو اثنياً وكبح العنصرية المتولدة عنها.
إن ما طرحته مكانه النقاش العام في المؤتمرات الدستورية للوصول للصيغ المرضية للكل أو الغالب الأعم لوضعها في مشروع الدستور الذي يحكم المستقبل بعد الفترة الانتقالية – فهي مسائل يقرر فيها الشعب باجازته لها في الدستور وليس لحكومة الفترة الانتقالية تفويض لحسمها ومن باب أولى ليس لطرف من الأطراف السياسية فرضها لتطبقها السلطة الانتقالية اللهم إلا بالتفويض الثوري أو الشرعية الثورية التي لا يملكها إلا الذين أسقطوا النظام وما زالوا مستعدين لإسقاط حكم أي طرف على نهج النظام البائد أو بإدعاء تمثيله أو المحافظة عليه.
فهذه المبادرات جميعاً مهما توافقت عليها الأطراف السياسية لا يمكن أن تتطبق إلا بموافقة أصحاب الشرعية الثورية وإلا فالثورة مستمرة.