مقالات وآراء

أوقفوا هذا العبث يا شباب !

محمد التجاني عمر قش

من تبينا ما طالعنا في فارغات

حاشا وكلا ما نقطنا في قـونات
ما خُنا الرفيق ما أدبينا للجارات
ولا تربعنا بين سراتنا للونسات

(الشاعر عبد الرحمن يوسف)

استشرت في مجتمعنا السوداني ، في الآونة الأخيرة ، ظاهرة عرفت بالنقطة ، وهي وضع النقود على جبين المغنية أو المحتفى به في الحفلات الخاصة مثل الأعراس . ومع أن هذه الظاهرة أو سمها العادة إن شئت ، معروفة لدى الشعب السوداني منذ القدم ، وإن كانت تعبير عن الفرح والسرور والطرب ، إلا إنها اقد تحولت إلى أحدى مظاهر الترف أو بالأحرى البطر بالنعمة . فهنالك شباب متهور يتفنن في كيفية النقطة وبمبالغ كبيرة تكفي لتكون رأس مال لمؤسسة بأكملها ، وليس هذا فحسب ، بل إن بعضهم يرمي بمفتاح سيارته على المغنية ويحلف “بالطلاق” إلا يعود إليه . وبهذا الشكل فإن النقطة لم تعد تعبيراً عن الطرب ، بل هي ضرب من الجنوح ، إذا جاز التعبير ؛ نظرا لما يصاحبها من زهو وتفاخر وعبط ملحوظ ، وإحساس بالعظمة يبلغ حد الخروج عن المألوف.

هذه الظاهرة ترتبط بعدة عوامل اجتماعية واقتصادية برزت إلى حيز الوجود نتيجة لما طرأ على المجتمع من تغيرات أو طفرات غير متوقعة بسبب الكسب السريع الذي يعود في المقام الأول إلى ممارسة التعدين الأهلي ، وما أرتبط به من نشوء علاقات بين مجموعات من الشباب يميلون إلى ما يعتقدون أنه إكرام لمن يتزوج منهم فيغدقون الأموال على القونات ، خاصة في المجتمعات الريفية ، حيث أصبح كثير من الشباب وحتى اليافعين يمتلكون أموالاً لم تكن في حسبانهم سابقاً. وبما أن هذه الفئة العمرية من الناس لا تقدر قيمة المال ولا تحسن التصرف فيه ، فقد طفقوا يصرفونه بهذه الطريقة المستهجنة ، بلا وازع ديني أو أخلاقي.  يضاف إلى ذلك ما طرأ من سبل أخرى للكسب السريع، منها على سبيل المثال لا الحصر ، الإتجار بالبشر وتجارة المخدرات وتهريب البضائع وربما الارتزاق في بعض دول الجوار التي تشهد أحوالاً سياسية مضطربة. هذه السبل تدر ثروات طائلة على أناس لم يألفوا الثراء ، وليس لديهم مانع في صرف تلك الأموال فيما يخيل إليهم أنه يساعدهم على تحقيق الذات وإظهار النعمة بحيث يوجدون لأنفسهم مكانة في محيطهم المحلي ، وما علموا أن ذلك نوع من التهور الممقوت. وقد انتشرت في وسائط التواصل الاجتماعي فيديوهات كثيرة تروج لهذه الظاهرة السالبة والطارئة في أوساط كثير من الشباب الطائش دون أن يتصدى لها أحد لا شعبياً ولا رسمياً ، والله المستعان.

ومن جانب آخر ، ترتبط هذه الظاهرة بظهور ما يعرف بالقونات ، وهذا مصطلح دارج يعني فئة من المغنيات اللائي يرددن أغنيات هابطة من حيث المحتوى والموسيقي والأداء ، ولكنها تدغدغ مشاعر الشباب ، لما يصاحبها من صخب ونداءات تكررها المغنيات ، مع ما يقمن به من حركات مبتذلة في غالب الأحيان ، يقصدن بها إغراء الشباب بعيداً عن الطرب والفن الأصيل. ولكن العاقل من الشباب لا ينجرف ولا يستسيق مثل هذا الغناء ولا يقر ظاهرة النقطة، كما قال الشاعر “حاشا وكلا ما نقطنا في قـونات”.

حكي لي أحد الشباب أنهم ذهبوا للتعاقد مع إحدى القونات لإقامة حفل زوج ، فسألهم مدير أعمالها إن كانوا من قبيلة كذا ، فأجابوه بأن نعم، فقال لهم : الأستاذة معطية تعليمات بألا أحدد لكم مبلغاً معينا ، فوافقوا على ذلك، وكانت النتيجة أن كسبت المغنية ثلاثة أضعاف أجرها المعتاد من الحفل ؛ فقد جاد عليها الشباب بالنقطة الدولارية وغير ذلك من العملات الأجنبية والمحلية !.

هذه الظاهرة تنطوي على جوانب تخالف الذوق العام وربما حتى القانون والنظام ، ومن ذلك أنها تعد امتهانا للعملة التي يدوسها الناس بأرجلهم بغير اكتراث لقيمتها المالية وحرمتها التي ينص عليها القانون ناهيك عن كونها نعمة ينبغي أن نحافظ عليها من الزوال والعبث. ولهذا السب فإن سكوت الجهات المعنية عن التصدي لها يعتبر جرماً أخلاقيا غير مقبول على الإطلاق . وهل يجوز السكوت على الباطل حتى يعم شره كل الناس ، ويفسد عليهم دينهم ودنياهم؟ ومن المسؤول عن مكافحة ظاهرة النقطة وتفشيها بين الشباب ، منظمات المجتمع المدني أم الجهات الرسمية ذات الصلة بالنظام العام ، أم أن المسؤولية مشتركة بين أكثر من جهة؟

ومن الملاحظ أن الظاهرة المذكورة لا ترتبط بمجتمع محدد، بل هي منتشرة وموجودة في المجتمعات الريفية وفي المدن على حد سواء ، وصارت كمظهر للتباهي والتفاخر بين مختلف فئات المجتمع ؛ خاصة مستجدي النعمة ، الذين ينقصهم الوعي بأهمية وقدسية الأموال والثروة ، فتراهم ينفقونها بهذه الطريقة بينما تجد أنهم يقصرون في الإنفاق حتى على من تلزمهم نفقته من الوالدين ، والزوجات والأبناء والأرحام والمحتاجين من عامة الناس.

في تقديري أن ظاهرة النقطة تحتاج إلى تكاتف وتضافر جهود عدة جهات على رأسها وسائل الإعلام التي ينبغي عليها تسليط الضوء على الجوانب السالبة والعواقب الوخيمة في المدى البعيد والقريب فيما يتعلق بالتصرف الطائش في النعم التي قد تزول ولات ساعة مندم.

 

‫3 تعليقات

  1. مجمل مظاهر التخلف بما فيها هذه الظاهره تنتهى فقط بانتهاء الجهل ونشر الوعى. التعليم حسب المناهج الحاليه لا يفضى لوعى. الحريصين على بقاء الجهل قاوموا مشروع القراى الذى كان يمثل البدايه. أهل المسرح والدراما لهم دور وخاصة بعد تكوين نقابتهم. كما أن شباب لجان المقاومه عليه دور تحريك العمل الثقافى فى الأحياء بما يقود نحو ثوره ثقافيه.

    1. اتفق مع تقريرك..كما ان ادارة الدولة لثروات البلاد مثل الذهب يجب ان يكون بيد الحكومة وليس بيد اللصوص والمهربين..يجب النظر الى الامور الاكثر تاثيرا ..تحياتي

  2. ظاهرة الاموال المجانية لدى الاحداث هى الاجدر بالتناول من ظاهرة النقطة التى تمثل راس جبل الجليد فقط.
    فمن اين توافرت لهم الاموال فى ظل المحرقة الاقتصادية السودانية ؟ وماهى مصادرها ؟!
    ومامدى تورط البنوك و مؤسسات الدولة الاسلامية ؟!
    حيث لا يخفى على احد بأن الثراء فى السودان لا يكون الا بضوء اخضر من حكوماته و بتدبير منها.
    قش – سيمتعض بلاشك من تناول الاسباب الحقيقية نسبة لميوله السياسية التى جعلته يهاجم الشباب العزل الذى يواجه بصدره المكشوف ماكينة القتل الممنهج المنسوبة لرصفائه .
    لذا اعتقد ان من المناسب له ان يتعلم منهم و من البشير و اهله هز الوسط الى الامام و الخلف تماما كما تفعل الكلاب فى موسم التزاوج.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..