مقالات سياسية

العملية السياسية هل تفلح في الاستجابة لتطلعات الجماهير؟

احمد بطران عبد القادر

من الحقائق المؤلمة أن القوى الوطنية السودانية في الأحزاب السياسية والحركات المسلحة تعلم علما يقينيا بان القوي الثورية متمثلة في التجمعات الشبابية والنقابات المهنية والاجسام المطلبية ومنظمات المجتمع المدني ولجان المقاومة بالأحياء هي القوي الحية التي أنجزت التغيير وأسقطت الإنقلاب في ٦ أبريل ٢٠١٩م بإنتهاج السلمية وتوحدها خلف تجمع المهنيين السودانيين ولولا هذه القوى وتفاعلها واستجاباتها لنداء الوطن لمكثت قيادات الأحزاب في السجون والمعتقلات تصدر بيانات الشجب والادانة ولظل قادة الحركات المسلحة في المنافي والمعسكرات أو الفنادق خصوصا وأنها لم تحقق انتصارا على الصعيد العسكري يذكر علي النظام المباد واغلبها تعرض للاختراق والانقسام ومعظمها وقع معه اتفاقيات سلام ثنائية كان أهم مكاسبها مشاركة رمزية في هامش السلطة ولم تحدث تغيير في بيئة الصراع ولكن جميع هذه القوي يتجاهل دور الشباب في التغيير والأدوار الحاسمة التي لعبها في إسقاط نظام الثلاثين من يونيو١٩٨٩م الاجرامي وفي فترة الانتقال الأولى حرم من المشاركة في هياكلها وهضمت حقوقه وتعرض للعنف .
فهذا الجيل الجديد المناضل الحر الشريف الواعي المصادم الوطني الغيور تعرض للقتل المباشر والقمع بصورة جنونية ومازالت جراحه تنزف ودموعه تنسكب وبعضه يقبع في المعتقلات ومنهم من تم تصفيته واخفائه قسريا لكنه مازال يقف شامخا صامداً حتي يدرك النصر المؤزر أو يهلك دونه مهما تكن الكلفة والثمن
فالثورة فكرة وإيمان والفكرة لا تموت والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل وقد رأينا فعلا ثوريا منظما لهؤلا الشباب (الجيل الراكب رأس) ومشروعا نضاليا همه السودان أولا وأخيرا وإعادة بنائه علي أسس الحرية والعدل والسوية في المواطنة والحقوق بإقامة دولة مدنية ديمقراطية .
وكلما ازادت السلطة الاستبدادية بطشا بهم وعنفا مميتا كلما ازدادوا صمود وبسالة وإصرار علي تكملة المشوار فالايمان بالثورة وضرورة التغيير لتحرير الوطن من الاستبداد والاستلاب الثقافي والفكري والهوس الديني وتحرير المواطن من الجهل والفقر والمرض والعوز بكافة أشكاله اضحت خيارات جماهيرية ممهورة بدماء الشهداء وانين المصابين ودعوات المفقودين والمختفين قسريا والنازحين بحثا عن الأمان واللاجئين في بلاد الغربة ودول المهجر فرارا من القتل والمصير المجهول والمستقبل المظلم لا يمكن التراجع عنها او المساومة فيها ولا يحق لهذه القوي السياسية وشركائها من حركات مسلحة ان تتفاوض مع العسكر بمعزل عن استصحاب رؤية هذه القوى الثورية فهي ليست نائبة عنها ولا تمثلها اصالة ونعلم ان ضميرها و واجبها الوطني يحسانها ويحتمان عليها البحث عن حلول فيجب أن تكون ناجعة تتوافق مع مطلوبات الانتقال السليم للتحول المدني الديمقراطي .
ولتعلم هذه القوى انه رغم اقرارنا بنضالاتها وان قواعدها الجماهيرية جزءا لا يتجزأ من هذا الجيل النضالي فإننا نرى أنه ليس من حقها ان تساوم او تتنازل عن مطلوبات الشارع الثوري وقواه الحية وهي تعلم قبل غيرها عن حقيقة رغبته في التغيير وحجم التضحيات التي قدمها كما تعلم ان الأدوار التي قامت بها في هذه الثورة لم تكن كافية لإسقاط النظام بدون تضحيات هذا الجيل وصموده ففي احسن الاحوال كانت ستحسن من شروط العبودية والاستبداد لكنها لن تسقطه فهو نظام شمولي متدثر بثوب الإسلام ويرفع راية الجهاد في وجه كل من يخالفه الرأي ويعتمد علي العاطفة الدينية في الحشد والتعبئة والاستنفار .
فلم يكن بمقدور هذه القوى السياسية (مدنيين وحملة السلاح) التي جربت كافة أشكال التصعيد ضده لوحدها ان تفلح في إسقاطه كيف لا؟ وبعضها قبل بالمشاركة في السلطة وأخرى كانت تتأهب لخوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ٢٠٢٠م مثله تماما تحت سلطان قوانينه المعيبة والمقيدة للحريات وقد زعموا ان هذا النظام لا يمكن إسقاطه لا علي المدي القريب او البعيد والحل في حواره كرها كمن يجبر علي تناول دواء لا يستسيغه ان يغلق أنفه ثم يقبل عليه بما عرف بمشروع الهبوط الناعم .
لكن هذه القوى السياسية ذات الذاكرة الخربة والاحساس المتبلد فجأة انتبهت الي ان الشارع قد بدأ يخطو خطوات جادة في اتجاه إسقاط النظام فقد ظهرت كثير من التنظيمات الشبابية في العالم الافتراضي والتي ترى أعمالها في الأرض دون ان تستطيع الاجهزة الامنية الوصول اليها او للمؤثرين فيها وكانت هذه القوي السياسية الحزبية كثيرا ما تنكر صلتها بهذه الاحتجاجات الثورية و بهؤلاء الشباب الذين وصفوا من قبل النظام المندحر بأنهم مخربين وشذاذ آفاق وعملاء مخابرات في كثير من الهبات العفوية التي وقعت وكان شباب هذا الجيل من ورائها لكن كانت القوي السياسية تتبرأ منهم وقد ظهر هذا في تصريحات قياداتهم العليا وهي محفوظة بطرفنا وبيانات واجهاتهم الحزبية موثقة فمنهم من قال انها … ومنهم من قال ان المعطيات والمؤشرات والدلالات تقول ان هذا النظام باقي وان حراك المواكب لن يسقطه ولكن كان للشارع رأي اخر وفعل مؤثر قهر سطوة الطغاة واربك حساباتهم وجعلهم يتقهقرون ثم يسقطون بالثورة السلمية التي امتازت بعنفوانها وقوة تيارها الجسور الطاغي الذي هزم كل جبروتهم بصموده وبسالته وجعلهم يستسلمون ويتحفظون علي رأس النظام .
ثورة ديسمبر المجيدة لم تأتي من عدم فهي امتداد طبيعي لنضالات شعبنا وخروجه المستمر الرافض للاستبداد منذ فجر اكتوبر ١٩٦٤م وفي عهد الانقاذ تحرك حتي الشرفاء داخل الجيش لتخليص وطنهم من قبضة الشمولية الإسلامية المستبدة تمثل ذلك في ثورة الخلاص الوطني التي قادها الضباط الأحرار وكان ثمنها إزهاق أرواحهم الطاهرة بالقتل والدفن احياء وانتفاضة طلاب الجامعات وقد علت موجات الحراك الثوري المتصاعد ضد سلطة البشير المتجبرة الظالمة الفاسدة الحالمة بالبقاء الأبدي فكانت ثورة ٢٣سبتمبر ٢٠١٣م  التي اجهضت بعدما قدمت خلال أسبوع واحد اكثر من خمسمائة شهيد ومئات الجرحى والمصابين واستمرت لشهور لكن القوي السياسية نشطت وتحركت بسرعة لا لنصرتها ولكن لاحتوائها ومعرفة الفاعلين فيها والصانعين لحراكها العفوي العنيف ورغم إصدار البيانات المؤيدة لها والرافضة لقمعها واستخدام القوة المفرطة ضدها الا ان القرار الحزبي السري لبعض القوي السياسية كان التخلي عنها والانسحاب منها .
ثورة سبتمبر وجب ان نذكر انها كانت ثورة شبابية خالصة من موجات الثورة السودانية واجهتها الاجهزة الامنية بقوة قاهرة قاتلة فكنا نسير في الطرقات وزخات الرصاص ينهمر وابلها علينا والموت يحفنا من كل جانب وعناصر الجستابو والنازييين الجدد تصطاد في أرواحنا كأنها تريد ان تثأر من القدر الذي دعانا للخروج والثورة ضد هؤلاء السفاحين الحاكمين باسم الله والله منهم براء .
تكونت التنسيقية العليا للثورة تحت إشراف الأجهزة الأمنية وعقدت عدة اجتماعات اوصلتنا للمعتقلات وهكذا قتلت ثورة شعب واجهضت إرادة امة لكننا لم نتوقف ومضينا في طريق النضال ثم اعلنا العصيان المدني في العام ٢٠١٦م وتبعه العام ٢٠١٧م وفي بداية العام ٢٠١٨م بدات بعض القوي السياسية تقتنع بالشارع و تدرك جدوى حراكه وسيرت مواكب في مطلع يناير٢٠١٨م تم اعتقال بعض من قياداتها  والتقينا بهم في المعتقلات وكان رأينا واضحا ان لا خيار أمامنا الا ان يسقط هذا النظام فاستمراره يشكل خطورة علي وحدة البلاد ومستقبلها خصوصا بعد صفقة فصل الجنوب مقابل النجاة من محكمة الجنايات الدولية وقلنا لن يسقط الا بوحدتنا والمواجهة المستمرة والا تفاوض معه تحت اي ظرف وهكذا تولدت إرادة سياسية جديدة لقوى الثورة ترجمها شعار تجمع المهنيين السودانيين (تسقط بس) وكان من ثمراتها ظهور تحالف قوى الحرية والتغيير الذي تصدع بعد إنجاز التغيير ولم يصمد متحدا حتي ينجز مهام الانتقال .
واليوم الساحة السياسية تضج بالمبادرات بعد إنقلاب الفريق البرهان في٢٥ اكتوبر قاطعاً الطريق أمام التحول المدني الديمقراطي .
القوي السياسية والثورية المقاومة للإنقلاب متفقة علي ضرورة الانتقال السليم للتحول المدني الديمقراطي وصولاً لدولة القانون والدستور ولكن هنالك اختلاف جوهرى حول الوسائل الأنسب لذلك فالقوي الثورية وتمثلها لجان المقاومة في التنسيقيات والمركزيات والاجسام المهنية والمطلبية ومنظمات المجتمع المدني ترى ان الطريق الأمثل هو إسقاط الإنقلاب واستلام السلطة ومحاكمة ومحاسبة الانقلابيين ومن تعاون معهم وانسحاب الجيش للثكنات بصورة نهائية وحل قوات الدعم السريع وايلولة شركات الجيش لوزارة المالية واخضاع سلام جوبا لمراجعات قانونية ودستورية لنضع الأساس السليم للسلام مع الإستمرار في تفكيك بنية نظام٣٠ يونيو وتحقيق العدالة والعدالة الانتقالية وتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائيه الدولية يشاطرها في ذلك الحزب الشيوعي السوداني وحلفائه في تحالف التغيير الجذري وبعض من القوي الاخري وهؤلاء رؤيتهم تتفق مع أهداف ومبادئ ثورة ديسمبر المجيدة .
ورغم ان الحرية والتغيير  لا تختلف معهم في الأهداف الكلية للثورة الا أنها اختارت طريق التفاوض عبر ما أسمته العملية السياسية والتي ترعاها الآليات الثلاثية والرباعية الا ان طريق التسوية يواجه تحديات كبيرة بعدما تبنت الوساطة فلسفة لا إقصاء لأحد وتواصلت مع كل المكونات السياسية بما فيهم أحزاب كانت مشاركة في اخر حكومة للنظام المباد وعلي رأسهم الحزب الاتحادي الأصل والمؤتمر الشعبي وغيرهم .
وعليه من حقنا أن نسأل هل يفلح تيار التسوية في الاستجابة لتطلعات الجماهير؟ وقبل ذلك هل يستطيع الوصول لتفاهمات مرضية حول مجمل القضايا بشكل قاطع وهي كيف نحقق العدالة بحيث ننتصر لمبدأ لا افلات من العقاب؟ وما هي العدالة الانتقالية؟ وهل من نموذج يقتدي به لتطبيقها؟ كيف نحدث الإصلاح الأمني والعسكري ونخضع القوات المسلحة للسيطرة المدنية؟ كيف نقنع المتمترسين خلف سلام السودان بمنبر جوبا بضرورة فتحه و مراجعته لنضع اساس سليم لسلام شامل عادل ومستدام؟ ما هي الإجراءات السليمة والعادلة التي ينبغي القيام بها في عملية تفكيك بنية النظام المباد؟ .
واخيرا حتى تأتي قوي التسوية بما يقنع قوي الثورة مستجيبا لتطلعات الجماهير فإن الشارع الثوري وقواه الحية ملتزمون بالاءات الثلات (لا شرعية لا تفاوض ولا شراكة) ومستمرون في حراكهم ولن يتوقفوا حتي يسقطوا سلطة الانقلاب ويقيموا دولة المواطنة الدولة المدنية الديمقراطية علي أسس الحرية والعدل والسلام .

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..