
2 ديسمبر 2022م الذكرى السنوية الأولى لرحيل الكابلي عاشق وطن الجمال (2)
“إن الكابلي يحبه أهل السودان لأنه عاد بهم غائصاً في عمق التراث الشعبي والقومي .. تراث بنونة وشغبة وبت مسيمس ، ولم يقدم ذلك مغنياً وكفى ، بل قدم المحاضرة تلو المحاضرة ، والندوة تلو الأخرى في دُور الثقافة والمنتديات محلياً وعربياً وأجنبياً” .
الأديب والسفير الراحل عبدالهادي الصديق
في الحلقة السابقة تحدثنا عن الدور التثقيفي الكبير الذي لعبه الكابلي في حياتنا وذلك من خلال اغنياته واناشيده التي اتحفنا بها طوال مسيرته الفنية، فمثلا قصيدة “اسيا وافريقيا” التي كتبها الشاعر الراحل تاج السر الحسن هى بالإضافة لكونها قطعة أدبية رفيعة فهي محاضرة قيمة في الجغرافيا والسياسة ! اذ انها تنقلنا الى غابات كينيا وبلاد الملايو الصين ومدينة باندونج في ماليزيا والتي عقد فيها المؤتمر الشهير في 24 ابريل 1955م الذي يحمل اسمها وتأتى أهمية هذا المؤتمر من وجود زعماء وقادة من العيار الثقيل وقتها مثل تيتو رئيس يوغسلافيا وعبد الناصر رئيس مصر ونهرو زعيم الهند وإسماعيل الأزهري واحمد سوكارنو الإندونيسي وكان المؤتمر بمثابة اعلان ولادة حركة عدم الانحياز العالمية المناوئة للاستعمار العالمي ، فمن كان غير الكابلي يفتح اعيننا ويلفت انتباهنا لمثل هذه الأمور؟ .
وواحدة من الصفات العديدة التي أطلقت على الكابلي ووصف بها الى جانب الفنان الشاعر والاديب المثقف هي صفة الباحث والباعث للتراث الغنائي السوداني ! وفي مقابلة مع جريدة الشرق الأوسط قال الكابلي “إن “نشأته من جذورٍ لعائلة أبيه التي تعود إلى مدينة كابل الأفغانية ، ومن جذورٍ تعود إلى جبل مرة في دارفور لعائلة أمه” .إن جينات والدته تنحدر من فرع من قبيلة الفور وهم (الكنجارة) ، وأنه وُلِد في الشرق ، وعاش ردحاً من الزمان في الشمال ، ثم انتقل الى العاصمة ، ويرى أن هذا المزيج منحه الفرصة للاهتمام بالتراث السوداني ، ومحاولة تمثيله في مشروعه الفني الذي تجاوز نصف قرن ونيفاً . وللكابلي نظرة متقدمة جدا وفهم عميق لدور التراث الشعبي في حياتنا ففي محاضرة له القاها في النادي العائلي في مايو 2012م ذكر فيها ان التراث يستمد أهميته من التجربة ، لذا علينا أن نهتم بالتراث ونحمل الجوانب المضيئة منه ونترك ما لا ينفعنا فهنالك بعض العادات والتقاليد لا نحتاج لها , والتراث يكبر بقدر تعمقنا فيه ، وأبان أن اهتمامه بالتراث كقيمة في حياتنا بدأ في العام 1960م , وأضاف في أول محاضرة لي مع الشباب عن التراث قلت لهم يجب أن نتكاتف لكي نضع نسبة لقيمة التراث في حياتنا, وأن التراث والتجربة التي نستقيدها منه نسقطها على الحاضر ليصبح بمقدورنا رؤية واستشراف المستقبل ، ويتوجب على صناع القرار أن يكونوا على المام بكل تراث بلادهم ؛ حتى لا يقعوا في الخطأ ؛ لأن قضية التراث كبيرة وليست بتلك السهولة التي يتخيلها البعض . ويرجع الفضل للكابلي في إزاحة الغبار والتراب عن بعض أغاني التراث وتقديمها لنا بثوب عصري جديد ويجدر ذكره بان المطربين وقتها كانوا يتحرجون من أداء تلك الأغاني ولا ينظرون اليها بكثير من الجدية والاحترام ولهذا فان ولوج الكابلي الى هذا المجال كان يعتبر ضربا من ضروب المغامرة والخروج عن المألوف، وقد تلقى الناس هذه الأغاني بالأعجاب والتقدير بل وراحوا يتساءلون والدهشة تتملكهم “هل فعلا كان اسلافنا واجدادنا يغنون مثل هذا الغناء ويبدعون بمثل هذا الابداع؟” ومن اشهر تلك الأغاني نجد ماهو الفافنوس ” و ” خال فاطمة ” و ” الموز روى ” و ” لويعة الفرسان ” و ” الحسن صاقعة النجم ” و ” الشيخ سيرو وحليل موسيي وغيرها من روائع التراث لهذه الاغانى دور كبير في تمجيد وتعظيم القيم السمحة التي يعتز بها السودانيون في كل مكان وزمان مثل الشجاعة والكرم والشهامة والمروءة وتتميز هذه الاغانى بتعدد الروايات عن اصلها والمناسبات التي قيلت فيها بل وحتى صاحبها ! وهذا معتاد وطبيعى في نقل التراث او الفولكلور كما تعلمنا من استاذنا محمد المهدى بشرى ، ومن بين اشهر تلك الأغاني هي ” خال فاطمة” والتي تكثر الروايات حول اصلها ولكن يتفق اغلب المهتمين بالتراث بان هذه القصيدة انشدتها الشاعرة ام كلثوم محمد عبدالرازق في بارا كردفان وتغنى بها الفنان الشعبي “ود نوبة” منذ زمن طويل في مدينة بارا والقصيدة تتغنى وتمدح شجاعة الفارس نقد الله ود عمر الركابى الذى تم تكليفه بتوصيل النساء من احدى القرى الى مدينة بارا في أواخر أيام الحكم التركى وقبل قيام التورة المهدية بقليل وكانت تكمن صعوبة هذه المهمة في ان الطريق ملئ باللصوص وقطاع الطرق الخطرين سافكى الدماء الذيل لا تأخذهم رحمة او شفقة على ضحاياهم وقد قام نقدالله بهذه المهمة وافلح في إيصال النساء الى بارا بسلام وامان وتقول القصيدة : :
سام الروح سبلا وأنا أخوي جبل الضرى
سيد أم رطين ما ضل
فارس الألف نقد الله
يسلم لي خال فاطنة ليهن بلالي البدرج العاطلة
اب كريق في اللجج
سدر حبس الفجج
عاشميق حبل الوجج
أنا أبوي مقدام الحجج
يسلم لي خال فاطنة ليهن بلالي البدرج العاطلة
ياخريف الرتوع
أب شقه قمر السبوع
فوق بيتو بسند الجوع ياقشاش الدموع
يسلم لي خال فاطنة ليهن بلالي البدرج العاطلة
وتزداد الدهشة والاعجاب بالكابلي لجمعه النقيضين والاحتفاء بهما واجادة الغناء بهما وهما (العامية السودانية القديمة والتي تمتلئ بالمفردات التي يجد الجيل الحالي صعوبة في فهمها و اللغة العربية الفصحى المسبوكة ذات الاوزان والقوافي والقواعد الصلبة للنحو العربي) فبالإضافة لتلحينه وغنائه لعيون الشعر العربي القديم والحديث مثل “نالت على يدها” و “كللي يا سحب تيجان الربا” و”اراك عصى الدمع” و “شذى زهر ولا زهر” , نجده ومنذ بداية ولوجه عالم الفن والغناء في أوائل الستينيات من القرن الماضي يقوم بغناء قصيدة “ضنين الوعد” والتي كتبت بالعربية الفصحى بواسطة الشاعر الجهبذ الراحل صديق مدثر , والتي يقول مطلعها :
يا ضنين الوعد أهديتك حبي
من فؤاد يبعث الحب نديا
ان يكن حسنك مجهول المدى
فخيال الشعر يرتاد الثريا
هذه الاغنية وبالرغم من صياغتها باللغة العربية الفصحى الا ان الكابلي قد أفلح في وضع لحن لها جعلها مرغوبة ومطلوبة من الجمهور وبهذه المناسبة فقد كان الكابلي ملحن من طراز رفيع تتميز الحانة بالرقة والبساطة والبعد عن التعقيد ! وهنالك طرفة تحكى عن هذا الموضوع فقد كان وردى الذى كان “طالع في الكفر” كما يقولون في رحلة فنية في اثيوبيا عندما اطلق الكابلي ضنين الوعد , ويقال بان وردى من اثيوبيا هاتف احد أصدقائه في السودان وسأله عن الأحوال فقال له الصديق : نحن بخير ولكن ظهر فنان يغنى اغنية اسمها ضنين الوعد قد اثارت اعجاب الجميع وقبض بها صاحبها الجو و (الكلام دة ليك يا المنطط عينيك) وقالوا بعدها اسرع وردى عائدا الى الخرطوم يريد ان يرى من هو ذلك الفنان الذى يريد مزاحمته على القمة , وكان وردى بطبعه يحب المنافسة ويقبل التحدي الذى يفجر داخله شلالات الابداع والابتكار ! وعندها ذهب وردى الى الشاعر صديق مدثر وطلب منه كتابة اغنية بالعربية الفصحى على نسق ضنين الوعد ، فكتب له الشاعر اغنية “الحبيب العائد” والتي برغم جماها الا انها لم تجد الترحيب والاحتفاء الذي وجدته ضنين الوعد . وبعدها توطدت الصداقة بين العملاقين وردى وكابلي وكان التنافس بينهما يصب في مصلحة الفن السوداني ، وبرغم هذا التنافس الا ان كلا الرجلين كانا يقدران بعضهما البعض وفى هذا الصدد فقد قال الكابلي في تأبين وردى كلمات كالدرر :
“إن الفنان الراحل محمد وردى ظاهرة من الظواهر المحتشدة بالفن والأبداع ، واستطاع أن يجسد الحضارة النوبية عبر القرون من خلال تناوله لفنونها وإبداعها ، إن علاقتي بالراحل وردى هي علاقة إعجاب متبادل ، انتهى
والان هل عرقتم عظمة هذا الرجل في تواضعه وفداحة الفقد الذي فقدناه برحيله؟؟
كنجاره يا كنجاره