خربشة على جدار الهوية

الضَاوِى نَوَار
قصة قصيرة .. (حوتة)
زعم شيخنا طبيق فيما زعم ، أن لبنت الحان دربان ! درب يعلو و آخر يهبط ، فإذا رأيت القوم زاد لغوهم و كثر حديثهم فى الادب والسياسة وحتى الشجار فاعلم أن بنت الحان قد صعدت رؤوسهم ، أما إذا هبطت فلن تريهم غير ثدييها و ردفيها و حقوِها ! وهذه المدينة الساحرة يا عباد الله ، بجبالها وغيومها ووديانها ومطرها ، مثل بنت الحان ، يمضى سحرها ناحيتين ، إما أن يصعد للأعالى فيُبتلى المسحور بالأدب والشعر والطرب والإبداع أو يهبط السحر الى الاسفل فتثور الغرائز ويطغى الحنين .تلك هى مدينة الدلنج .
حوتة فتى أسمر اللون ، طويل القامة ، شديد العناية بهندامه وما زالت تتصارع فيه السنين ، ما بين الصبا والفحولة ! غير أن ثلاثة عشر عاماً فى هذه المدينة تقذف بك الى عالم الفحولة. المسكين لم يعرف ذلك ، فمنذ أن سقطت عيناه على فطين ، أصابه الأرق . فطين حلَّت بحيأقوز دون مقدمات ، ترك ابوها الجندية وإنتقل من الكجورية الى الدلنج ومثل كل العساكر ، بنى بيتاً مهيباً فيه اربع قطاطى وراكوبة وسياج من شوك الكداد لا تعدى من تحته العصافير ، لذلك سارت فطين فى الشارع مرفوعة الرأس ، تتدلى من أذنيها أقراط لها لمعة ، وشعرها لم يكن مجدولاً مثل بنات الحي بل كان مصفوفاً بعناية تتدلى منه أشرطة ذات ألوان ، وفوق ذلك فطين كانت ترتدى البلوزة والتنورة .. آه انا منك يا الخرطوم ، مال بناتك لسن كسائر بنات البشر !
فطين هذى أبوها كان يعمل بالخرطوم قبل ترك الجندية ، هذا ما قاله الناس ، لكن الناس لم تعرف ما فعلته فطين بقلب حوتة ، كلما رآها تراقص قلبه ، وتاه فى عوالم أخرى ، تودد إليها فصدته ، صعد إلى أعلى شجرة الصهب وأمسك بعصفور جميل أهداه لشقيقها الاصغر ، أعطاه الحلوي والتمر والنبق والقضيم ، حتى أنه أحضر له الباسطة من أمام السينما ، وبرغم كل ذلك لم يفلح فى التقرب منها ، لكن مهلاً ، فى حفل ختان شقيقها ، إختارها لرقصة الكِرنق ولم تمانع ، بل حتى أنها إبتسمت ، فأوسع الارض دقاً بقدميه فى رقص مجنون حتى أصابه الصداع ، وكان ذاك كل شئ .
مضى الخريف وتبعه الشتاء وأتى الصيف وفطين فى حالها خاصم كل من تقرب منه قاتَل كل من تودد إليها ، ماذا لو ترك الدراسة والتحق بالجندية هل ستقبل به فطين ؟ أصدقاؤه الثلاثة حملوا الهم معه ، حتى أتاه دمدوم بالحل ، الحل هو الفلَّاتى ، لا أحد غير الفلاتى سيلين قلب فطين ! الفلاتى يسكن فى حى الرديف ، لا يدرى أحد من أهل المدينة من أين أو متى جاء الى المدينة ، و لا أحد يدرى من هم أهله ، هكذا وجدوه بينهم ، يقرأ الحظ ، يعالج المرضى ، يكشف عن السارق ومكان المفقود. يعرفه العشاق وتلاميذ المدارس حين تقترب الإمتحانات وكذلك تعرفه النساء ، التى تطلقت من زوجها والتى لم تلد والتى تظهر فى افق حياتها أنثى أخرى منافسة أو ضرة ! تجده فى كل مكان ، نائماً فى كهف على قمة الجبل يصطاد زواحف الجبل ، أو فى صمة الخلاء يجمع جذور الاشجار ، وإذا بحثت عنه لن تجده ، منزله فى الرديف مسكون بالأسرار ، تنبعث منه الاصوات الغريبة ورائحة البخور ! .
لو لم يكن حوتة لكان أى واحد آخر منَّا ، دمدوم أو خرَّاشى أو حتى العمدة العاقل ! فطين أول ما أصابت فينا ، كانت براعم الخاصرة ، تهيجو تنهض وتأبى الرقاد فنتوارى خجلاً ، وليس تلك وحدها فقد أصابت منا القلوب فتلوَّعت ، وأصابت من الليالى والنوم والأحلام ، إذ لمنعد نحلم فى نومنا بالجوع وبالطعام ، او بمحاولة الهروب من لدغة ثعبان أو وقوع فى هاوية ، بل أصبحت أحلامنا عناق لفطين وغرق فى البلل ! حتى فى الاحلام كانت تمتنع ، بيد أن لا أحد يجرؤ أن يحكى حلمه أو ينطق باسمها أمام حوتة ! .
شرعنا نبحث عن الفلَّاتى ، بحثنا عنه فى كل مكان ، فى السوق ، أمام المركز ، ذهبنا الى بيته ، و لا أثر له ، وفطين تزداد أفاعيلها فينا ، حتى أتى يوم مشهود ، تعرفه كل المدينة يوم أن وُجد التوم ميتاً فى البئر ، وقيل أنه مات بفعل فاعل ! يومها كانت كل المدينة مجتمعة حول البئر ، نساء تبكى وتصرخ وتولول ورجال يتغالطون ، كان الفلَّاتى وسطهم ، آثر ذاك اليوم أن يقص الأثر ، أثر الجناة ، وللرجل فى قلوب الناس سِحر ومكانة ! .
إلتصقنا به ، وتحينّا الفرصة ، كان أشجعنا دمدوم ، أخبره بأن لنا غرضاً فيه ، تمنّع أول الأمر ثم رضى ، قال إسبقونى الى الكانتين وهو متجر الحى ، فانتظرناه حتى أتى ، قال أن بياضه و يعنى أجره ، عشرة قروش ، رباه كان ذاك سعر عنزة لبون ، وأنَا لنا بها ! . رجوناه وترجيناه حتى وافق على خمسة قروش وتلك سعر حذاء ! شرح له حوتة الأمر وطلب منه (عِرق المحبة). طلبنا أغضب الفلَّاتى ، كيف نطلب عرق المحبة ونحن جماعة ، قلنا ليس لنا وإنما لحوتة ، وافق أن يستمع له ، إنتحى به بعيداً عنَّا ،
شكى له حوتة عن فطين . كنا نشاهد من على البعد حوتة يحكى ويتصبب عرقاً والفلَّاتى يهز رأسه فى صمت ، ثم تحدث . حكى لنا حوتة أن الرجل يملك العلاج لكنه علاج غريب ! أنثى وطواط ، يا رباه ، صيد الوطواط هين لكن كيف نفرق بين ذكره وأنثاه ؟ قال نأتيه ببعض الوطاويط وهو أدرى ! ثم ماذا بعد ذلك ؟ قال أن لكل حادثة حديث .. بدأنا رحلة الصيد .. كانت الدنيا خريف وفى مثل ذاك الوقت تكثر الوطاويط قرب المحلج ! نختار أعلى الاشجار وأكثرها كثافة وظُلمة من أشجار المهوقنى والجميز ، مرة أخري كان بطلنا دمدوم ، قال أن ناحية المحلج فيها مرعى ليس مثله مرعى ، عيبه الوحيد كثرة المياه والوحل والطين ! .
سمح لنا الكبار بأن ترعى العجول فى تلك الناحية . عفواً نسيت أن أقول لكم كنا رعاة عجول فالبقر يرعاها الكبار . فى صباح اليوم التالى لم نتجه نحو الملاحية أو حجير الدليب بل إتجهنا ناحية المحلج ، كان المرعى وفيراً للعجول ، رعينا نحن العجول وذهب حوتة ودمدوم لصيد الوطاويط ، حوتة كان أعسر ، وكان حادقاً فى الصيد بالنِبْلة ، وشهد له البعض بأنه ذات مرة إصطاد عصفورين بحجر واحد ! كثيرون لم يصدقوا تلك الحكاية ! لم يمض غير نصف النهار حتى أتيانا بكومة من تلك الطيور ، والوطواط طير تعاف لمسه الاصابع وتأبى النظر الى وجهه العيون .. دعك من أن نبحث فيه لنعرف ذكره من أنثاه ، وإتفق الرأي يترك الأمر للرجل ، لم يكن بيته بمبعدة وعجولنا قد طاب لها بعد الشبع المقيل .
يقول حوتة أن ذاك كان يوم سعد ، فقد وجدا الرجل نائماً فأيقظاه. قام وتوضأ وصلى ثم طلب الغنيمة ونصف الأجر ، رص الوطاويط أمامه على سجادة الصلاة ، صار يتخيرها واحداً بعد الآخر ، ينظر الى الوطواط ، يقلّبه ، يشمه ، ينفخ فيه ، يخرج إلى ضوء الشمس فيعيد النظر و التقليب حتى إختار نصفها . فعل كل ذلك بصمت .. أشار لهما بأن خذا هذا ، فأتيا إلينا به ، قال أن تجفف ، ثم تُدق إلى دقيق وينثر دقيقها فوق بول فطين!.
كان حديثه الوحيد تحذير شديد اللهجة بأن لا يُعبث بها وأن لا تصل إلى بول المحارم. عدنا بغنيمتنا والدنيا لا تسعنا من الفرحة ، دمدوم كان مهموماً بشئ آخر ، كيف نجفف الوطواط ؟ لذلك إشترينا موس حلاقة وشقينا بطن الوطواط ، أبعدنا الإمعاء ، إلا أن أداء واجباتنا مثل حلب الابقار ، إدخال العجول للحظيرة جعل بعضاً من باقى تجهيز الوطواط يتم ليلاً . فى الليل قطعنا الوطواط لعدة قطع ، بعضها علقناه على شجرة الخروب وبعضها على سطح الراكوبة ! قضينا الليل نتفقد بقايا الوطواط ونحوم حول بيت فطين ، لم نرها تلك الليلة ، لكن حمل الليل إلينا صوتها تنادى أخاها وحمل الينا ضحكاتها ، أي والله سمعناها من بين كل اصحاب الدار ، فصوتها لم يكن ككل الاصوات ، كان صوتاً لا يصيب منا غير الطايوق والخاصرة و … القلب .
حوتة لم يعجبه الامر وأصبح شرساً وأميَل للشجار ، فعدنا نستسلم للنوم ونحلم بفطين .. آه يا فطين .. مضت الايام بطيئة ، بعض القطع إختفت لكن وجدنا بعضاً منها ، و قد جفت .. دفعنا الثمن غالياً شجاراً وعراكاً و قتالاً وحوتة مثل قط محبوس ، كان يخشى أن يغفله أحدنا ويفعلها من ورائه ، لذلك خبأ عنا الغنيمة .
لو كان لي أن أختار أحدنا لفطين لما إخترت غير العمدة ، ليس لأنه أوسمنا ، لكن لأن فطين إختارته فما تحدثت مع أحد غيره ولم تبتسم لغيره .. وصارت فطين أكثر مودة رقصنا معها الكِرنق ورقصت معنا المردوم ، فزادت فرحتنا حتى عاد حوتة ، كان قد ذهب لخالته فى حي آخر خلف الجبل وإبتعد عنا ..
كان سعيداً ومبتسماً ، جمع كل افراد الشلة ، أخرج منديلاً من الحرير ، بداخله صُرّة صغيرة كانت تحوي شيئا مثل البودرة إتسعت لرؤياها حدقات العيون ونبضت القلوب ، وإحتقنت منا زوائد الخاصرة حتى الوجع .. حوتة لم يترك أحداً يلمس المنديل ، الآن بقيت عليه المهمة الاصعب ، أين يجد بول فطين ؟
فى ذاك الزمن البعيد قليليون هم من يملكون بيوتاً أو مرحاض ، كانت الناس تتلمس العراء لأداء نداء الطبيعة وكان الخلاء ساتراً ومريحاً ، والمساحات خلف البيوت ليست إلا غابات ، تنمو فيها الحشائش الطويلة وشجيرات الطُمطُم واللعوت والقضيم ، وتزخر بوديان تتواجد فى بطنها رمال ناعمة وحجارة من كل حجم…
حوتة كان يعرف بالضبط أين تقضى فطيناه حاجتها ، تبعها بحيث لا تراه ، رآها تختفى وراء أَكِمَّة ، إنبطح على بطنه فى الخور ، حبس انفاسه ، طال الأمر ، رفع جسمه ورأسه ببطء وحذر ، لم ير شيئاً ، إنبطح ثانية ، فى المرة الثالثة رأي طرفاً منها وهي تسير ببطء عائدة الى البيت وتبدو عليها براءة من لم يفعل شيئاً مشيناً ، إنتظر حتى أتاه قفاها ، وجري الى حيث كانت ، كان يبحث عن الرغوة ، قالوا له بول الفتاة يترك حفرة على الرمل ورغوة ، بحث ميمنة وميسرة لم يجد أثراً ! أحس بالخجل ، رغبة الاستحواذ والتملك طغت على الخجل ، رأي آثار حذائها (الزيزى) على الأرض والحشائش ، تتبعها ، أخيراً وجد المكان ، تهلل وجهه بِشراً ، أعاد النظر ، لم يجد رغوة أو حفرة ، وجد شيئاً آخر وجد فضلات ، قاوم إحساساً حيوانياً بأن يبرك على ركبتيه و يشم المكان .. لا ، لا .. هذا جنون ! تذكر الحمير تشم الارض ثم تصدح بالنهيق ، أتاه شعور بأن يصيح فقط بأعلى صوته فقد نقلت إليه الريح ما أراد أن يشم ! أخرج الصُرَّة ، سكب منها مقدار نصفها على المكان وأعاد الباقى بعناية الى جيب الرداء ، إنحنى يجرى مقوس الظهر حتى إبتعد عن المكان ، وإستقام يمشى ببطء وهو يغالب رغبة طاغية أن يصيح بأعلى صوته ..
ظل الأمر معلقاً نتغالط فيه نحن ، هل فعلها حوتة ؟ قالوا نصبر حتى نرى ، حوتة أصبح كثير الابتسام …
كن الامر ليس حوتة ، بل فطين يبدو أنها إختارت ، أجل ، إختارت العمدة ، أما حوته فيبدو أنها بدأت تمقته ، لا لا حوتة لن يسكت ، أصبح يفتعل المشاكل مع العمدة وحتى أنه أوسعه مرة ضرباً لسبب تافه .
نادانا دمدوم وأحضر حوتة الذى بدا حائراً ومستسلماً ولا يدرى ماذا يفعل ! إتفق الرأي أن نعود للرجل فقد دفعنا له عشرة قروش ، وكالعادة خاب فألنا عدة مرات قبل أن نلقاه صدفة تحت شجرة الحراز الضخمة خلف السينما ، لم يبدو متحمساً للقائنا ، إبتعد بنا عن عيون الناس ، جلس على الارض وجلسنا أمامه ، كان يعبث بحبات مسبحته ويستمع.
طال الصمت وهو ينظر الى الافق البعيد ، أتاح لي ذلك أن أتأمل خلقته ، رجل صغير الجثة ، على أعتاب الستين ، على راسه عمامة فوق كوفية مكية ، وعلى كتفه غُترة حمراء ربما من اليمن أو الحجاز ، يلبس جلباباً أزرقاً متسخاً بعض الشئ ، وعلى قدميه نعل من جلد البقر ، كان يلوك شيئاً أحمر يصبغ أسنانه بنفس اللون أصابع يديه كأصابع عمال حفر الأرض .. سأل عن كل شئ ، كيف أعددنا الأمر ، وبدا أكثر حضوراً وهو يسأل حوتة تفاصيل إستخدامه لذلك الشئ ، حوتة كان محرجاً أن يقول أمامنا ، لكن الرجل كان ملحاحاً ! قال إن العمل سيكون أكثر نجاحاً لو أنه سُكِب على بول ما زال يرغى ! همس له حوتة بأنه حتى لم يجد البول بل وجد الآخر !!!.
إنتصب الرجل فى جلسته ، ظهر على وجهه رعب حقيقى ، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وقرأ آية تعنى أن السماء تنطبق على الأرض ، إذا واقع الرجل إمرأة من حيث نهانا الله ! وبكل ما يملك من قوة رفس حوتة على صدره رفسة ألقته على الأرض ، وهو يقول ، أخوكم هذا فاسق ..
جرينا أيدى سبأ ، وأنا أحاول أن الحق بالعمدة وقد تملكني ضحك مكتوم غاب معه نفسى..
نسيت أن أقول لكم أن القرط الذى يتلألأ على أذني فطين أهديته لها أنا ، فقد إشتريته بثلاثة قروش من دكان إبراهيم برعي ! .
وفي رواية أخرى يا دكتور يضاف إلى بدرة أبوالرقيع شطه ,,,,,, والفكي إسمو بيلو؟؟ ههههههاي.
ابداع