أخبار السودان

السودان وثمن الانقلاب: عسكر يبحثون عن مخرج ومدنيون مختلفون ولم يتغير الكثير منذ رحيل البشير

لا يزال السودان يدفع ثمن انقلاب العسكر في تشرين الأول/أكتوبر 2021 حيث أدى إلى شل الحياة السياسية في البلاد رغم محاولات قادة الجيش التحلل من تبعات الانقلاب وعقد اتفاقيات مع مكونات مدنية وإصدار الوعود بمنح المدنيين المسؤولية عن السلطة وعودة العسكر إلى ثكناتهم.
ويعرف العسكر الذين حصلوا على دعم قوى إقليمية في انقلابهم أن المجتمع الدولي وخاصة أمريكا لا تزال غير راضية عن التحرك الذي قام به الجنرال عبد الفتاح البرهان والجنرال محمد حمدان «حميدتي» دقلو وأدى إلى فرض عقوبات على السودان وتعليق أمريكا عددا من المساعدات التي بدأت بتقديمها مع بداية الشراكة المدنية-العسكرية.

ثمن الانقلاب

وفي تقرير لمجلة «إيكونوميست» (5/1/2023) قالت فيه إن ثمن الانقلاب على رجل عادي من مدينة القضارف، قرب الحدود مع إثيوبيا بدا من خلال زيادة أسعار الوقود بنسبة 300 في المئة وزادت رسوم المدرسة للأطفال نسبة 400 في المئة، وواجه المزارعون موسما سيئا بحيث باتوا يعانون من الدين. وتقول المجلة إن الاقتصاد السوداني عانى في العام الماضي من ركود، ربما أدى إلى هبوط في التضخم، لكنه لا يزال مرتفعا وفي مستوى الثلاث خانات، ما يجعل السودان الأعلى في العالم بالنسبة لمعدلات التضخم. وهناك ثلث السودانيين، أي حوالي 15 مليونا من 44 مليون نسمة بحاجة إلى الدعم الطارئ مثل المياه الصحية أو الطعام حسب تقارير الأمم المتحدة. بالإضافة إلى 12 مليون نسمة من الناس الجوعى.
ويعتبر شرق السودان، من الناحية النظرية، سلة غذاء البلاد، ما يعني أن الحال كان يجب أن يكون أحسن. لكن الإهمال الطويل للمنطقة من قبل الحكام المتعاقبين على الخرطوم ترك الكثير من الجراح على الشرق، وربما أدت الأزمة الأخيرة لفتح الجراح من جديد. صحيح أن زيادة الأسعار التي نجمت عن الغزو الروسي على أوكرانيا لم تساعد، إلا أن السبب الرئيسي لمصاعب السودان الاقتصادية والسياسية نابع من الانقلاب الثاني، والذي جاء بعد أقل من 3 أعوام على إطاحة المتظاهرين بنظام عمر حسن أحمد البشير الذي حكم السودان لمدة ثلاثة عقود. ووافق الجنرالات بقيادة عبد الفتاح البرهان بعد استمرار التظاهرات التي طالبت بتسليم السلطة للمدنيين، على مشاركة القوى المدنية بالحكم ووعدوا بعقد انتخابات في عام 2022 إلا أن الجنرالات بدأوا بتحميل المدنيين مسؤولية سوء إدارة الاقتصاد وعدم توفر الخدمات، في محاولة منهم لتجنب مصير البشير. وقادوا انقلابا في تشرين الأول/أكتوبر 2021 ورد المتظاهرون على الانقلاب بالخروج للشوارع، حيث أصبحت الاحتجاجات حالة شبه يومية، رفض فيها المكون المدني وخاصة لجان المقاومة الشعبية التحاور مع النظام الجديد ودعوا العسكر إلى تسليم السلطة. وكان الانقلاب العسكري بمثابة المحفز لانهيار الاقتصاد. ذلك أن المانحين الغربيين والبنوك حجبت عشرات الملايين من الدولارات التي تعهدت بها لإنقاذ السودان واقتصاده ودعم عملية التحول الديمقراطي. ولمواجهة المصاعب الاقتصادية ردت الحكومة بزيادة الضريبة وخفض النفقات العامة بشكل قاد إلى احتجاجات عامة. وقال فولكر بيرتس، الممثل الأممي الخاص في السودان «توقف الاقتصاد».

زاد الطين بلة

وتقول المجلة إن الانقلاب زاد من سوء الأوضاع المزمنة أصلا. وبدلا من ظهور نظام قوي، انتشرت الفوضى والجريمة. وفي الفترة ما بين كانون الثاني/يناير وتشرين الأول/أكتوبر الماضي أجبر أكثر من 265.000 شخص على النزوح من مساكنهم بسبب العنف. وقال تاجر في القضارف مشتكيا «الحكومة ضعيفة». وتظل منطقة دارفور من أكثر المناطق المتأثرة بالعنف، حيث قام مسلحو ميليشيات الجنجويد التي أصبح اسمها «قوات الدعم السريع» وبقيادة الرجل الثاني في النظام، حميدتي بعمليات قتل وتهجير في دارفور وكردفان. ولوحظ في الفترة الأخيرة زيادة في العنف بولاية النيل، بسبب النزاعات حول الأراضي والتمثيل السياسي. ولعل السبب الرئيسي وراء زيادة الفوضى هو فراغ السلطة في ولايات السودان الفقيرة والواقعة على الهامش، حسبما يقول وليد ماديبو، استاذ العلوم السياسية بالخرطوم. واستقال حوالي 11.000 رجل شرطة بسبب الرواتب المتدنية. وتم نقل الآخرين إلى العاصمة الخرطوم. وقال عباس بشير الأستاذ في القضارف «أي شخص يستطيع عمل ما يريد».

مشاكل في الأطراف

ويعتقد الكثيرون أن الساسة والجنرالات في الخرطوم يقفون وراء المشاكل، فلطالما حكموا الولايات البعيدة عبر شبكات من الأرستقراطيين والقادة التقليديين تعرف بالإدارات الأهلية والتي تعود إلى زمن الاستعمار البريطاني وعززها البشير أثناء حكمه لإحكام السيطرة. ولم يكن قادة الإدارات الأهلية راضين عن الإطاحة بالبشير ولهذا دعم بعضهم الانقلاب الأخير على أمل عودة النظام القديم. وقال بيرتس: «يحاول بعض هؤلاء القادة التقليديين لعب السياسة أو تم استخدامهم من السياسة في الخرطوم». ففي عام 2021 قام قادة البجا في الشرق بفرض حصار استمر ستة أسابيع على بورتسودان على البحر الأحمر، بشكل فاقم أزمة الطعام والوقود في العاصمة. وجاء تحركهم بعد أسبوع من الانقلاب، ورفع الحصار حيث تراجعت الأسعار. وفي الفترة الأخيرة حاول نائب رئيس الانقلاب عقد صفقات مع قادة في الشرق، فحميدتي القادم من دارفور يحاول الاستفادة من موقع الشرق الإستراتيجي، فالقضارف وكسلا ولايتان غنيتان بالزراعة والذهب. ولدى الشرق موانئ على البحر الأحمر جذبت روسيا وداعمي العسكر في الخليج. وفي العام الماضي قام حميدتي بجولة في المنطقة حيث وزع سيارات لاندكروزر على قادة القبائل مقابل حصوله على الولاء. ومنذ ذلك الوقت انقسم المجلس الأعلى للبجا، وهو الجهة المسؤولة عن حصار الميناء. واتهم بعضهم حميدتي بزرع الانقسام.

عودة المدنيين

وفي كانون الأول/ديسمبر اتفق القادة العسكريون والمدنيون على معاهدة جديدة تعد بسيطرة شاملة من المدنيين على الحكم وانتخابات في غضون عامين. ولو تم تطبيقه فإنه سيمنح السودان فترة من الراحة ويعيد الدعم الخارجي. ولقي الاتفاق الذي تم تجديد المباحثات فيه بداية الشهر الحالي على أمل جلب مكونات مدنية جديدة دعما من الدبلوماسيين الغربيين، فقد دعا السفير الأمريكي لدى السودان جون غودفري القوى السياسية التي لم تشارك في التوقيع على ما عُرف بـ «الاتفاق الإطاري» إلى الانضمام إليه، سعيا لإعادة السلطة الانتقالية لمسارها في البلاد. وقال غودفري -الذي تولى العام الماضي منصب أول سفير لواشنطن بالخرطوم منذ ما يقرب من 25 عاما- إنه ما زال أمام غير المشاركين في الاتفاق فرصة الانضمام للعملية السياسية. وأضاف في ختام الجولة الأولى من المحادثات حول المرحلة النهائية من العملية السياسية «نحن نتفهم أن هناك جهوداً مستمرة لإيجاد سبيل يشعر (المعارضون) من خلاله أن بإمكانهم الانضمام» إلى الاتفاق. وعبر غودفري عن آماله الكبيرة في المحادثات الجارية قائلا إنه «من الواضح جدا» أن الفصائل السودانية تعمل نحو هدف استعادة المرحلة الانتقالية في البلاد. وقال دبلوماسي غربي «لو نظرت إليه بطريقة موضوعية فهو اتفاق جيد». ومن جانبهم يشعر الجنرالات بالتفاؤل. وقال الجنرال إبراهيم جابر، الموكل بالسياسة الخارجية «لقد تم قبول الاتفاق حول العالم». إلا أن الاتفاق يفتح المجال أمام خطوط صدع خطيرة، فدعاة الديمقراطية يرون فيه شريان حياة للطغمة العسكرية، ولهذا تعهدوا بمواصلة الاحتجاجات حتى يخرج الجنرالات من الحكم. لكن المحتجين وجدوا أنفسهم في صحبة غير مريحة مع قادة مجموعات من المناطق البعيدة والذين دعموا الانقلاب، ومن بينهم جبريل إبراهيم، وزير المالية حاليا وميني ميناوي، حاكم دارفور. كما وعبروا عن عدم ارتياحهم من إعادة النظر في اتفاق آخر وقع في جوبا عام 2020 وجلب متمردي دارفور وجنوب السودان إلى العملية السياسية. كما ويقف ضد الانقلاب قادة القبائل من الشرق، مثل محمد الأمين ترك، رئيس المجلس الأعلى للبجا، فقد اعتبره غير إسلامي وأداة في يد القوى الأجنبية. وتقارب مع الإسلاميين المتذمرين من نظام البشير السابق. وهدد بمعارضة مسلحة إن لم يتم تنفيذ مطالبه والتي تضم مفاوضات منفصلة للشرق. وهي تهديدات فارغة لكن يجب عدم تجاهلها. ويعاني الشرق منذ سنين من الإهمال.

قضايا شائكة

ولا يزال السودان بدون رئيس وزراء مدني منذ استقالة عبد الله حمدوك بداية العام الماضي. والمحادثات جارية من أجل تعيين رئيس وزراء جديد إلا أن المسائل الشائكة لا تزال قائمة مثل تحقيق العدالة الانتقالية ومحاكمة جنرالات من المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والمسؤولين عن جريمة قتل معتصمين أمام القيادة العامة في 3 حزيران/يونيو 2019. ويقول جابر لمجلة «إيكونوميست» «نحن ملتزمون بالعدالة الانتقالية، والمشكلة في السودان اليوم هي إرضاء قطاع متنوع من الأطراف التي يحمل كل منها تظلماته الخاصة، سواء في الشرق أم الغرب، وكذا إقناع كل مكونات المجتمع المدني وقوى التغيير واللجان الشعبية بالتفاوض مع النظام الباحث عن مخرج لمأزقه السياسي الذي وجد نفسه فيه».
فلم تنجح محاولات القادة تحسين صورتهم أمام الرأي العام سواء في داخل السودان وخارجه.
وأشار موقع «ميدل إيست آي» (7/1/2023) لمحاولات حميدتي تلميع صورته، من اختياره كرجل العام المدافع عن حقوق الإنسان، مفارقة غير موفقة إلى فتح نوادي قوات الدعم السريع للعامة لمتابعة مباريات كأس العالم التي نظمت في دولة قطر. إلا أن الأماكن ظلت ساكنة بعدما طالبت الجماعات الداعمة للديمقراطية مقاطعة المحاولات التي جاءت لكسب الناس وحذرت الحكومة من التدخل في الرياضة. وجاء في التقرير أن مخيمات المشردين في دارفور، ضحايا النزاع المتهم حميدتي بلعب دور هام فيه، استقبلت اختيار زعيم الميليشيا السابق كمدافع عن حقوق الإنسان بعدم التصديق. ويقول الموقع إن مبادرة الكرة هي واحدة من المبادرات التي قامت بها قوات الدعم السريع، فقد افتتحت الميليشيات مدارس وعيادات في المناطق النائية، ودعمت مبادرات لتوفير المياه الصالحة للشرب ووفرت الإمدادات الطبية والمعدات للمجتمعات التي عانت من الفيضان واللقاحات ضد كوفيد-19 ومعدات أخرى ورعت مصالحات بين القبائل. ففي الوقت الذي قدمت بعض المبادرات إغاثة للمحتاجين إلا أن الصحافيين وقادة القبائل تحدثوا للموقع أنه عرض عليهم مبالغ طائلة لدعم والترويج لمبادرات قوات الدعم السريع، وقالوا إنهم رفضوا العروض. وعلى المستوى الخارجي حاول حميدتي تلميع صورته من خلال دعم الجهود الأوروبية لمكافحة الهجرة غير الشرعية، وأقام قاعدة «شيفروليه» في الصحراء بين ليبيا والسودان لملاحقة من يريدون المرور إلى أوروبا. وحث حميدتي، الدول الأوروبية الاعتراف بجهوده لمنع الهجرة غير الشرعية. ومن خلال عملية الخرطوم بين الدول الأوروبية والدول الأفريقية حصل السودان على أموال لتمويل بناء القدرات لمواجهة الهجرة. وتظهر حزمة التناقضات في المشهد السوداني إضافة إلى المعضلات الاقتصادية وكوارث البيئة والحروب في دول الجوار وخاصة الحرب في إقليم تيغراي بإثيوبيا أن السودان لم يتغير منذ سقوط البشير، فالجيش لا يزال في القمة والمدنيون يتناقشون فيما بينهم حول الديمقراطية وتحديد مسار السودان القادم. ولعل قابل الأيام يحمل أخبارا سارة للسودانيين في الأطراف والمركز من سياسات العسكر الذي تحكموا بالمسار السوداني منذ الاستقلال.

القدس العربي – ابراهيم درويش

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..