مقالات وآراء

دار الريح … بوادر الشقاق وفرص الاستقرار ! (1)

محمد التجاني عمر قش

لقد كتبت عن دار الريح حتى بح قلمي ، بيد أن الحديث عن ديار الأهل ومراتع الصبا لا يمل. ولست بحاجة لتعريف دار الريح ، فهي تلك البقعة التي تقع في الطرف الشمالي من ولاية شمال كردفان . هذه المنطقة تضم قبائل متعايشة وبينها صلات ضاربة في القدم، وتحكمها أعراف ومواثيق ظلت مرعية منذ عقود ، الأمر الذي أسهم في استقرار المنطقة وتحركات أهلها ، وتبادل المصالح والمنافع والتواصل بينهم بكل يسر وسهولة ، وذلك بحكمة كبار المنطقة من العقلاء وزعماء الإدارة الأهلية من العظماء الراحلين الذين كانوا يمثلون أوتاد المجتمع والأرض على حد سواء ! وبعد أن رحل أولئك الرجال ، آل الأمر إلى بعض الأفندية والزعامات المستجدة ومن يسمون أنفسهم بالقيادات الجديدة من الذين لا يحسنون إدارة المجتمعات ، ولا يرعون الذمم والأعراف والمواثيق ، وتبدلت العلاقات واضطربت الأحوال وظهرت إلى حيز الوجود أحلاف وتحركات وحركات مسلحة دخيلة على المنطقة من شأنها نسف النسيج الاجتماعي في دار الريح.

ومما كتبت سابقاً عن دار الريح مقال جاء فيه ما نصه: “هذه المنطقة لا تحتمل الشحن القبلي الذي لا مبرر له ، فمن يريد ممارسة العمل السياسي في منطقة مثل دار الريح ينبغي عليه طرح برنامج واضح يعالج قضايا وطنية عامة ويطرح حلولاً لتلك المشكلات ، ويترك للناس حرية الاختيار ، لا أن يدغدغ مشاعر بعض الناس بمفاهيم لا تتفق وطبيعة العمل السياسي الراشد فليس كل من يستقطبون يدركون أساليب العمل السياسي ولا وسائله ، بل يندفعون وراء الشعارات؛ خاصة إذا جاءت عن طريق من يعتبرون قادة من ذوي المواقع المتقدمة”! ولكن يا للأسف الشديد ، تعرضت دار الريح في السنوات القليلة الماضية لتحركات مشؤومة قام بها بعض أبناء دار الريح من أجل فرض واقع جديد باستخدام السلاح والانتماء إلى بعض الجماعات المسلحة وإقامة معسكرات التدريب التي لم تعرفها دار الريح من قبل. وجراء ذلك حدثت مذابح بشعة تقشعر لها الأبدان وتشمئز منها القلوب وتأباها الفطرة السليمة ويستنكرها مجتمع دار الريح بأكمله ؛ لأنها ببساطة تتنافى وطبيعة الناس في هذه المنطقة التي عرفت بالاستقرار عبر الأزمان فيما عدا بعض الحوادث المعزولة والفردية التي لا يخلو منها مجتمع . ونشير هنا إلى حادثة دونكي الدويمة في جنوب حمرة الوز ، والأحداث المؤسفة بين كتول وبني جرار في منطقة تنة ، ولعل الحادثة الأبشع والأسوأ على الإطلاق هي ما جرى بين كتول ودار حامد في منقطة تفلنق وراح ضحيتها ما يقارب الأربعين من الأنفس من الطرفين! وكل ذلك ما هو إلا نتيجة للمستجدات التي طرأت على مجتمع دار الريح من دخول للحركات المسلحة وانتشار السلاح في أيدي السكان والثراء الطارئ عن طريق التعدين الأهلي وبروز توجهات مستهجنة ، وطموح بعض الأطراف في الاستحواذ على أراضي وموارد جيرانهم.

وفي هذا السياق كتب أحد أبناء دار الريح ، الأستاذ أحمد آدم سالم ، الخبير الإداري قائلاً: “إن ما يجمع بين قبائل دار الريح المختلفة أكبر وأعمق مما يفرق بينها ؛ فهي قبائل مسالمة ذات تراث وعادات وتقاليد وأعراف وسلوكيات متشابهة ، ولها تاريخ مشترك ضارب في القدم ، ويتشاركون جميعا في الخدمات الأساسية بالأسواق والمرافق التعليمة والصحية الشحيحة والعمل التجاري وموارد المياه ومناطق الزراعة والرعي وأخيرا تعدين الذهب. ونتج عن هذا التواصل والتمازج الاجتماعي بين هذه القبائل علاقات اجتماعية قوية أفرزت بعض الزيجات والمصاهرات فيما بينها كانت نتيجتها بنين وبنات مما عمّق الصلات الاجتماعية والرحمية وجعل التواصل الإجتماعي دائما ومستمرا ولازما بينهم. وخلال السنوات الأخيرة وللأسف الشديد ظهرت بعض التفلتات الأمنية والصراعات بين هذه القبائل المكونة لمجتمع دار الريح وراح نتيجة لذلك أنفسا زكية الأمر الذي اعتبره كثير من المراقبين محدثاً ودخيلا على منطقة دار الريح ونسبوه لمتغيرات جديدة طرأت بهذه المنطقة أهمها امتلاك الأسلحة والذخيرة بأنواعها المختلفة نتيجة لزيادة دخل الفرد ووجود بعض معسكرات التدريب وغياب السلطة لفرض هيبة الدولة في الآونة الأخيرة وتراخيها في القبض على مسببي الاختلالات الأمنية. وتحتاج منطقة دار الريح المستقرة أن تعيش في أمن واطمئنان كما كانت من قبل، وذلك لن يتحقق إذا لم تتضافر الجهود وتتكون القناعات القوية لخلق مجتمع آمن ومستقر بمنطقة دار الريح من جميع مكونات المنطقة وقبائلها. ويتطلب ذلك الدور الفاعل من قيادات المنطقة بالتحرك الجاد لحماية هذه المنطقة والابتعاد بها عن الصراعات القبلية والاختلالات الأمنية” .

وانطلاقاً من هذا الطرح الواعي ومساهمة في حماية مجتمع دار الريح من الاختراق الذي قد يسنف نسيجها الاجتماعي بدون مبرر كافي يبيح ذلك ، سوف نحاول من خلال هذه السلسلة من المقالات تقديم وطرح رؤية واقعية وقابلة للتنفيذ وبمشاركة الخبراء في مختلف المجالات الإدارية والأمنية والاجتماعية حتى لا يكون الطرح مسخاً مشوهاً ومجرد تهويمات لا تتفق مع الواقع .وفي ذات الوقت سوف نتناول مسببات الشقاق المحتمل وفرص الاستقرار المأمول بكل شفافية وحياد بحيث يكون الطرح بعيداً عن الأجندة الضيقة والخاصة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..