لا تكن مثل آل البوربون…

مهدي رابح
التحول المدني الديمقراطي هو حزمة عمليات طويلة المدى تتفاوت ما بين عقد وربما عقدين من الزمان، متداخلة ومتكاملة بطبيعتها وبالغة التعقيد ليس فقط لأسباب ذاتية بل لأنها تتم في سياق من توازن القوى المادية على الأرض غير مستقر وفي حراك دائم، وهذا ليس استنتاجا اعتباطيا او إلهاما روحاني بل هو استنتاج مبنى على إرث من تجارب التحول الديمقراطي الفاشلة والناجحة التي حدثت خلال العقود الثلاث الماضية في العالم ضمن متلازمة سقوط قطع الدومينو للمنظومات الديكتاتورية الشيوعية وغيرها والتي ابتدرت بحائط برلين 1989م وانهيار الاتحاد السوفيتي، لكن ما يهمنا هنا، في هذه اللحظة التاريخية، والتي ستشهد بداية محاولة جديدة لانجاحه عبر حل سياسي سيوقع اتفاقه الإطاري بعد سويعات قلائل، ما يهمنا هو تحديد العناصر المشتركة في كل تلك التجارب الناجحة والتي استطاعت نقل البلدان المعنية من حالة الاستبداد او الحرب او كليهما معا، الى حالة من الاستقرار السياسي والنجاح الاقتصادي والسلم الاجتماعي تحت مظلة نظام حكم ديمقراطي يتم فيه التبادل السلمي للسلطة خضوعا لشكل التفويض الذي تقرره المواطنات والمواطنين في صناديق الاقتراع:
اولا التدرج، فالتغيير المفاجئ عبر العمل المسلح او حتى السلمي لا يعطي فرصة لعملية استبدال المؤسسات القديمة بالجديدة لان تتم بصورة سليمة، واعني بذلك الرسمية كل ما يتعلق بإدارة الدولة والديمقراطية اي التي تدير العملية السياسية، وهو ما يؤدي بالضرورة الى استبدال نظام ديكتاتوري بآخر والحفاظ على البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون تغيير عميق يذكر.
ثانيا، الاستيعابية الكلية inclusivity ، وهو ما يعني ضرورة ان يعبر من يقودون الأنتقال عن كتلة سياسية واجتماعية كبيرة/ حرجة من المجتمع المدني بمعناه الواسع وان تكون هذه الكتلة متماسكة الى حد كبير.
ثالثا: ان يتوافر الحد الأدنى من الاستقرار السياسي بمعني وقف الحرب ومظاهر العنف والتوتر الاجتماعي الأخرى وهذا يتطلب إنفاذ العدالة بجانب شروط أخرى عديدة تخاطب جذور اسباب هذه الحروب و النزاعات.
رابعا: كفاءة ادارة الدولة من قبل من يتم اختيارهم في الفترة التي تسبق الانتخابات الأولى (الانتقالية) كما الحكومات المفوضة عبر الإنتخابات التي تليها وهي كفاءة ترتبط بمعطيات ذاتية لكن الأهم هو انها ترتبط بمعطيات موضوعية ايضا تتمثل في كفاءة جهاز الدولة وهو ما يتطلب اصلاحا مؤسسيا عميقا وشاملا.
خامسا: بناء الأحزاب السياسية وتطوير العملية السياسية عبر ضبط نشاطها تشريعيا ودعمها لتتطور، ويماثله في الأهمية تأسيس الكيانات المستقلة المعنية بتصميم وإدارة الانتخابات وصناعة الدستور.
سادسا: خروج المنظومة الامنية والعسكرية من النشاط السياسي والاقتصادي واصلاحها واعادة صياغة علاقتها بالسلطة والثروة والمجتمع وخضوعها بذلك للسلطة السياسية المدنية.
سابعا: السيطرة على التوقعات، بمعني وضع أصحاب المصلحة امام الحقائق كما هي دون مواربة وعلى راسها الصعوبات المتوقعة والطبيعة البطيئة للتغيير وانعكاس ذلك على واقعهم بالضرورة وثانيا ترسيخ مفهوم ان هذا التغيير هو مسؤولية الجميع وهو ما يتطلب انفتاحا وتفاعلا دائما لقيادات عملية الأنتقال مع التزامهم الصارم بالشفافية وتجنب الخطاب الديماغوجي.
ثامنا: النجاح الاقتصادي وهو في حالتنا الخاصة عملية اشبه بتحريك الجبال وان لم تكن مستحيلة، لكنها تتطلب إجراءات تقشفية ومحاربة للفساد وإصلاحات للخلل البنيوي الذي يحقق استقرار للاقتصاد الكلي قبل الأنتقال الى المرحلة التالية، اي مرحلة اقتصاديات الدولة التنموية.
تاسعا: الحفاظ على درجة عالية من دعم المجتمع الإقليمي والدولي وهذا بالطبع يعتمد على كيفية تصميم وتنفيذ سياسات خارجية حصيفة ومتوازنة كما على بناء الثقة في قدرة القيادات الحالية العبور بالبلاد الى مرافئ الاستقرار والنجاح.
من نافلة القول ان الاتفاق الإطاري وما يتبعه من خطوات، لا يمكن أن ينجح دون الحفاظ على درجة عالية من من الفعل الثوري والسلمي المستمر على الأرض، فدون وجود الجماهير في الشارع والتي تطالب بالحد الأعلى من تحقيق شعارات ثورة ديسمبر، لكنه ايضا فعل يجب أن يوجه بكل وضوح الى القوي التي تعمل ضد التحول وليس رفقاء في الصف الواحد، فأختلافنا في اختيار الأدوات والوسائل لا يعني اختلاف الأهداف، بل العكس، فإن تنوع الوسائل والأدوات يزيد من قدرة الصف الديمقراطي على انجاح التحول المنشود.
اما توجيه الطاقة الثورية ضد الرفاق فهو ما ينتظره المعسكر الشمولي بعسكرتاريته، وانتهازييه واسلامويية لاضعاف الصف المدني الديمقراطي وتشظيه اعدادا للانقضاض عليه مجددا وقطع الطريق امام الأنتقال الذي يهدد مصالحهم الضيقة، والدفع بالبلاد لمزيد من الأزمات بل لتهديد استقرارها وربما وجودها كذلك.
لا تكرر تجربة الفترة الانتقالية السابقة، لا تطعن الرفاق في الظهر بل قدم لهم بديلا ان امكن…
لا تكن مثل آل البوربون، لم ينسوا شيئا ولم يتعلموا شيئا.
الديمقراطي
مقال ممتاز ويعبر عن وعى عال