عِلل الاتفاقيات والمواثيق الدستورية ، في نصوصها أم في موقعيها؟

إبراهيم سليمان
ابتداءً من اتفاق مؤتمر المائدة المستدير الموقع في جوبا 1965م ، وليس انتهاءً باتفاق جوبا للسلام الموقع بذات المدنية عام 2020م ، خلال 55 عاماً ، التاريخ شاهد على توقيع ما تجاوز الأربعين اتفاقية سلام على وجه الخصوص ، ناهيك عن اتفاقيات الصلح الموقعة بين القبائل السودانية ، بغرض فض المواجهات المسلّحة بينها. يضاف إلى هذا العدد ، الوثائق الدستورية الموقعة بين الحكومات والمعارضة المدنية ، على شاكلة الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية الموقعة عام 2019م.
التاريخ يشهد كذلك على أنّ كافة هذه الاتفاقيات والوثائق الدستورية ، تم الالتفاف عليها، ولم تنّفذ نصوصها حرفيا ، بما في ذلك اتفاقية نيفاشا ، رغم تنفيذ جوهرها المتمثل في فصل الجنوب. فأين مكمن الخلل ، في هذا الكم الهائل من الوثائق ، في نصوصها أم في الموقعين عليها؟ دعونا نحاول سبر أغوار هذه الإشكالية ،بغية العظة والاعتبار من الماضي التليد والقريب ، لتفادي تكرار ما يمكن تفاديها في حاضرنا الماثل ، سيما وأنّ هنالك وثائق أخرى، قد أينعت وحان وقت التوقيع عليها.
• يلاحظ أنّ الطرف الحكومي ، غالباً ما يوقع على الوثائق مع الثوار المسلحين والمعارضة المدنية ، وهو مرغم مرحليا ، لذا نجده يبّيت نية النكوص عنها ، ويضمر الانقلاب على ما يوقع عليه ، إي افتقار حسن النوايا ، من أحد الأطراف على الأقل.
• يلاحظ أنّ نصوص الكثير من هذه الوثائق والاتفاقيات ، فضفاضة وغير مُحكمة الصياغ، مما يسّهل تأويلها من كل طرف على حسب هواه ، الأمر الذي يغري الالتفاف حولها.
• حسب مناهجنا الدراسية ، لا نهتم كثيرا بضبط أحرف النصوص ، سيما حركات الأحرف الأخيرة ، وغالباً ما نلجأ إلى قاعدة “سّكن تسلم” السهلة. وجدت مقارنة منهجية للمفكر الراحل أبو القاسم حاج حمد، بين منهجيّ الفرنكفونية والأنجلوفونية ، ويقول فيها أنّ الأولى أكثر ضبطا وإبداعا ، مقارنة بالجنوح إلى التقليد في الأخيرة ، مستشهدا بتميز الزعيم إسماعيل الأزهري ، والأديب معاوية محمد نور خريجي الجامعة الأمريكية بيروت على رفاقهم خريجي كلية غردون التذكارية.
• يرجع الدكتور النور حمد ، “السبهللية” السياسية ، إلى غلبة العقل الرعوي على الحضري في السودان ، حيث يقول فيما معناه ، أن الرعاة في البوادي ، يتعاملون مع فضاء مفتوح ، يتحاشون الدخول في الأُطر الزمانية والمكانية.
• خلال الكثير من المحادثات الشائكة ، تؤجل القضايا الخلافية إلى اللحظات الأخيرة، نتيجة الضغط الزمني، وضغط الرأي العام المتابع للمحادثات ، لذا تتم “كلفتتها”، حدث ذلك لملف منطقة أبيي الحدودية بين الشمال والجنوب ، في محادثات نيفاشا ، وتكرر ذلك بالنسبة لتركيبة عضوية المجلس السيادي ، وكيفية رئاسته خلال مفاوضات الوثيقة الدستورية الانتقالية عام 2019م.
• يبدو لنا أنّ المفاوض السياسي السوداني ، قصير النفس ، يفتقر إلى مهارة “التشطيب” بشكلٍ عام ، وينقصه المقدرة على وضع اللمسات الأخيرة ، في التفاوض ، كما في سائر مناحي الحياة العامة.
• بعض الاتفاقيات والمواثيق ، اتضحت فيما بعد أن لها بنود سرية ، مخفية عن أعين الشعب ، شكلت متفجرات ناسفة لها ، كاتفاقي نيفاشا وجوبا للسلام آخر الاتفاقيات الموقعة ، هذه الظاهرة المفتقرة للشفافية والنزاهة ، أفقد الشعب السوداني ، الثقة في الحكومات والتنظيمات السياسية على السواء ، سيما ، ما تسمى بالحركات المسلّحة.
• من مسببات عدم صمود الاتفاقيات والمواثيق الدستورية ، عدم وجود أجهزة تشريعية ورقابية فعّالة ، ومستقلة عن الجهاز الحكومي، ولا غرابة في ذلك ، إذ يلاحظ أنّ الغالبية العظمى من هذه الوثائق ، وقعت في عهود الأنظمة الشمولية ، ومعظمها لا تعرض للأجهزة التشريعية ، ناهيك عن الاستعداد لمراقبتها. وبعضها أجيزت بالإجماع السكوتي المعيب ، مما يدل على شكلية هذه الأجهزة.
• في معظم الأحيان ، خلال تنفيذ هذه الاتفاقيات والوثائق، تشّكل المحكمة الدستورية غيابا تاما ، ناهيك عن تسيس الجهاز القضائي ، وبالتالي تنعدم المرجعية ، للاحتكام إليها ، عند التباس تفسير النصوص الواردة.
• هناك اتفاقيات تبدو كيدية ، لشق حزب ، أو فصيل ثوري ، أو لإضعاف كيانات المعارضة السياسية ، (اتفاق نداء الوطن مع حزب الأمة بجيبوتي 99 ، والمصالحة الوطنية الموقعة ببورتسوان 77 كأمثلة) ، وبالتالي تلقائيا يتجاوز الزمن مضامين مثل هذه الاتفاقيات.
• بعض الأطراف الموقعة ، تعول كلياً على الضامن الدولي والرقيب الإقليمي ، وكما هو معلوم ، المتغطي بالمجتمع الدولي عريان ، هذه الأطراف ، ليست لديها ما تفعلها بصورة مؤثرة ، إذا ما تعّنت أحد الأطراف الموقعة ، سيما إن كان الجانب الحكومي صاحب النفوذ الفعلي على الأرض ، وبعضها تجدها أول من تبارك ضمنيا الخروقات ، إن لم تحّرض عليها ، والضغط الدولي الوحيد، كان حول تنفيذ مضمون اتفاق نيفاشا ، المتمثل في انفصال الجنوب.
• الكل يعلم أنّ الطرف الأقوى من الموقعين على هذه الوثائق، هو دائماً من يلتف حول نصوصها ، مع سبق الإصرار والترّصد ، وهو الجانب الحكومي بالطبع ، ليجد الطرف الأضعف أنه لا حيلة ، ولا حول ولا قوة له ، لذا أحياناً يضطر للتظاهر بالتحلي بالمرونة ، والانحناء للتعدي الحكومي على نصوص الاتفاقيات الموقعة معها ، وأحياناً تضطر المعارضة للعودة لركوب الصعب ، كما في اتفاقيتي أديس أبابا 72 وأبوجا الثانية 2006م. وهذا يمثل العلة الرئيسية في هذه الظاهرة السياسية.
• وما لم تكسب القوى السياسية لجان المقاومة إلى صفها ، وما لم تحافظ هذه اللجان على تماسكها، فإن العسكر سينقلبون مرة أخرى على التسوية المقبلة لا محالة، مستغلين كالعادة عدم تكافؤ القوى على أرض الواقع ، سيما في وجود فلول مناوئة لأية تسوية تخرجها من المعادلة السياسية ، ومتربصة بالثورة.
من يستكين لحلق شعرة في مفرق رأس أي اتفاق سياسي ، بالتأكيد لن يحرك ساكنا ، إن حُلق الشعر كله ، والانتهازي الخنوع ، يقول لنفسه “الصلعة” موضة وصحة! لذا لابد أن تقود الفترة الانتقالية الثانية ، عناصر ثورية صلبة ، ليست على استعداد للتنازل عن “شولة” وردت في نصوص الوثيقة القادمة.