السودان ومفترق الطرق

طاهر عمر
قيل أن الحكمة تقف في مفترق الطرق وأعالي الجبال وتنادي وكل ما أتمناه أن يستوعب أطراف الصراع في السودان أننا قد وصلنا القمة ولم يبقى غير سفوح الجبال لكي تكون أرض معركة حرب الكل ضد الكل ويسود منطق عنف الكل ضد الكل.
وللأسف كانت حقبة حكم الحركة الاسلامية ممارسة عنف الكل ضد الكل وحرب الكل ضد الكل لمدى زماني إمتد لثلاثة عقود وبما أننا لا نرجى تغيير غير التغيير الذي ينجزه الشعب لأننا في زمن تقدم الشعب وسقوط النخب كانت ثورة ديسمبر المجيدة ثورة شعب أراد الحياة وقد أزاحت فوضى الحركة الاسلامية بشعار الثورة العظيمة حرية سلام وعدالة وأزاحت الخواء الذي يعادي الحياة.
وقد حاولت الحركة الاسلامية توطيد جزوره أي الخواء في السودان ولكن إرادة الحياة أقوي وإرادة الشعب هي المنتصرة دوما على كل من يقف في طريق الحياة . لكن هذا الشعار قد أصبج معلق في الفراغ بسبب ندرة النخب التي تخرج من بينها عبقرية الأقلية الخلّاقة وقد رأينا تكالبهم على المحاصصة فيما يوضح أنهم على جهل عظيم بمفهوم السلطة كمفهوم حديث وكذلك مفهوم الدولة كمفهوم حديث وكانت النتيجة فوضى أفضت لقيام أفشل إنقلاب وهو إنقلاب البرهان الفاشل.
ما يشغل ضمير أحرار العالم كيف تستطيع نخب العالم الثالث إنجاز تحول هائل في المفاهيم فيما يتعلق بمسألة الحرية والسلطة والإزدهار المادي الذي يتجلى في تنمية إقتصادية تعكس نضوج فكرة الاقتصاد والمجتمع . والمراقب للساحة السودانية يدرك بسرعة أن النخب السودانية على مختلف أطيافها لم تقدم فكر يقارب مسألة السلطة كمفهوم حديث.
ولم يخطر ببالها أقرب الطرق لحل مسألة السلطة كمفهوم حديث ومسألة الحرية كقيمة القيم ولهذا وجب الاهتمام بالفرد لأنه يرنو للحرية على الدوام وبالتالي لا يكون تحقيق ذلك بغير إعمال العقل وترسيخ مسألة المساواة حتى يستطيع الفرد الحصول على ضمان مسالة المسؤولية الاجتماعية نحوه وبالتالي يتصرف في مناشطه وحقولها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بكل عقل ومع نزعته الأخلاقية.
جاءت ثورة ديسمبر المجيدة بشعارها العظيم كانجاز شعب أراد الحياة وإذا بالنخب الفاشلة تقف حائل ما بينه وتحقيق شعاره العظيم حرية سلام وعدالة . القارئ الحصيف يستطيع رؤية تكلس النخب السودانية وهي عاجزة ومشلولة وغير قادرة على إنزال شعار ثورة ديسمبر لأنها نخب تأخرت كثيرا عن ساحات الفكر وبالتالي تحاول مقاربة شعار الثورة بفكر أقل ما يقال عنه فكر من نخب تمثل عقل مجتمع تقليدي للغاية.
عندما نتحدث عن السلطة كمفهوم حديث لا يمكننا تجاهل ظاهرة المجتمع البشري وكيف قد أصبح الفرد وليس الطبقة هو الغاية لأن الفرد دالته الحرية وبالتالي عندما نتحدث عن السلطة يقفز الى العقل بعد إعماله صيرورة الديمقراطية وعندما نقول صيرورة الديمقراطية يتبادر الى الذهن أنها قد أصبحت بديلا للخطاب الديني ووحل الفكر الديني.
وهذا يدلنا على درب التاريخ الطبيعي للإنسانية التاريخية وحققه الفكر الليبرالي بشقيه السياسي والاقتصادي بسبب التطور الهائل في المفاهيم الذي أعقب الخمسة عقود التي أعقبت الثورة الصناعية وفي نفس الوقت تزامن مع إنفصال علم الاقتصاد من كل من الفلسفة والدين وقد أصبحت فكرة الاقتصاد والمجتمع نواتها هي المشاعر الاخلاقية.
والغريب منذ إنفصال علم الاقتصاد من كل من الفلسفة والدين قبل قرنيين و نصف ما زالت أحزابنا التقليدية أي الطائفية أي حزب الامام ومولانا الميرغني والسلفيين والحركة الاسلامية السودانية يعتقدون أن الاسلام دين ودولة ويريدون بهذا الفهم المتخلف للاقتصاد منافسة مجتمعات قد فصلت علم الاقتصاد من كل من الفلسفة والدين ولهذا السبب يندر أن تتحدث النخب السودانية عن فكرة الاقتصاد والمجتمع.
بل نجد من بينهم من يتحدث ويبحث عن دور للقبيلة في السياسة بل قدم كتاب عن دور القبيلة في السياسة وقد طاف على قبائل شرق السودان ظانا بأن طرحه للقبيلة ودورها في السياسة يجعله من حكماء السودان وخاصة قد قضى أربعة عقود في الحزب الشيوعي بنسخته المتكلسة وطرد وقد خرج بمستوى وعي متدني للغاية.
أريد تنبيه أتباع أحزاب الطائفية وأحزاب السلفيين والحركة الاسلامية السودانية أن خطابهم الديني يعكس بقايا ثقافات القرون الوسطى وأول علاماتها انها لا تؤمن بالعدالة لذلك نجد أن أتباع الحركة الاسلامية خلال الثلاثة عقود الظالمة لم يشغل ضميرهم أنهم كانوا ظالمين وفظين وغليظي القلوب لأنهم كانوا مخزن ثقافة القرون الوسطى التي لا ترى معنى العدالة.
ونقول للشعب السوداني طريقكم واحد لتذوق مفهوم العدالة وهو لا يبداء مساره قبل رفضكم للخطاب الديني بأشكاله سواء كان من الحركة الاسلامية السودانية أم من أحزاب الطائفية أم من السلفيين فهم لا يمثلون غير ظلال القرون الوسطى وأعرفوا بأن البشرية لم تفارق الفقر والجهل والمرض إلا بعد مفارقتها للخطاب الديني أي دين.
بمناسبة أن الفكر الديني يعتبر أكبر حاضنة لسلطة الأب وميراث التسلط فقد كرس عالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي منذ منتصف ستينيات القرن المنصرم كل جهود لكي يفتح طريق يفضي الى مقاربة مفهوم السلطة والحرية والإزدهار المادي الذي ينعكس في تقدم اقتصادي تظهر علاماته في إرتفاع مستوى المعيشة وكل هذا يكاد معدوم في ساحتنا السودانية وكله بسبب سيطرة الفكر الديني الذي يضحي بالحياة الجميلة من أجل خلاص أخروي وهو بقايا فكر القرون الوسطى.
ونقولها بالواضح سبهللية النخب السودانية وهي تتصارع أي جذريين وإطاريين دون الإلتفات الى خطورة تموضع المجتمع السوداني بأكمله على سفح حرب الكل ضد الكل سببه أن النخب السودانية أسيرة ثقافة سلطة الأب وميراث التسلط.
وهاهم أتباع المرشد أي الكيزان وأتباع الاستاذ الشيوعي يلتقون في هدف تعطيل مسيرة الشعب السوداني والإطاريين أسيري فكر الامام ومولانا تسيطر على عقلهم الحيرة والإستحالة والكل قد ضل وفسد والنتيجة أي تأخير لمسيرة التحول الديمقراطي في السودان في ظل عالم بأكمله يغادر ديناميكية النيوليبرالية ويسير بإتجاه الحماية الاقتصادية بكل حذر حتى في المجتمعات المتقدمة تدرك أن لحظة مغادرة النيوليبرالية بإتجاه الحماية الاقتصادية تحتاج للحكماء والفلاسفة من أبناء أي مجتمع.
أي تأخير سوف يدفع ثمنه الكل عندما تندلع حرب الكل ضد الكل ويصبح عنف الكل ضد الكل علامة حياة وحينها أول من سيدفع الثمن هم الجذريين والكيزان وبعدها سيكون حال حرب الكل ضد الكل صناعة نخب أبت أن تنتصر للحياة ورفضت أن تعطي مجتمعها أقلية خلاقة تفهم ما أوحاه لها الشعب في شعاره الجليل حرية سلام وعدالة.
وحينها ستكون الحرب حرب الكل ضد الكل وعنف الكل ضد الكل صناعة نخب سودانية فاشلة وليست أنفاس شعب سوداني مشهود له بأنه شعب عمر حضارته ستة ألف سنة.
أنظر لحال الساحة وأنظر كساد النخب . في مثل حال السودان الآن تقدم الشعوب خيرة ما عندها من مفكريين ومثقفين غير تقليديين ومؤرخيين غير تقليديين واقتصاديين وعلماء اجتماع الي أين انسحب مفكرينا وعلماء الاجتماع والفلاسفة والاقتصاديين والمؤرخيين غير التقليديين.
أنظر في جميع مواقع النخب أنه الصمت الذي يسبق عنف الكل ضد الكل صمت النخب وانسحابها من ساحات الفكر ومن يأتي ياتي بمكرور مقالات معادة كتبت في ستينيات القرن المنصرم ويختمها المؤرخ التقليدي بنكتة وكأننا لم نسير على سفوح تنحدر نحو عنف الكل ضد الكل وكما قلت هذه الحرب أي عنف الكل ضد الكل ليست أنفاس شعبنا السوداني المتحضر بل صناعة نخب عجزت أن تفدي شعبها وحينها أول الضحايا هم الجذريين والكيزان.
ذات يوم قال عالم الاجتماع العراقي علي الوري محذر الشعب العراقي بأن ما ينقذه من مأزقه هو الفكر الليبرالي وإذا فوّت الفرصة سيحتاج لسنين طويلة حتى يعيد توازنه.
وهذا حال الشعب السوداني الآن اذا فوّت فرصة التحول الديمقراطي بسبب عرقة الجذريين والكيزان فان حرب الكل ضد الكل في السودان ستطول كما تنباء عالم الاجتماع العراقي لشعبه وقد كان.
وهنا نقول للشعب السوداني انتبهوا للجذريين والكيزان فهم بوابة الجحيم التي ستدخلونها بسببهم وسيكونون بوابة عنف الكل ضد الكل وهم يجهلون انهم أول ضحاياها. الاجدى أن تتحد كل القوى السياسية من أجل إبعاد الجيش من ممارسة السلطة وبعدها سيكون طريق بناء دولة حديثة طريق طويل يحتاج لفكر جديد ولا تساعدنا ذاكرتنا القديمة على تفعيله لانه فكر غير مسبوق بعهد في ساحة الفكر السودانية.