مقالات وآراء

تجفيف منابع العنف لخلق جيل إنساني

حسن عبد الرضي

يتداول الناشطون على وسائط التواصل الاجتماعي مقطع فديو به مشاهد قاسية صادمة للعنف ، يصعب على نفس إنسانية سوية أن تنسب تلك المشاهد لمعلم يمارس الإذلال بتلك الصورة البشاعة ، التي تجسّدت في الضرب بالكرسي ممن ينتظر منه إشاعة المحبة والسلام والطمأنينة في فصل دراسي لبناة المستقبل.

يقيني أن من يمارسون العنف ، هم، أنفسهم ، ضحايا للعنف الذي خلّفته مناهج تعليم عقيمة ، وضعتها وصاغتها أنظمة استبدادية ، ركزت جهودها لبناء مجتمعات خانعة مدجنة ، عبر مؤسسات تعليمية صممت، خصيصاً ، للقهر والسيطرة ، بكافة الوسائل الممكنة وغير الممكنة ، ودونكم تجربة نظام (الإنقاذ!!) . ومناهجه البغيضة ، التي فرّخت (دفاع شعبي!!) ، وكتائب ومليشيات سيئة الذكر دوّنت أحلك صفحات سوداء في تاريخنا..

لا أعتقد أن هناك عذراً لتلك الهمجية التي عادت بالإنسان إلى أزمان سحيقة وأوصلته عهد الغابة ، حيث الحيوانات ذات الناب ، والجوارح ذات المخلب. قام في ذهني أن هذا التردي الأخلاقي ما هو إلا نتاج مناهج فارغة ، ارتبطت فيها صورة المعلمين الذين يحملون العصي ، وخراطيم المياه يجبرون أطفالنا الأبرياء على الاستلقاء ، أرضاً ، إهانة ، ليجلدوا أمام زملائهم ، بعد أن تنالهم عبارات التوبيخ والألفاظ المؤذية في مواضيع نكتشف ، بعد مضي الوقت ، أنها تافهة لا تستحق (قومة النفس) تلك ، ولشديد الأسف ، لم تجد تلك الممارسات المؤلمة للعنف ، أدنى استنكار من أحد ، بل كانت وما زالت تقابل بالإشادة والتشجيع، حتى استمرأها المعلمون ، وأصبحوا يطربون لمقولة (ليكم اللحم ولينا العضم) ، بلا مبرر يشفع لهم بذلك . ولا أخفي استهجاني لهذه الظاهرة المقيتة ، التي قتلت صنوفاً من الإبداع في نفوس أجيال من نجباء هذا البلد المنكوب . ولذلك ، فلا بدّ لنا من أن نبحث عن حلٍّ ناجع يكتب نهاية هذه المأساة التي طال أمدها ، إذ لا سبيل لتشكيل وعي نقدي ، وخلق كفاءات علمية وفكرية ، في منظومة تحكمها فلسفة القمع والترهيب والعنف. حيث يمنع العنف أي محاولة للنقاش ، والخوض في المسائل الفكرية أو السياسية أو الدينية أو الاجتماعية. وغالباً ما تتمخض نقاشاتنا (العنيفة) عن سلوكيات عدوانية ، نشاهدها في تصرفات تشمئذ منها النفوس ، وتأباها الفطرة السليمة. وكل ذلك نتاج مناهج تلقّن للتلاميذ من دون مناقشة، ونتاج مخرجات تصميم دراسي يفتقر لأدوات بناء واستثمار وتحليل المعرفة ، مما رسّخ حالة من القهر وانحسار الشخصية وتعنيفها ، في جو من الرعب ، لا فكاك لنا منه إلا بوضع خطط للتربية والتعليم ضد العنف ، خطط تسقط العقوبة البدنية ، كشرط لازم وضروري ، لمنع الاستبداد ، وإنهاء العنف . ونبذ ثقافة العنف وتجفيف مصادره يتطلبان وضع مناهج لا تخدم حزباً سياسياً ، ولا تهمّش طرفاً، ولا تمجّد زعيماً ، بل لا بدّ من أن تكون مناهج قائمة على التحليل والتركيب والنقد وإعمال العقل ، بعيدة عن التسيس والتدجين والتلقين، مما يوجب العمل على بناء مؤسسات للتربية والتعليم ، بما فيها المدارس والمناهج وتدريب المعلمين ، لخلق بيئة آمنة خالية من ثقافة العنف ، تسمح بحرية التعبير دون خشية من الانتقام . ولن يتم ذلك من دون ثورة ونهضة في مجال المنظومة التربوية والتعليمية ، للقضاء على كل أشكال الاستبداد والتهميش والعنف ، إذ لا حرية ولا سلام ولا عدالة إلا إذا أصلحنا أنظمتنا التعليمية المترهلة ، والتي تنتج متعلمين بعقليات افتراسية ارتزاقية استغلالية ، ظللنا فيها ، جميعنا ، فريسة للعنف ، ولقمة سائغة لمضاعفاته . وإصلاح أنظمتنا التعليمية يبدأ ببناء إنسان ليس مرتزقاً ، ولا مستهلكاً ، عندها ، فقط ، نستطيع أن نحلم بمستقبل مشرق لبلادنا. والعنف ليس بالجسد ، ولا بالسلاح ، وإنما يكمن في الفكرة وفي الكلمة . فإهمالنا تنشئة الطالب على القِيَم والمبادئ التي تحضّ على التراحم والتكافل والتعاضد ، وإغاثة الملهوف ، والتنفيس عن المكروب ، لا يخلق مواطناً صالحاً . ولا خير في تعليم يكرّس فكرة التنافس المحموم على الدنيا وزخرفها ، ويجعل من المتعاطين بالثقافة والفكر أناساً غير مؤثّرين اجتماعياً في ما يخصّ السعي نحو الحرية والسلام والعدالة.

تجفيف منابع العنف في مناهجنا الدراسية والتعليمية ، يجعلنا مجتمعاً يسوده السلام، وتظلله الطمأنينة ، ويبسط الأمن والأمان سلطانه عليه. فلا ينبغي أن نربي أجيالنا على التبعية المهينة لجلّاديهم وناهبي ثرواتهم ، بل فلنشحذ من هممهم ، وندفعهم إلى مقاومة كل منظومة تميّع الحق والخير والجمال ، وتجعل البلاد أسيرة لأقلية أنانية مستأثرة. ولنجعل مناهجنا أكثر إنسانية، لنخلق من خريجينا نماذج تعكس ثقافتنا وهويتنا ، وتوظفهم لمواكبة هذا العالم المتغير ، وتفتح لنا أبواباً للتعاون ، ونطورها لتساعد خريجينا ليكونوا قادرين على أن يتفهموا حالة مواطنيهم ، ويعينوا على تطوير حياة الريف ، حتى يكون تعليمنا تعليماً أصيلاً ، ويكون خريجونا إنسانيين يسعون لإسعاد قومهم ، ولإسعاد البشرية جمعاء.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..